صناعة الأحذية في الخليل.. تراثٌ يخطّ العلاج بالتكافل ويقاوم الاندثار

في أحد المحال التجارية بمدينة الخليل، جلس فؤاد الأطرش (60 عاماً)، وفرحات الزغير (71 عاماً)، وبسام الزغير (68 عاماً)، ثلاثة من صُنّاع الزمن الجميل، جلسوا، يستعيدون ذاكرة مهنة لم تكن فقط مصدر رزق، بل كانت أيضاً وسيلة علاج وبوابة أمل للكثيرين من ذوي الإعاقة. تبادلوا الحديث عن زمن كانت فيه صناعة الأحذية اليدوية واحدة من أعمدة الاقتصاد المحلي، وملاذًا اجتماعيًا ونفسيًا لمن فقدوا بعض حواسهم أو قدراتهم الجسدية.

في ذلك المحل، كانت الجلود متراصة، وقوالب الأحذية مرصوفة بدقة، والخيوط والصمغ تنتظر يد الصانع الماهر ليحولها إلى حذاء ينبض بحياة الخبرة والحرفية. ويعيد التقدير لتاريخ عريق ينبض بالإنسانية والإبداع.

العمل كعلاج للنطق والسمع

يبتسم فؤاد وهو يستعيد تلك الأيام: “كانت ورشنا مفتوحة لكل محتاج. لم تكن مجرد مصدر رزق، بل مكاناً للعلاج… من يعاني ضعف السمع أو النطق كان يأتي إلينا، وبعد شهور من العمل، يتحسن حاله من التفاعل والاندماج، ويبدأ النطق أو التحسن في السمع تدريجيًا ضجيج الماكينات، والحركة اليومية، والتعامل مع الناس… كل ذلك كان علاجاً حقيقياً، بلا طبيب ولا وصفة”.

وأضاف: “كانت الورشة بيئة علاجية غير تقليدية، مليئة بالأصوات والضجيج والحديث الجماعي، الأمر الذي ساعد كثيرًا في تنشيط الحواس لدى البعض”.

فؤاد الأطرش صانع أحذية

العلاج بالصبر والعمل

من جانبه، أردف فرحات الزغير (71 عامًا) قائلًا: “أصبح بعض ذوي الإعاقة من أمهر الصناع. كانوا يتميزون بدقة مدهشة وصبر لا يضاهى. لم نكن نعاملهم كحالات خاصة، بل كأفراد متساوين في العطاء. المهنة احتضنتهم، وهم بدورهم أعادوا لها الروح”.

ويضيف، وقد لمعت عيناه “ذوو الإعاقة الذين جاؤوا إلينا، لم يكونوا عبئاً، بل أصبحوا معلمين ماهرين في الصنعة. تعلموا بدقة، وكانت أناملهم تنتج أفضل الأحذية. بعضهم كان يتفوق على المعلمين الأصحاء… كانوا ملتزمين أكثر، ومخلصين لمهنتهم لأنها كانت لهم نافذة للحياة والكرامة”.

فرحات الزغير، صانع أحذية وصاحب محل لتجارة الجلود

تراث يتنفس في كل بيت

بسام الزغير بدوره يوضح أن صناعة الأحذية في الخليل لم تكن مهنة طارئة، بل تراثاً موروثاً، ويقول: “في الخليل، كان كل بيت تقريباً يعرف صانع أحذية، أو يحتوي على ماكينة خياطة جلد، أو خزانة جلود. كنا نصدر للسوق المحلي والأسواق المحيطة، وكان هناك فخر حقيقي بكل زوج حذاء يُصنع يدوياً”.

ويضيف: “تُعتبر صناعة الأحذية من أقدم المهن في الخليل، حيث بدأت قبل أكثر من 100 عام، وازدهرت في السبعينات والثمانينات. كانت ورش العمل ممتلئة بالشباب المتدربين، وكانت الأسواق تعج بالمنتج المحلي. وامتزجت تلك المهنة بالعلاقات الاجتماعية، فكان الصناع يُعلّمون أبناء الجيران والأقارب، وينقلون الحرفة من جيل إلى جيل”.

بسام الزغير، صانع وتاجر أحذية

أمل بالعودة والنهضة

رغم التراجع الكبير في هذه الصناعة بفعل المنافسة الخارجية والمنتجات المستوردة، لا يزال فرحات وفؤاد وبسام، يعتقدون أن الأمل قائم، بشرط دعم الإنتاج المحلي وتشجيع المبادرات الشبابية، وربط المهنة بالتدريب المهني، وإعادة إحياء العلاقة بين المجتمع والصناعة.

فصناعة الأحذية في الخليل ليست مجرد مهنة عادية، بل هي جزء من تراث متجدد يمتد لأكثر من مئة عام. في كل حذاء يُصنع هنا، تنبض قصة صبر وإتقان، وتعكس ارتباط الأجيال بحرفة توارثوها بحب وفخر، لتبقى علامة مميزة على صمودهم وهويتهم

disqus comments here