عصام مخول: حين يغيب القائد وتبقى الفكرة حيّة

برحيل القائد الوطني الكبير عصام مخول (أبو حنّا)، رئيس الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة وعضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي، لا تفقد الساحة الفلسطينية في الداخل المحتل شخصية سياسية بارزة فحسب، بل تودّع تجربة نضالية متكاملة شكّلت، على امتداد عقود، جسرًا بين الهوية الوطنية الفلسطينية وقيم العدالة الاجتماعية والسلام القائم على المساواة.
لم يكن أبو حنّا قائدًا تقليديًا ولا خطيب مناسبات. كان صاحب رؤية سياسية واضحة، ترى أن الصراع مع المشروع الاستعماري الاستيطاني لا يُختزل في الشعارات، بل يُخاض عبر تنظيم سياسي واعٍ، ونضال ديمقراطي طويل النفس، وتحالفات تقدمية واسعة تُعيد تعريف السلام بوصفه نقيضًا للاحتلال والعنصرية، لا غطاءً لهما. ومن هذا المنطلق، مثّل حضوره في قيادة الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة والحزب الشيوعي إضافة نوعية للحركة الوطنية الفلسطينية داخل أراضي 48.
تميّز عصام مخول بثبات أخلاقي نادر في زمن الارتباك والانزلاق. دافع عن الحق الفلسطيني بلا مواربة، وعن التعددية السياسية بلا خوف، وعن الحوار بلا تنازل عن الثوابت. كان منحازًا بوضوح للفئات المهمّشة: للعمال، للفقراء، ولضحايا التمييز البنيوي الذي يطال الفلسطينيين في الداخل، واضعًا هذه القضايا في قلب المعركة الوطنية، لا في هامشها الاجتماعي.
في تجربته، جسّد أبو حنّا معنى أن تكون شيوعيًا فلسطينيًا في سياق معقّد: أن تكون ضد الاحتلال بلا تردّد، ومع السلام بلا أوهام، وأن ترى في العدالة الاجتماعية شرطًا للتحرر الوطني، لا مرحلة مؤجلة لما بعد “الحل السياسي”. لذلك ظل صوته حاضرًا في معارك الأرض والهوية، وفي مواجهة الأسرلة، ومحاولات شطب الرواية الفلسطينية، وتحويل الصراع إلى مسألة حقوق مدنية منزوعة البعد الاستعماري.
لم يكن خطابه شعبويًا، ولا مهادنًا. كان عقلانيًا، واضحًا، ومتماسكًا، قادرًا على مخاطبة الرأي العام الإسرائيلي والعالمي بلغة سياسية وأخلاقية في آن واحد، دون أن يفقد جذوره الفلسطينية أو انحيازه الطبقي. بهذا المعنى، شكّل عصام مخول نموذجًا لقائد جمع بين المحلي والأممي، وبين الوطني والإنساني، دون تناقض أو ازدواجية.
يأتي رحيله في لحظة فلسطينية شديدة القسوة، تتكاثر فيها الخسارات، وتتراجع فيها مساحات العقل والحوار، ويشتد الهجوم على الفلسطيني في كل أماكن وجوده. غير أن إرثه السياسي يذكّرنا بأن الصمود ليس مجرد بقاء في المكان، بل فعل واعٍ، وتنظيم ديمقراطي، وقدرة دائمة على تحويل المعاناة إلى مشروع تغيير.
إن وداع أبو حنّا هو وداع لجيل من القادة الذين لم يتاجروا بالدم، ولم يساوموا على الحق، ولم يفصلوا بين التحرر الوطني والعدالة الاجتماعية، ولا بين القضية الفلسطينية وقيم الإنسانية الكونية. هو رحيل الجسد، وبقاء الفكرة، وبقاء التجربة، وبقاء الدرس.
في زمن القتل والإنكار، يبقى عصام مخول شاهدًا على أن السياسة يمكن أن تكون أخلاقية، وأن النضال يمكن أن يكون عقلانيًا، وأن فلسطين تحتاج، أكثر من أي وقت مضى، إلى هذا النوع من القادة.
disqus comments here