التلوث يزحف بصمت نحو السواحل الليبية
تتصاعد التحذيرات من انعكاسات تلوّث السواحل الليبية على الثروة السمكية والأمن الغذائي، علماً أن النتائج رصدت “مقبرة بحرية” في الأعماق.
تشهد السواحل الليبية ارتفاعاً ملحوظاً في مؤشرات التلوث، وسط تحذيرات متزايدة من انعكاساته المباشرة على الثروة السمكية وعلى الأمن الغذائي، في ظل استمرار ممارسات الصيد الجائر، وضعف آليات الرقابة البيئية في المياه الإقليمية. ورغم أن ظاهرة التلوث البحري ليست جديدة، أعادت التصريحاتُ التي أدلى بها فريق بحارة وغواصين ليبيين لوكالة الأنباء الليبية أخيراً، إلى الواجهة هذه المخاوفَ بشأن هذا التلوث. وأفاد طلال عصمان، أحد أفراد الفريق، بأنهم طالعوا مشاهد مروعة ناتجة من التلوث قبالة سواحل مدينة زوارة الحدودية مع تونس.
وأكد عصمان أن الفريق رصد على مسافة نحو 25 كيلومتراً داخل البحر “نسب تلوث عالية بشكل صادم”، حيث بدت المياه “عكرة بشكل غير طبيعي”، مع تراجع حاد في مستوى الرؤية التي “لا تتجاوز متراً أو مترين”. موضحاً أن هذه المؤشرات ظهرت قبل الوصول إلى القاع، ما يعكس اتساع نطاق التلوث بعيداً عن الشاطئ، وليس اقتصاره على المناطق الساحلية القريبة.
وأضاف أن “المشهد في الأعماق كان أكثر قسوة، إذ وجد الفريق نفسه على عمق 47 متراً، وسط ما يمكن وصفه بالمقبرة البحرية، ورصد أكثر من 100 كيلوغرام من الأسماك النافقة المتناثرة على القاع الرملي، مع انتشار شباك الصيد المهملة والمخلفات البلاستيكية حول الحطام، إلى جانب آثار واضحة للصيد الجائر بالمتفجرات. ما شاهده الفريق لم يكن تلوثاً عابراً، بل جريمة بيئية متكاملة تهدد الثروة السمكية والتراث البحري في المنطقة”.
ومن مدينة زوارة، يؤكد الصياد خيري فكرون ما تحدث عنه الفريق البحثي الذي رصد الأعماق، لكنه يلفت إلى أن هذه المشاهد ليست بعيدة عن واقع الصيادين، بل يشاهدونها يومياً خلال عملهم في البحر. ويوضح لـ”العربي الجديد”، أن “التلوث البحري بات ملموساً من خلال تغير لون المياه في بعض المناطق، وظهور روائح غير مألوفة، إضافة إلى تراجع واضح في صفاء البحر، حتى في الأيام التي تكون فيها الأحوال الجوية مستقرة. هذه المؤشرات لم تكن مألوفة في السابق على سواحل زوارة”.
ويؤكد فكرون أن “الصيد الجائر باستخدام المتفجرات أحد أبرز أسباب هذا التدهور البيئي، وآثاره لم تعد خافية على أحد، بل معروفة للجميع، ليس فقط من خلال الانفجارات التي تُسمع في عرض البحر، بل عبر نتائجه التي تظهر في شكل الأسماك التي يتم اصطيادها بهذه الطريقة، وبعضها تباع في الأسواق. يشاهد الصيادون بشكل متكرر الأسماك النافقة عقب كل عملية تفجير، والتي يطفو بعضها على السطح، بينما يغرق الجزء الأكبر منها في القاع، ما يفسر ما وثقه الغواصون في الأعماق من مشاهد نفوق جماعي”.
من جانبه، يؤكد أستاذ علوم البيئة، سعد الشويهدي، أن التلوث البحري بلغ مستويات مقلقة، مشيراً إلى أسباب أخرى غير الصيد بالمتفجرات، وأن دراسات أعدتها مراكز بحثية ليبية كشفت عن أكثر من 1.38 مليون متر مكعب من مياه الصرف الصحي غير المعالجة التي تُصرّف يومياً في البحر قبالة العاصمة طرابلس، عبر نحو 40 مخرجاً، ما يؤدي إلى ارتفاع حاد في التلوث البكتيري، وامتداد المياه الملوثة إلى مسافة تراوح بين 300 إلى 500 متر داخل البحر.
ويضيف الشويهدي أن “التحاليل الميكروبيولوجية أظهرت ارتفاعاً كبيراً في نسب التلوث البكتيري قرب مخارج الصرف الصحي، ما يرتبط مباشرة بنفوق الأسماك، وتراجع جودة المياه، وعدم صلاحية بعض المناطق للسباحة أو للاستخدامات البحرية. هناك أسباب أخرى للتلوث البحري، أهمها التلوث النفطي الذي صار يشكل خطراً، إذ سجلت مناطق مثل الزاوية وزوارة تركيزات مرتفعة من القطران والهيدروكربونات النفطية التي تتجاوز المعدلات المسجلة في البحر المتوسط”.
ويتابع: “هناك سبب آخر للتلوث يتعلق بانتشار محطات تحلية المياه على الساحل، ما يسهم في التلوث الحراري بسبب رفعها درجات الحرارة بنحو 10 درجات مئوية عن المياه الطبيعية، ويؤدي بالتالي إلى انخفاض نسبة الأكسجين المذاب، وينتج عن ذلك نفوق أو هجرة الكائنات البحرية. أخطر ما تخلفه هذه الأسباب هو تراكم الملوثات، خاصة المعادن الثقيلة مثل النيكل والرصاص، والتي تترسب في أنسجة الكائنات البحرية، ما يشكل تهديداً مباشراً للثروة السمكية من جانب، ولصحة المستهلك لهذه الأسماك من جانب آخر”.