كتب محمد فوزي إغبارية : الفكرة التي تخيف إسرائيل…
تبنّي مشروع الدولة الديمقراطية الواحدة هو انتقال من إدارة الصراع إلى تفكيك بنيته، ومن التسويات الهشة إلى مشروع تحرري يعيد تعريف العلاقة بين الناس على أساس شراكة كاملة في الحقوق والموارد والمستقبل.
تشهد القضية الفلسطينية اليوم تحوّلًا نوعيًا في طبيعة القراءات السياسية والخيالات المستقبلية، بعدما بات واضحًا أن حلّ الدولتين، الذي شغل الحيّز الأكبر من الخطاب الدولي منذ ثلاثة عقود، فقد قدرته على أن يكون إطارًا واقعيًا أو عادلًا للتسوية. فالمشهد على الأرض تغيّر جذريًا. توسّع استيطاني غير مسبوق، سياسات ضمّ زاحف، تقسيم شامل للفضاء الفلسطيني عبر الجدار والحواجز، ومشهد سياسي إسرائيلي ينزاح بالكامل نحو يمين ديني-قومي يرفض أصلًا الاعتراف بالحقوق الوطنية الفلسطينية. ومع هذا كلّه، استمرّ المجتمع الدولي في تكرار خطاب حلّ الدولتين كأنّه وصفة سحرية، بينما تحوّل على الأرض إلى مجرّد آلية لإدارة الصراع وتأجيل انفجاراته، دون أي مشروع جدي لإعادة توزيع القوة أو تفكيك البنى الاستعمارية القائمة منذ 1948.
إنّ فشل حلّ الدولتين لم يكن حادثًا طارئًا، بل نتيجة بنيوية لمسار سياسي صُمّم من البداية بحيث يؤجل القضايا الجوهرية ويستبقي السيطرة الإسرائيلية على الأرض والموارد. فالاستيطان تضاعف بعد أوسلو، لا قبلها، والاقتصاد الفلسطيني أصبح أكثر تبعية، لا أكثر استقلالًا، وغزة جرى فصلها بطريقة هندسية تخدم نموذج السيطرة الإسرائيلية التي تقسم الشعب الفلسطيني إلى كيانات مختلفة تحت أنظمة قهر متعددة. كما أن الرأي العام الإسرائيلي تحوّل من تصوّر مشروط لقيام دولة فلسطينية إلى رفض كامل لفكرة التقسيم، الأمر الذي جعل حلّ الدولتين عمليًا خارج الحياة السياسية الإسرائيلية ذاتها. أما بالنسبة للفاعلين الدوليين، فقد اختُزل دورهم في إدارة الأزمة بدل حلّها، وكأن بقاء الوضع الراهن هو أفضل الممكن.
أمام هذا الانسداد المركب، يبرز طرح الدولة الديمقراطية الواحدة على أرض فلسطين التاريخية، ليس بوصفه امتدادًا للواقع القائم، بل باعتباره مشروعًا سياسيًا جذريًا يسعى إلى تفكيك البنية الاستعمارية التي تأسست عليها دولة إسرائيل وإعادة بناء نظام سياسي واحد يقوم على المساواة الكاملة وحقوق الإنسان. الدولة الديمقراطية الواحدة ليست تطويرًا طبيعيًا للوضع القائم، وليست تكيفًا مع سياسات الأمر الواقع، بل هي نقيضه المباشر.
هذا الطرح يستعيد جوهر القضية بوصفها قضية تحرر من الاستعمار، وليس مجرد نزاع حدودي يُحلّ عبر رسم خطوط فاصلة. نحن أمام تصور يعيد تعريف فلسطين كوحدة سياسية ومجتمعية يجري إعادة تشكيلها على أساس المواطنة المتساوية والعدالة التاريخية، لا على أساس الامتيازات العرقية أو التفوق القومي.
إن التمييز بين “الدولة الواحدة الديمقراطية” وبين “الضم” أو “الحكم الذاتي الموسّع” الذي تطرحه الحكومات الإسرائيلية ضروري جدًا. فالضم مجرّد توسّع للسيطرة الاستعمارية تحت مسمى إداري، بينما الدولة الديمقراطية الواحدة هي تفكيك لهذه السيطرة وإعادة صياغة البنية القانونية والسياسية للبلاد. الخيار الأول يرسّخ الاضطهاد، والثاني ينهيه. وهذا التصور يتضمن إطارًا دستوريًا يضمن المساواة، ويحمي التعددية، ويعيد تشكيل العلاقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين خارج منطق التراتبية العرقية. هذه ليست “رومانسية سياسية”، بل مقاربة تملك جذورًا عملية تستند إلى تجارب تحرر عديدة انتقلت من أنظمة فصل وهيمنة إلى أنظمة مواطنة عادلة.
فالتجربة العالمية تمنح بعدًا إضافيًا لهذا المشروع. جنوب أفريقيا لم تتخلص من نظام الأبارتهايد عبر التقسيم، بل عبر تفكيك نظام الامتيازات وإعادة بناء دولة واحدة بآليات عدالة انتقالية. وفي ايرلندا الشمالية، لم يُحلّ الصراع بالانفصال، بل بتوسيع الفضاء السياسي المشترك وإنهاء التفوق السياسي لمجموعة على أخرى. هذه الأمثلة لا تُسقط بشكل ألي على فلسطين، لكنها تثبت أن الصراعات التي تشبه الحالة الفلسطينية -من حيث وجود استعمار استيطاني أو نظام فصل عرقي- لا تُحلّ بترسيم حدود جديدة فقط، بل بإعادة هندسة النظام السياسي من الأساس.
من هنا تبرز أهمية الحديث عن العدالة الانتقالية كجزء جوهري من مشروع الدولة الديمقراطية الواحدة. فإعادة بناء الفضاء السياسي لا يمكن أن تتم دون معالجة المظالم التاريخية، وعلى رأسها حقّ العودة، واستعادة الأملاك أو تعويض أصحابها، وتفكيك شبكات السيطرة الاقتصادية، وبناء أجهزة مدنية غير تمييزية، وضمان حماية دستورية قوية للأقليات. العدالة الانتقالية هنا ليست مجرد ملف قانوني، بل عملية مجتمعية تهدف إلى إعادة إنتاج الثقة بين الناس وبناء مستقبل يتشارك فيه الجميع دون خوف أو إقصاء.
وفي موازاة ذلك، يشهد الوعي الفلسطيني -خصوصًا لدى الأجيال الشابة- تحوّلًا واضحًا باتجاه تجاوز الخطاب التقسيمي. فالشباب الفلسطيني اليوم يعيش واقعًا واحدًا تحت منظومة قمع واحدة، ويرى أن الحلول التقليدية لم تعد تعبّر عن طموحاته أو عن حقائق الأرض. كما أن التضامن العالمي مع فلسطين، من الجامعات إلى النقابات والحركات المناهضة للعنصرية، يعمّق الاستعداد الدولي للنظر إلى الصراع بمنطق العدالة الشاملة، لا بمنطق “الحلول الوسط” القديمة. والمفارقة أن صعود اليمين المتطرف في إسرائيل يُسرّع هذا التحول، فكلما انكشفت طبيعة المشروع الصهيوني كمنظومة تفوق عرقي، ازداد الاقتناع بأن البديل ليس دولة فلسطينية محدودة السيادة، بل دولة ديمقراطية تُنهي منطق التفوق من جذوره.
إن تبنّي مشروع الدولة الديمقراطية الواحدة هو انتقال من إدارة الصراع إلى تفكيك بنيته، ومن التسويات الهشة إلى مشروع تحرري يعيد تعريف العلاقة بين الناس على أساس شراكة كاملة في الحقوق والموارد والمستقبل. وفي لحظة تاريخية تتعمق فيها الأزمات ويتعاظم فيها الإرهاب الاستعماري، يصبح التفكير الجدي بهذا المشروع ليس خيارًا فكريًا فقط، بل ضرورة سياسية وأخلاقية تفتح أفقًا جديدًا لفلسطين، أفقًا يقوم على العدالة لا على التقسيم، وعلى المساواة لا على الامتيازات، وعلى الحياة المشتركة لا على هندسة السيطرة. هذا الطرح قد يبدو صعبًا، لكنه يمثل الطريق الوحيد نحو مستقبل تُصان فيه كرامة الإنسان، ويُعاد فيه بناء فلسطين كوطن عادل لكل سكانه دون تمييز.