صوت نيويورك يتغير: انتخاب ممداني وميلاد وعي جديد حول فلسطين
يشهد المجتمع الأمريكي في السنوات الأخيرة تحوّلاً ملحوظاً في نظرته إلى القضية الفلسطينية، تحوّل لا يعتمد على الانفعال أو المواقف العاطفية، بل على إعادة تقييم أوسع لمفاهيم العدالة وحقوق الإنسان داخل المجال العام. هذا التحوّل لم يعد محصوراً في الجامعات أو منصات النقاش الاجتماعي، بل بدأ يظهر بوضوح في البنية السياسية المدنية، وكان أبرز تجلياته انتخاب Zohran Mamdani عمدةً لمدينة نيويورك عام 2025.
انكسار معادلة “انتقاد إسرائيل = معاداة السامية”
لوقت طويل، ظلّ الخطاب السياسي الأمريكي يتعامل مع أي انتقاد للسياسات الإسرائيلية بوصفه “تهديداً” أو “انحيازاً معادياً للسامية”. هذا الربط خلق حالة من المنع غير المعلن للنقاش، وحال دون مقاربة عادلة لحقوق الفلسطينيين.
لكن السنوات الأخيرة شهدت انكشافاً واسعاً للمشهد الفلسطيني عبر الإعلام الرقمي، وصعود أصوات شبابية تؤمن بأن العملات الأخلاقية لا يمكن أن تكون مزدوجة.
صار جزء متزايد من الرأي العام الأمريكي يفرّق بوضوح بين الدين اليهودي كهوية و السياسات الإسرائيلية كسلطة تمارس القوة.
دور التحولات الاجتماعية والحقوقية
تزامن هذا الوعي الجديد مع نمو حركات حقوقية داخل الولايات المتحدة، أبرزها حركة “حياة السود مهمة”، التي أعادت الاعتبار لمفاهيم المظلومية التاريخية والتمييز البنيوي.
هذه الحركات ساهمت في ظهور مقاربة تقارن بين تجارب الشعوب وتربط الواقع المحلي بالسياسات الخارجية.
وبذلك، لم تعد فلسطين تُقدَّم كقضية جغرافية بعيدة، بل كمرآة لاختبار القيم التي يرفعها المجتمع الأمريكي في خطابه الداخلي.
ممداني بوصفه مؤشراً لا سبباً
فوز Zohran Mamdani لا يمثل مجرد انتصار انتخابي، وإنما تعبيراً عن مزاج عام قيد التشكل.
ممداني لم يُخفِ موقفه الداعم لحقوق الفلسطينيين، ولم يلجأ إلى اللغة الملتبسة أو التبريرية. وعلى الرغم من حساسية الموقع السياسي في مدينة تُعد مركز المال والإعلام الأمريكي، جاء فوزه ليؤكد أن الناخب لم يعد يرى في الدفاع عن الفلسطينيين تهديداً أو خروجاً عن الإجماع.
هذا الفوز يشير إلى أن النقاش حول فلسطين عاد إلى موقعه الطبيعي داخل الخطاب السياسي، بدل أن يُترك على هامش محرّم أو مقيّد.
تأثيرات محتملة على السياسة الأمريكية
لا يعني هذا التحول تغيراً فورياً في سياسات واشنطن الخارجية، فموازين القوة داخل المؤسسات الفدرالية ما تزال معقّدة.
لكن الأهم هو أن شرعية الخطاب تغيّرت.
صار يمكن لسياسي أمريكي أن يتحدث عن فلسطين بوصفها قضية عدالة، لا مجرّد “ملف نزاع”.
وصار يمكن للناخب الأمريكي أن يصوّت لهذا الموقف من دون أن يُتهم أو يُشيطن.
اخيرا
إن انتخاب ممداني لا يمكن قراءته بمعزل عن التحولات الاجتماعية والفكرية التي تشهدها الولايات المتحدة. فهو ليس حدثاً منفرداً، بل حلقة في سلسلة تغيرات تتعلق بشكل النظر إلى العالم، وإلى مفهوم العدالة، وإلى علاقة القوة بالإنسان.
من المبكر القول إن السياسة الأمريكية ستتغير جذرياً في المدى القريب، لكن من الممكن الآن القول بثقة إن الوعي تغيّر.
ومتى تغيّر الوعي، تصبح السياسة مسألة وقت.