الصحفيون في فلسطين بين محكمة بلا عدالة وحكومة بلا مصداقية

يوم الأحد 21 ديسمبر وللمرة العاشرة على التوالي، تقدمت حكومة نتنياهو بطلب رسمي إلى المحكمة العليا في القدس الغربية، التابعة للاحتلال، لتمديد منع دخول الصحافة الأجنبية إلى غزة، في إطار محاولة حكومة نتنياهو التعتيم على جرائمه في قطاع غزة. ورداً على الالتماس الذي تقدمت به رابطة الصحفيين الأجانب، للمطالبة بالسماح لوسائل الإعلام الدولية بالوصول الحر والمستقل إلى قطاع غزة.
يعتقد المسؤولون السياسيون الإسرائيليون أن تأخير دخول الصحفيين الدوليين إلى غزة سيمنح إسرائيل مزيداً من الوقت لاستكمال محو الشواهد المادية وطمس الأدلة على الإبادة الجماعية وجرائم الحرب التي ارتُكبت على مدار عامين في قطاع غزة، حجم الجريمة يجعلها غير قابلة للتعمية، لن تستطيع أي إجراءات ميدانية أو إدارية أو إعلامية، التأثير في أي تحقيق جنائي أو توثيق ميداني يسعى إلى ترسيخ الحقيقة وإثبات مسؤولية إسرائيل القانونية، ولن تستطيع حكومة نتنياهو إخفاء الحقائق إذا سعت لجان تحقيق دولية مستقلة إلى الكشف عن جرائم الاحتلال، إذا آثر المجتمع الدولي عدم الصمت.
منذ بداية الحرب على غزة في السابع من أكتوبر 2023، أغلق الاحتلال القطاع أمام وسائل الإعلام الدولية التي تطالب بتغطية الأحداث من داخل غزة، وتحديداً من جانب التواجد الفلسطيني. حاولت «رابطة الصحافيين الأجانب» في تل أبيب، ومئات من وسائل الإعلام الدولية، إدخال صحافيين ميدانيين إلى قطاع غزة، ولكن السلطات الإسرائيلية رفضت. في حالات استثنائية سمحت في مناطق السيطرة الإسرائيلية بدخول صحافيين أجانب تحت مرافقة ومراقبة أمنية وعسكرية، وفرضت شروطاً صارمة بذريعة خطر محتمل على جنود جيش الاحتلال، تشمل الالتزام بعرض المواد الصحافية على الرقابة العسكرية لتتصرف بها تعديلاً وتقطيعاً وحذفاً قبل النشر.
وقبل مسلسل المهل بحلقاته العشر، كانت المحكمة قد رفضت التماساً تقدمت به رابطة الصحفيين الأجانب في هذا الشأن، حتى أيلول/ سبتمبر 2024، عندما قُدّم التماس جديد إلى المحكمة التي أمرت الحكومة حينها تقديم تصوّر يسمح بدخول الصحفيين. ومنذ ذلك الحين، أي نحو سنة وأربعة شهور، تواصل حكومة الاحتلال طلب تأجيل تنفيذ أمر المحكمة المرة تلو المرة، في الرابع من كانون الأول/ ديسمبر الحالي، قدمت حكومة نتنياهو طلب تمديد للمرة التاسعة، يطالب بتأجيل الرد، دون تقديم خطة عملية تتيح دخول الصحافة الأجنبية إلى القطاع، أثار هذا النهج ردود فعل غاضبة وانتقادات واسعة في أوساط إعلامية دولية ترى في السياسة الإسرائيلية مذهباً مماطلاً مراوغاً وراسخاً في منع التغطية الإعلامية المستقلة.
إسناد أمر لغير أهله مضيعة للوقت وفساد للمطلب، لا تلتمس حاجة من غير أهلها، لجأ الصحفيون إلى القضاء الإسرائيلي، لطلب إصدار أمر يجبر الحكومة على التنفيذ، وبدت المحكمة منسجمة مع الحكومة الإسرائيلية، توافقها في إعطائها مهلة جديدة، والمهلة تتبعها مهلة، ولا تبدو نهاية لهذا السيناريو في المدى المنظور في التعطيل والإجراءات التي تمنع حرية العمل الإعلامي والتغطية المستقلة، ضاعت الحقيقة بين القانون والسياسة، وأثبت الصمت الرسمي الغربي أن القيم الإنسانية تحورت إلى قيم نفعية سياسية تراعي مصالح الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة.
وبين محكمة تفتقد العدالة وحكومة تفتقد المصداقية، خيبة أمل شديدة إزاء المماطلة. سياسة التسويف عبّر نتنياهو عنها حين كرر ما قاله كذباً لوسائل الإعلام إنه سيعطي تعليماته للجيش بـالاستعداد لتنفيذ أمر المحكمة دون الإعلان عن أي قرار عملي يغيّر سياسة المماطلة. واستمر الحال بعد الموافقة على خطة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، والقرار الأممي 2803، وإعلان بدء المرحلة الأولى التي تتضمن وقف إطلاق النار اعتباراً من العاشر من تشرين الأول/ أكتوبر 2025، ما جعل البعض يظن أن مطلب السماح بدخول الصحافة الأجنبية أصبح سهلاً، وصار متاحاً. وأن الحصار الإعلامي فقد مبرراته، لكن توضح زيف الادعاءات الإسرائيلية من الناحيتين الأمنية والعسكرية والذرائع الواهية بخصوص ضرورات أمنية تبرع إسرائيل في اختلاقها، لكن تزايدت حدة الانتقادات مع دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ.
لا يقتصر فرض القيود على وسائل الإعلام في قطاع غزة فقط، لمنعها من تغطية الحدث، في الضفة الغربية، فيما يستمر جنود الاحتلال بمداهمة المنازل وتفتيشها واحتجاز المواطنين واستجوابهم والاعتداء عليهم، تمنع قوات الاحتلال الإسرائيلي الصحفيين من تغطية العدوان المتواصل على البلدات والقرى والمخيمات الفلسطينية.
عمليات اغتيال الإعلاميين والصحفيين والمراسلين والمصورين في قطاع غزة والضفة الغربية هو استهداف متعمد، في محاولة للحد من عمل وكالات الأنباء في تغطيتها جرائم الحرب الإسرائيلية، ارتفعت وتيرته خلال عملية طوفان الأقصى، الأمر الذي جعل من الضفة الفلسطينية وقطاع غزة يُقيّمان كأخطر مكان على حياة الإعلاميين وسلامتهم. قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 كانت لجنة الحريات في نقابة الصحفيين الفلسطينيين قد وثقت مئات الاعتداءات ضد الصحفيين في الضفة الغربية بالضرب والسحل والاستهداف بالرصاص الحي والمطاطي، ووثقت اعتقال نحو 29 صحفياً فلسطينياً، يبرز من ضمن عمليات القتل بحق العاملين في مجال الصحافة، استهداف مراسلة قناة الجزيرة الشهيدة شيرين أبو عاقلة من قبل قوات الاحتلال في 11 أيار / مايو 2022 أثناء تغطيتها اقتحام مخيم جنين، وصفت منظمات حقوقية دولية قتل الشهيدة شيرين أبو عاقلة بأنه «عملية اغتيال مدبرة». وترى نقابة الصحافيين الفلسطينيين أن هذه الإجراءات هي «جزء لا يتجزأ من سياسة إسرائيل لإخفاء حقيقة جرائمها في غزة والضفة الغربية». وبحسب رئيس النقابة، ناصر أبو بكر، فإن ما جرى في غزة منذ 7 أكتوبر 2023 على يد إسرائيل هو «أكبر مجزرة بحق الصحافيين في التاريخ».
كذلك الأمر في قضايا الأسرى الفلسطينيين، ومنع وسائل الإعلام من تسليط الضوء على الجرائم التي ترتكب بحقهم من إهمال طبي وقتل متعمد، وما يتعرضون له من أشكال الاضطهاد والتعذيب، ولاسيما بعد تولي الصهيوني المتطرف إيتمار بن غفير منصب وزير الأمن القومي الإسرائيلي. تصاعدت مخططات القمع التي تمارسها سلطات الاحتلال الإسرائيلي ضد الأسرى الفلسطينيين.
أصبح قرار نقل الحقيقة من أرض الحدث بطولة والتزام شجاع، حيث لا ينظر إلى الصحفي كعنصر محايد، بل كطرف معادٍ يجب إسكاته. الصحفيون لا يموتون بل يُغتالون، يفقدون حياتهم دفاعاً عن الحقيقة، يأتي استهدافهم في إطار سياسة ممنهجة هادفة إلى إسكات الحقيقة وطمس الجرائم المرتكبة بحق المدنيين، يدرك الصحفي أن صمود صوته في الميدان هو خط الدفاع الأخير ضد الصمت المطلق، قالت صحفية فلسطينية أصرت على البقاء في غزة: «لو خرجنا نحن، فمن سيخبر العالم بما يحدث؟». شكّل الصحفيون الفلسطينيون المصدر الوحيد للتغطية الإخبارية في قطاع غزة، وعمل نحو 1500 صحافي فلسطيني تحت القصف، أُصيب المئات، واعُتقل نحو 200 آخرين، دُمّرت مؤسساتهم الإعلامية، وسجل المكتب الإعلامي الحكومي في غزة استشهاد 257 صحفياً فلسطينياً منذ بدء حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية على القطاع، خصصت جريدة «إلبايس» الإسبانية عدداً كاملاً لتوثيق حياة الصحفيين في غزة وموتهم، ونشرت تقريرها الموسع تحت عنوان: «الهدف: قتل الصحفي»: أن ما يحدث ليس مجرد تداعيات حرب، بل هو استهداف منهجي لصناع الحقيقة. الهدف من قتل الصحفيين ليس فقط إزالة الشهود، بل أيضا إخضاع العالم لـ«نوع واحد من الرسائل: الصمت»، وفق التقرير، أن هذا القتل الممنهج يمثل إفراغاً لساحة الكارثة من أي رقابة دولية أو محلية. وقال المدير العام لمنظمة «مراسلون بلا حدود» تيبو بروتين إن الوقت قد حان لأن يكون حراك المجتمع الدولي على مستوى الشجاعة التي أظهرها الصحفيون الفلسطينيون خلال عامين من الإبادة الجماعية في القطاع، وتراجع شجاعة الحكومات في العالم يكمن وراء فشل المنظمات الدولية في حماية حق الصحفيين والدفاع عنهم في الحروب والنزاعات المسلحة، والواقع المؤلم للصحفيين نجم من قدرة الجناة على الإفلات من العقاب، دعت المنظمة إلى تحقيق العدالة لضحايا الجرائم الإسرائيلية، وقدمت 5 شكاوى إلى المحكمة الجنائية الدولية مطالبة بإصدار مذكرات توقيف بحق مرتكبي الجرائم ضد الصحفيين الفلسطينيين في قطاع غزة .. ورفع مستوى المساءلة الدولية على الجرائم المرتكبة بحقهم، وتحقيق بيئة عمل آمنة للصحفيين.
لقد كشفت المجزرة الإعلامية التي جرت في غزة حقيقة العالم المنافق المسمى حر، وزيف ما تباهى بها الغرب من القيم، وحقوق الإنسان، وحرية الصحافة، بينما كانت إسرائيل تقتل الصحفيين واحداً تلو الآخر، بقي العالم صامتاً يشاهد الجرائم ولا يحرك ساكناً، ولا يتخذ خطوة عملية حقيقية، غير الشعور بالقلق، والاكتفاء بالإدانة والاستنكار، فالانتهاكات الخطيرة ضد الصحفيين وضد المدنيين تؤكد ضرورة حراك واسع لمؤسسات حقوق الإنسان، وقيام المحاكم الدولية بإرسال فريق للتحقيق الجدي.
disqus comments here