الصحافة الإسرائيلية الملف اليومي صادر عن المكتب الصحفي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين الاربعاء 28/5/2025 العدد 1319

الصحافة الاسرائيل– الملف اليومي افتتاحيات الصحف + تقارير + مقالات |
هآرتس ذي ماركر 28/5/2025
الحرب اغلقت افاق النمو، الحل الوحيد المتبقي يرتبط بالحريديين
بقلم: ناتي توكر
مؤتمر ايلي هوروفيتس، الذي يعقد كل سنة في القدس منذ 32 سنة، هو ساحة النقاشات الاقتصادية المهنية الاكثر شهرة في اسرائيل. المؤتمر هو بشكل عام منصة للنقاش العام الاولي لميزانية الدولة قبل السنة القادمة، قبل نقاشات الميزانية في الحكومة التي من شانها ان تبدأ في الصيف. المواضيع البارزة فيه هي على الاغلب التي ستسمع فيما بعد على طاولة العمل في جلسات الحكومة والوزارات.
قبل اندلاع الكورونا في 2020 تم تخصيص نقاشات كثيرة في المؤتمر لقضية انتاحية العمل المتدنية في اسرائيل. انتاجية العامل في اسرائيل تخلفت بنسبة 24 في المئة عن المتوسط في دول OECD، حسب معطيات بنك اسرائيل في 2019. ورفعها يعتبر المفتاح لنمو الاقتصاد في المستقبل.
لكن بعد الفترة الانتقالية المضطربة (2020 – 2024) يمكن الاعلان عن موت النقاش حول هذا الموضوع. والآن بدلا من خطط العمل المعقدة والمتفائلة لزيادة الانتاجية، فان الخطاب في النقاشات الاقتصادية يتحول الى مفهوم آخر هو “المعضلة الثلاثية”، الذي يشير الى الصراع بين ثلاثة اهداف، كل هدف منها يوجه مسار ميزانية الدولة في اتجاه مختلف.
رواد السياسة الاقتصادية في اسرائيل موجودون في ضائقة. عندما ينظرون الى الافق ويبحثون عن محركات للنمو للمستقبل ما بعد الحرب، والى الوضع الجيوسياسي الجديد الذي فرض علينا، فانه ليس من السهل العثور على مثل هذه المحركات. فكل فكرة من الافكار الاقتصادية التقليدية لم تعد تجذب مثلما كانت، لأنها مقرونة بتعقيد جديد، يمكن ان يؤدي الى هبوط الاقتصاد الى الحضيض. في هذا الوضع يوجد لاسرائيل مخرج واحد، الذي سيمكنها من اعادة النمو السريع الذي كان قبل الكورونا وعدم التدهور.
مفتاح زيادة انتاجية العمل
المعضلة الثلاثية برزت امس في خطاب محافظ بنك اسرائيل، البروفيسور امير يارون، في المؤتمر. ايضا الاقتصادي الاول في وزارة المالية، الدكتور شموئيل اباربزون، عرضها، وايضا مدير شعبة الابحاث في بنك اسرائيل، الدكتور عيدي برندر.
قبل فترة قصيرة ركز المحافظ، باعتباره المستشار الاقتصادي لحكومة اسرائيل، جهوده لاقناع الحكومة في هدف واحد رئيسي – زيادة النفقات العامة من اجل زيادة انتاجية العاملين في اسرائيل. في السيناريو الذي عرضه البنك فان زيادة الانتاجية ستؤدي الى تسريع النمو على المدى البعيد. استثمار 3 في المئة من الناتج المحلي السنوي في هذا الامر سيساعد.
حسب رجال بنك اسرائيل فان تحسين الانتاجية يمكن أن يتم بواسطة الاستثمار في وسائل الانتاج في الاقتصاد: في رأس المال المادي، مثل الاستثمار في البنى التحتية للمواصلات أو وسائل الاتصال، وفي رأس المال البشري عن طريق تحسين التعليم.
في البنك في الواقع لم يوفروا الحديث بخصوص الحاجة الى تحسين انتاجية المجتمع الحريدي والمجتمع العربي. ولكن التركيز على توصيات البنك، على رأسها تقرير الانتاجية الذي نشره في 2019، كان بالتحديد على رأس المال المادي، وهو المجال الذي تتخلف فيه اسرائيل بشكل واضح وراء دول OECD. ربما سبب هذا التركيز هو المقاربة الواقعية لبنك اسرائيل، الذي لم يرغب في أن يكثر من الحديث عن برامج للجمهور الحريدي، التي ستسقط على اذن صماء في الخطاب السياسي.
التركيز على الحاجة الى زيادة الاستثمار في رأس المال المادي وجد تعبيره في تقرير الانتاجبة، مثلا في التوصية باستثمار رأس مال ضخم في المواصلات. “خطوات لتحسين البنى التحتية للمواصلات بنسبة 2 في المئة من الناتج المحلي السنوي” (أي استثمار آخر بمبلغ 40 مليار شيكل في السنة بارقام 2025). يمكن تحسين بالتدريج المكانة النسبية لاسرائيل، وهكذا فان مستوى البنى التحتية سيصل الى النصف تقريبا في دول OECD خلال عشرين سنة تقريبا. وهكذا سترتفع انتاجية العامل في اسرائيل 5.6 في المئة”، كتبوا في حينه في البنك.
في البنك اوصوا في ذلك البرنامج بتمويل ثلث النفقات الاخرى على البنى التحتية عن طريق زيادة العجز، وثلثين من خلال جباية الضرائب. في البنك عرضوا في حينه عدة سيناريوهات بخصوص مسار النمو ومسار نسبة الدين الى الناتج المحلي الاجمالي.
حجة البنك الرئيسية هي ان زيادة الاستثمارات في الواقع ستزيد الدين على المدى القصير، لكنها سترفع النمو على المدى البعيد. ولكن كل ذلك كان في العام 2019.
ثمن الحرب: 250 مليار شيكل
هذا السيناريو تم عرضه في بيئة عالمية مختلفة كليا، قبل ازمة الكورونا وقبل التضخم وعندما كان سعر الفائدة تقريبا صفر. عند البدء في رفع سعر الفائدة كان من الواضح أنه يمكن تاجيل بعض من هذه البرامج. عمليا، رجال وزارة المالية استخفوا سرا ببنك اسرائيل. هم في الاصل يوجدون في مواجهة هيكلية دائمة مع بنك اسرائيل، ايضا في قضية توسيع الاستثمارات. بعض رجال وزارة المالية اقترحوا سؤال بنك اسرائيل عن ماذا سيكون وضع اسرائيل المالي لو أن الحكومة استمعت على نصيحتهم وقامت بزيادة الدين لزيادة الاستثمار في البنى التحتية في ظل سعر الفائدة الحالي.
بنك اسرائيل في الواقع قلل الصوت في توصيته لزيادة الاستثمارات المادية على خلفية زيادة الدين في فترة الكورونا. ايضا الانتاجية قفزت قليلا منذ ذلك الحين، ضمن امور اخرى، على خلفية خطوة زيادة النجاعة في فترة الكورونا، وبعد ذلك تبني الرقمنة وزيادة النجاعة، وليس فقط بفضل الهايتيك.
الحرب التهمت الان كل الاوراق. ايضا في بنك اسرائيل يعرفون أنه الآن يمكن دفن عميقا في الارض التوصية بزيادة الاستثمار في البنى التحتية. هذا ليس فقط الانفاق لمرة واحدة بمبلغ 250 مليار شيكل على الحرب، بل الحاجة ايضا الى زيادة الانفاق الامني للمدى البعيد. مع هذا المستوى من الدين فانه واضح للجميع بأنه لم تبق أي اموال لاستثمارها في البنى التحتية – ويحظر اخذ مخاطرة لرفع الدين العام من اجل زيادة الاستثمارات.
هذه بالضبط هي المعضلة المالية. من جهة، الحاجة الى الاستثمار في البنى التحتية وزيادة الانفاق المدني، هي أمر حيوي. الانفاق المدني كنسبة من الناتج المحلي في اسرائيل هو 33.1 في المئة، مقابل 41.9 في المئة بالمتوسط في دول OECD. المعادلة بسيطة: اذا اصبح استثمارنا اقل من دول OECD فان النمو لدينا ايضا سيكون ادنى من المتوسط، واسرائيل ستتدهور الى الخلف.
من جهة اخرى، الوزن الجديد الذي يثقل على الانفاق لا يتوقع أن يتلاشى في القريب – الانفاق الامني. في 2023 هذا الانفاق قفز الى 5.3 في المئة من الناتج المحلي، مقابل متوسط 1.9 في المئة في دول OECD. بنظرة الى الامام فان الانفاق الامني كنسبة من الناتج المحلي لن ينخفض بشكل حاد في القريب. وفي 2025 سيبلغ 6 في المئة واكثر. هذه النسبة ستنخفض باعتدال على ضوء الحاجة الى زيادة الاستثمار في الامن الجاري وايضا في زيادة القوة.
------------------------------------------
هآرتس 28/5/2025
درس في الوطنية في سجون غزة
بقلم: تسفي برئيل
أخيرا كشف عن الهدف الحقيقي للحرب. “مصادر عسكرية” تقدر بأنه خلال شهرين ستسيطر خمس فرق على 75 في المئة من اراضي القطاع. ولأن هذه السيطرة لن تكون سيطرة على “مناطق فارغة” لا يوجد فيها اناس، فقد وضع من اجلها برنامج عمل منظم: ستتم اقامة ثمانية مراكز لتوزيع المواد الغذائية تخدم 2 مليون مواطن، والسكان سيتم تجميعهم في ثلاثة مناطق في وسط القطاع.
في الواقع لا يوجد يقين بأن المخطوفين سيتم العثور عليهم في هذه الـ 75 في المئة، حيث أن الجيش الاسرائيلي وعد بأنه لن يعمل في مناطق يمكن أن يكون فيها مخطوفون وأن كل الامر سيتم بتنسيق مع هيئة تحرير المخطوفين. ولكن في الاصل هم لن يكونوا مهمين بعد أن زادوا اسهامهم واعطونا الـ 75 في المئة في اطار صفقة “المناطق مقابل المخطوفين”. الجيد في هذه الخطة هو انه سيبقى 25 في المئة التي ستبرر استمرار الحرب. كي لا نتعود. هذا تنبؤ مشجع يمكن أن يروي تطلعات الشعب المتعطش للانتقام.
بدلا من قتل كل يوم بضع عشرات أو مئات الاشخاص، وتدمير مستشفى آخر ومدرسة اخرى، ومواجهة الرأي المحلي والعالمي، ومواجهة مسائل ملحة مثل الاخلاق والعدالة وعيناف تسنغاوكر والمحكمة الدولية – احتلال القطاع سيرد على كل ذلك. هو سيعطينا اليقين المامول الذي ينقصنا، والذي بدونه تطور الشعور بالانفصال والمؤقتية وعدم الافق. بمجرد ان تصبح 75 في المئة، الاغلبية المطلقة بكل المقاييس، “لنا”، نحن لن نسأل بعد الآن: الى متى؟ الرد الحاسم سيكون “الى الابد”.
75 في المئة” ستصبح مفهوم جغرافي وطني مثل “يهودا والسامرة” أو “غور الاردن” أو “القدس الموحدة”. في مثل هذا الواقع سيتسنى لنا التخطيط للمستقبل وبناء روتين مستقر وطبيعي، بدون مفاجآت أو ازعاج أو توقعات بفترات افضل، لأن هذه ستكون اوقات سعيدة. الرجال في سن القتال سيدخلون الى روتين مرحب به، الذي فيه سيرتدون الزي العسكري لستة اشهر، والاطفال سيتعودون على العيش مع “أب” عابر، والحريديون لن يخشون التجنيد الالزامي. فقد اثبت الجيش القدرة على احتلال القطاع بدونهم حتى، وسيتم فتح نافذة فرص مع 2 مليون زبون جديد لرجال الاعمال الاسرائيليين، لا سيما تجار المواد الغذائية وصانعي الخيام.
وزارة السياحة ستشجع وكلاء السفر والمرشدين على احضار زوار الى مواقع تراث المعارك، هذه المرة ليس في بلدات غلاف غزة التي فشلوا في الدفاع عن انفسهم ولطخوا تراث الشجاعة والبطولة للشعب اليهودي، بل في ارجاءالقطاع. هذا سيكون المشروع الرئيسي لوزير التعليم يوآف كيش، الذي بالتاكيد هو ينشغل الآن في محاولة لصياغة كتب التعليم التي ستتحدث عن بطولة الجنود الذين جلبوا النصر الاكبر على الـ 75 في المئة. المدارس ستجبر على ارسال الطلاب الى القطاع لمشاهدة كيف تعالج اسرائيل بشكل جيد الـ 2 مليون غزي الذين يعيشون بهدوء في معسكرات ضخمة. المعلمون الذين اجتازوا دورات الاستكمال بشأن غزة سينسقون الزيارات مع مواعيد اطعام الغزيين، عند دخول شاحنات المساعدات الانسانية، وسيشجعون الطلاب على تقليد طريقة الاصطفاف المنظمة للحصول على الغذاء، المعلمون سيتفاخرون بأنه صحيح أن الترويض استغرق وقت واحيانا كنا مضطرين لاستخدام القوة، لأن الامر يتعلق بترويض حيوانات بشرية، لكن انظروا الى النتيجة. احد الطلاب سيسال: هل يمكن رمي الطعام عليهم؟ هل ياكلون البامبا؟. “حتى الآن لا”، سترد المعلمة، “محظور أن يتعودوا على طعامنا، لأن ذلك قد يقتلهم”.
سيكون بالامكان ايضا وقف “البث الخاص” في قنوات التلفزيون لتفكيك جلسات الحوار المملة والعودة الى جدول البث في ايام السلام المعتادة، عن الهجمات العادية. ولن يعرض في قنوات البث بين حين وآخر فيلم “منطقة الاهتمام”، الذي يروي عن الحياة الجميلة التي عاشها الناس قرب معسكر التجميع.
------------------------------------------
معاريف 28/5/2025
إسرائيل هُزمت، نتنياهو ينتصر
بقلم: بن كسبيت
مثل كل شيء في الجيش الإسرائيلي، حتى الـ 600 يوم الرهيبة التي مرت علينا تنقسم الى ثلاثة أجزاء: في البداية هزيمة، بعد ذلك نصر، وعندها مرة أخرى هزيمة. وبتوسع: في اليومين الاولين هُزمنا. بعد ذلك صحونا، انتعشنا، شحذنا أسناننا وانتصرنا. هذا النصر حققه المقاتلون والقادة بالدم، العرق، الدموع، البطولة، البسالة والتضحية. لكن عندها كالمعتاد، لم نتمكن من جني ثمار النصر. في الأشهر (الكثيرة) الأخيرة نحن نفقد الزخم، نتأخر عن القطار، نفوت الفرصة، نعطل الإنجازات ونقترب من هزيمة أخرى. ليس بالذات عسكرية، وليس لنا من نتهم. بايدن لم يعد هنا، “القانونيون” لا يتدخلون في الحرب، المستشارة والنائبة العسكرية تعطيان للجيش اسنادا كاملا، غالنت اقيل، رئيس الاركان استبدل، الائتلاف مستقر ولا يوجد ائتلاف يميني – قومجي – متطرف اكثر منه. باختصار لا يوجد في المحيط مذنبون يمكن أن نلقي عليهم بالمسؤولية، اتهامهم بالطعم الحامض للهزيمة الجديدة. لكن ثقوا بنتنياهو واقزامه. فهم سيجدون، أي سيختلقون شيئا ما. في هذه اللحظة وقعت وردية “المذنب الدوري” على يئير غولان. حتى المذنب التالي.
نبدأ بالهزيمة. الاصعب في تاريخنا. سقوط مدوٍ، اليم، مهين لن تكون له ابدا أي كفارة. لخطة “اسوار اريحا”، او بلغة الفلسطينيين “طوفان الأقصى” كان هدف واضح واحد: كسر فرقة غزة واقتحام دفاعات الجيش الإسرائيلي عن الغلاف. هذا الهدف تحقق بكامله، بما يتجاوز التوقعات الأكثر وردية لمحمد ضيف ويحيى السنوار. فرقة غزة انكسرت، قاعدة الفرقة احتلت، منظومة الدفاع من الجيش الإسرائيلي انهارت كبرج من الورق والاف قتلة النخبة فعلوا في الغلاف وسكانه كما يشاؤون من الساعة السادسة والنصف صباحا وحتى نهاية ذاك اليوم الرهيب.
لأول مرة منذ قيامها ومن نهاية حرب الانبعاث، احتلت أجزاء من إسرائيل من قبل أعداء (“بالشباشب”، على حد تعبير المسؤول الرئيس عن الكارثة). استغرق ثلاثة أيام كاملة أخرى لانهاء تطهير المنطقة. لنزع آخر المخربين من مخبئه ولاعادة استقرار الخط. في هذا الزمن تعرضت إسرائيل لاكثر الضربات رعبا وقعت عليها منذ الازل. 1200 إسرائيلي قتلوا في يوم واحد. عائلات كاملة شطبت. كيبوتسات ومدن زراعية احتلت، أحرقت وسلبت ونهبت. أهالي قتلوا امام عيون أبنائهم، أطفال ذبحوا امام عيون اهاليهم. نساء اغتصبن، رؤوس قطعت. مدنيون، نساء، شيوخ وأطفال اضطروا لان يقاتلوا في سبيل حياتهم دون أن يهرع الجيش الإسرائيلي لانقاذهم او يصل اليهم. كل الفظائع، كل الأسباب التي دفعت اباءنا لان يقيموا هنا الدولة اليهودية انقضت علينا من جديد، من بين كوابيس الماضي. بلدات إسرائيلية أصبحت تشبه البلدة اليهودية إياها، في اثناء الاعتداءات الجماهيرية. الاضطرابات عادت الى حياتنا. كل هذا، فيما ان الدولة التي اقمناها تحوز لقب “قوة عظمى إقليمية” فخورة ولا تهزم. تضرجنا في دمائنا.
وكان أيضا شيء ما يتجاوز الجانب المادي والالم الإنساني. لأول مرة عاد ليسترق الى قلوب غير قليل من الإسرائيليين الخوف الوجودي. انعدام الامن اليهودي إياه. الإحساس بان إسرائيل ليست مسلما بها. وجودها غير مضمون. هي هشة. هي ضعيفة. اعداؤها يهددون. الى حياتنا دخلت أيضا “خطة الإبادة” الإيرانية. فجأة، دفعة واحدة، فهمنا أننا على مسافة خطوة من تحقق هذه الخطوة. “إبادة”. ما لنا وللابادة؟ وبالفعل، بدأنا نعتاد هذا الاصطلاح من جديد.
الأسابيع الأولى بعد الكارثة كانت أسابيع استقرار من الصدمة. الجيش الإسرائيلي، سكان الغلاف، مواطني إسرائيل، حكومة إسرائيل، رئيس وزراء إسرائيل. كلهم، ربما باستثناء اوريت ستروك (“قبل كل شيء عيد سعيد”)، حاولوا ان يجمعوا شظايا روحهم وحياتهم والتفكير بما يفعلونه بعد ذلك. فقط واحد من كل أولئك، ذاك الذي كان آخر من ذكر، كان ناجعا ومركزا منذ البداية. وكما بلغنا في هذه الصفحات، استغرق نتنياهو يوم واحد فقط كي يجمع رجاله ويكلفهم بمهمتهم، مهمة حياته: نحن لا نرحل الى أي مكان، قال لهم، هاتوا لي بخطة. كي ننجو نحن من هذا. كيف نبقى نحن في الحكم. كيف نستفيد ونستغل ما حصل هنا لصالحنا.
وهكذا كان.
عندما سجل لبتسلئيل سموتريتش قال قائلا انه “بعد قليل” الإسرائيليون سيصحون وسيطردوننا، كان نتنياهو قد انتقل الى خطة طرد خاصة به: كيف سيطرد كل المسؤولين، باستثنائه. لكن في هذه الاثناء كان يعرف شيئا بسيطا: لاجل ان ينجو هو بحاجة الى تعزيز. وقد وجده في شكل وطنيين إسرائيليين ساذجين، كسولين غبيين (من ناحيتنا)، إسرائيليين متفانيين من ناحيتهم. غانتس وآيزنكوت. انضمامهما منذ 11 أكتوبر سمح لنتنياهو بان يجمع الطاقة اللازمة، يلتقط الزمن الضروري، يجتاز الفترة الصعبة ويبدأ، رويدا رويدا، بترميم مكانته في أوساط القاعدة.
انضمامهما كان أيضا حيويا للانتعاش العسكري. نتنياهو نفسه خاف من المناورة في غزة. مخاوفه المتكررة لم تختفي بل تعززت فقط. اللواء اسحق بريك، العميد عوفر فينتر وآخرون أخافوه من شرك موت للجيش الإسرائيلي في غزة. غانتس وآيزنكوت رمما ثقته الذاتية. غابي اشكنازي حث من الخارج. الجيش الإسرائيلي خرج الى المناورة وسحق حماس بلا شروط. عدنا لانفسنا.
عن النصر العسكري لا حاجة لمزيد من الحديث. فقد استخدم الجيش الإسرائيلي كامل قوته. سلاح البر جرى تأبينه قبل الأوان. المقاتلون، الضباط، الوية المشاة، المدرعات الرائعة، كلهم أعطوا ما لديهم في تضحية لا نهاية لها. الشباك المرضوض والمهزوز، صحا. وهو يعطي منذ 7 أكتوبر ما يسمى “عرض”. أمان، من غياهب هزيمته، نهض من جديد ووحدة 8200 توفر منذ 7 أكتوبر كميات هائلة من المعلومات النوعية.
كل هؤلاء، مضافة اليه بطولة المقاتلين في النظامي وفي الاحتياط، والقوة والدقة لسلاح الجو وباقي وحداتنا التكنولوجية والقتالة – فعلت الفرق. غزة احتلت، الوية وكتائب حماس هزمت، كل قيادة حماس صفيت، كل سلسلة القيادة الوسطى والصغرى لحماس صفيت. وحتى كل قادة الشرطة لحماس في غزة ارسلوا الى السماء. قسم كبير من غزة نفسها دمر. بنية الانفاق تلقت ضربة قاسية.
العميد باراك حيرام، قائد فرقة غزة (الذي حل محل القائد المهزوز آفي روزنفيلد)، سُمع امس في التسجيلات التي بثت في القناة 12 يبلغ سكان الغلاف بان كل الانفاق التي اجتازت محور فيلادلفيا من غزة الى مصر او العكس دمرت. لا يوجد هدف عسكري ذو مغزى لم يحققه الجيش الإسرائيلي في غزة. مخزون صواريخ حماس دمر تماما تقريبا. قوتها العسكرية كُسرت، 25 الف مخرب قتلوا.
صحيح، لحماس توجد قدرة إعادة بناء. واساسا في ضوء حقيقة ان إسرائيل لم تتمكن حتى الان من إيجاد بديل لها وحقيقة أنها تواصل السيطرة (رغم كل شيء) على توريد المساعدات الإنسانية. لكن لا شك ان قدرتها على أن تشكل مرة أخرى تهديدا ذا مغزى على إسرائيل أو تكرار مذبحة 7 أكتوبر لم تعد قائمة، ولن تكون في السنوات القادمة.
في هذه المرحلة وفي ضوء النجاحات الجارفة في جبهات أخرى أيضا (الضربة القاضية التي القاها حزب الله والضربات الأليمة التي تلقتها ايران)، اعدت لإسرائيل خشبات قفز الاحلام لاعادة البدء والانطلاق من جديد: الرئيس ترامب انطلق الى الشرق الأوسط بقوة هائلة، يجر وراءه الجميع تقريبا – السعودية، الامارات، قطر، تركيا وحتى سورية، ومصر ودول المغرب. كلهم يريدون ان يقفزوا الى عربة ترامب نحو افق وردي من الاستثمارات المشتركة، الاحلاف الإقليمية والارتباطات الاستراتيجية.
الكل، باستثنائنا. القطار يغادر المحطة بدوننا. مسيرة تحول نتنياهو الى بن غفير استكملت. الليكود اصبح حزبا كهانيا. التفكيك المنهاجي لكل مؤسسات الدولة يتواصل بقوة شديدة. الان، يتهجمون حتى على رئيس الأركان الجديد الذي لتوهم عينوه بأنفسهم. نحن على شفا ازمة دستورية، فيما يتحدث الحزب الحاكم بصوت عال عن عدم طاعة قرارات محكمة العدل العليا.
لقد فقد نتنياهو الكوابح والتوازنات الأخيرة التي تبقت له. واحيانا يبدو هو سكرا. ليس واضحا اذا كان مشوشا او كاذبا، ليس واضحا ماذا يمر في رأسه حين ينكل بعائلات المخطوفين او يبلغ، في شريط رسمي، بانه منذ بدل طاقم المفاوضات تحرر 25 مخطوفا (لم يتحرر أي واحد).
لاجل ماذا كل هذا؟ لاجل البقاء الشخصي للرجل. الخطة إياها، التي وضعت في 8 أكتوبر، نجحت. هو لا يزال هنا. حي، يركل ويهذر. لا توجد في العالم دولة واحدة رئيس الوزراء كلي القدرة فيها كان يمكن أن ينجو اكثر من أسبوعين بعد حدث مثل 7 أكتوبر. هذا مميز لنا. نتنياهو يعرف انه لم يتبقَ من حماس شيء تقريبا. نتنياهو يعرف أن الان يجب مواصلة الحرب ضد حماس بالطريقة التي نقاتل فيها في الضفة. نتنياهو يعرف بانه لا توجد في العالم ضمانة دولية تمنع إسرائيل من العودة الى غزة، في الجو او في البر، حتى بعد اتفاق لاعادة كل المخطوفين. نتنياهو يعرف أن إسرائيل تصبح، في هذه الأيام، دولة منبوذة. يعرف أن أحدا غير مستعد لان يطير الى هنا، أحدا غير مستعد لان يسثتمر هنا، وان عشرات الدول تفكر بفرض عقوبات علينا أو الاعتراف بدولة فلسطينية أو هذا وذاك. هو يحطم إسرائيل من الداخل ومن الخارج أيضا. كل شيء مشروع من اجل نجاته. الملك اهم من المملكة.
ليس نتنياهو هو المذنب. هذا هو الرجل. اسحق شمير شخصه منذ ذلك الحين حين وصفه بانه “ملاك التخريب”. في هذه الاثناء تحول الملاك الى شيطان والتخريب الى سقوط، لكن يوجد حول نتنياهو أناس كثيرون يسمحون لهذا ان يحصل. في حزبه وخارجه. أناس يرون المشاهد ويسمعون الأصوات، ينظرون بعيون عليلة الى تفكك الحلم الصهيوني، الى تفكك كل المؤسسات التي تبقي هذه الدولة وذلك فقط لان إعطاء هواء التنفس لعائلة الحاكم. أناس يعرفون الحقيقة ويتنكرون لها. هم الشركاء في الجريمة. وهم لن يطهروا. ليس في محاكمة التاريخ – وينبغي الامل ان ليس في محاكمة الشعوب أيضا.
وعليه فالقصة بسيطة: إسرائيل هُزمت، نتنياهو ينتصر. على الأقل صحيح حتى الان.
------------------------------------------
هآرتس 28/5/2025
حل المستشارة لتعيين رئيس الشباك يستدعي التلاعب والنفاق
بقلم: مردخاي كرمنتسر
قبل ان يجف حبر قرار المحكمة العليا بشأن الاقالة غير القانونية لرئيس الشباك رونين بار، قام رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو برفضه. فقد وصف القرار بانه فضائحي واعلن ان الحكومة برئاسته “ستعين رئيس للشباك”. خلال ذلك نتنياهو تجاهل، كالعادة، توجيهات المستشارة القانونية للحكومة التي بحسبها يجب أن يمتنع عن أي نشاط يتعلق بتعيين رئيس جديد للشباك الى حين توضيح وتسوية تضارب المصالح الموجود هو نفسه فيه.
في اجراء لا يستجيب لاي معيار من معايير التعيين، وبالتاكيد تعيين رئيس جهاز الامن العام، فان نتنياهو عرض هذا المنصب على الجنرال دافيد زيني، وبعد موافقة الاخير اعلن عن التعيين. خلال ذلك هو لم ينس التسبب بضرر هامشي خطير عندما ابلغ رئيس الاركان عن ذلك فقط قبل بضع دقائق. هكذا فقد عرض نتنياهو للخطر مستقبل زيني المهني.
مثل الساحر الذي يستل الارنب من القبعة فقد اعلن رئيس الحكومة بان زيني لن يتعامل مع التحقيقات مع مساعديه. هكذا فانه من جهة اعترف باشكالية تضارب المصالح الموجود فيه ومن جهة اخرى حاول تجاوز ذلك بدون صلاحيات. طائفة المخلصين لنتنياهو، التي تسمى حكومة اسرائيل، سارعت الى مباركة التعيين. بعض الوزراء الذين يريدون التميز بشكل خاص بالتملق لرئيس الحكومة بالغوا في هجومهم على المحكمة العليا وعلى المستشارة القانونية.
يصعب ايجاد اكثر من ذلك خطرا على سيادة القانون وثقة الجمهور بسلطات انفاذ القانون. جبهة العداء بين نتنياهو وحكومته وبين سيادة القانون لا تقتصر على نقطة معينة، بل هي تمتد الى كل فضاء القانون الاداري، الذي تتنكر الحكومة لمجرد وجوده. بالنسبة لهم السلطة القانونية تعني سلطة للتصرف بشكل تعسفي ومنفلت العقال. ماذا نحتاج اكثر من اجل التدليل على عدم اهلية الاداء.
الرأي الذي يقول بان القرار بشان تعيين زيني هو قرار باطل وغير قانوني، الذي بلوره نائب المستشارة غيل ليمون، يصف بصورة واضحة قوة تضارب المصالح الذي يوجد فيه رئيس الحكومة. فقد كتب هناك بان نتنياهو متورط شخصيا في التحقيقات التي يجريها الشباك، بعد ان ربط نفسه فيها بقوة، وبسبب ما يتاثر به من التحقيق مع مستشاريه المقربين. تضارب المصالح ينبع ايضا من انه حسب نتنياهو، فان رئيس الشباك يمتلك ايضا مفتاح احتمالية تاجيل محاكمته لاسباب تتعلق بالحماية.
سلوك رئيس الحكومة في كل ما يتعلق بالقضايا الامنية، التي يشتبه فيها رجال مكتبه، ليس فقط تضارب مصالح، بل هو تمرد على سلطة القانون. حسب الاشتباه فان مستشاري نتنياهو استخدموا مكانتهم كممثلين لرئيس الحكومة من اجل الدفع قدما بمصالح دولة تؤيد الارهاب. وقد فعلوا ذلك بدون صلاحية أو سلطة. رغم خطورة الاتهامات فان رئيس الحكومة نفسه لم يتوقف عن اساءة استخدام مكانته من اجل التدخل الفظ في التحقيقات بواسطة تصريحات علنية. في هذه التصريحات ينقل لمن يتم التحقيق معهم رسائل تتعلق بالتحقيق وما الذي يتوقع منهم في اطاره. يصعب فهم لماذا هو لم يتم طلب منه دفع الثمن بسبب ذلك. هذا الموضوع ليس موضوعنا في هذه المرة.
رأي نائب المستشارة يلقي الشك على احتمالية ان يكون بالامكان اصلاح العيوب التي نشأت من قرار تعيين زيني، وتعيينه فيما بعد. للاسف، ليمون لا يبرر هذا الاستنتاج ايضا من ناحية جوهرية، وهو يفسر العيوب في سلوك زيني التي تلقي بظلال ثقيلة على اخلاص المرشح لسلطات القانون.
لكن الجزء الاكثر اشكالية في هذا الراي هو العلاج المقترح للمرض، الذي هو بمثابة “نحن بدأنا الاغنية من البداية”. ليمون قال ان الحل القانوني هو نقل الصلاحية لوزير آخر، الذي سيجلب مرشح امام الحكومة واجراء التعيين سيبدأ من البداية. هو يعترف بذلك بان هناك شك كبير في ان الوزير الذي سيكون مكلف بتعيين رئيس الشباك سيعمل كيد طويلة لرئيس الحكومة، ويقترح لهذا المنصب المرشح الذي يريد نتنياهو تعيينه “بدون فحص واستخدام الاعتبارات كما هو مطلوب”. الرد المقترح على ذلك هو تطبيق “قواعد متشددة” على اجراء التعيين الجديد، الذي سترافقه استشارة قانونية، ويكون منظم وموثق. المرشح الجديد يتم تقديمه للحصول على مصادقة الحكومة فقط بعد الفحص الاولي للجنة غرونس لشؤون طهارة المعايير للشخص المعين ولاجراء التعيين.
من لا يريد أن يخدع نفسه فانه من الواضح له ان أي وزير ستنقل اليه الصلاحية سيتم استخدامه كاداة في يد المنتج، الذي هو رئيس رئيس الحكومة. في الظروف الحالية فان مصادقة الحكومة على التعيين الذي سيتم عرضه مضمونة من البداية. الطلبات الاجرائية ربما ستضفي مظهر سليم على الاجراء ولكنها لن تحل المشكلة من جذورها. قد يكون تصميم الرزمة جيد، لكن النتيجة معروفة مسبقا.
من المؤسف ان المستشارة القانونية للحكومة تؤيد هذا الاجراء، الذي يستدعي التلاعب والنفاق والتغطية على اجراء وهمي بأنه اجراء سليم. من الواضح انه بدون استبدال العقل بعقل جديد فانه لن يمكن القيام باجراء لا يرتكز الى الاجراء المعيب لرئيس الحكومة. هكذا لا تعمل دولة قانون. من غير الواضح ان الحكومة المتمردة ستوافق على احترام رأي ليمون الملزم. ولكن حتى لو فعلت ذلك فهذا سيكون مجرد استعراض للقوة. الحكومة ستستخدم سلطتها لتعيين اعضاء في لجنة غرونس، الذين سيكون دورهم تحليل الحرام. يصعب تخيل أي مخرج من هذا المازق باستثناء تمديد ولاية رونين بار الى حين انتهاء التحقيقات في قضية قطر.
قبل النهاية، من المهم التوضيح بأن كل ما قيل هنا ليس من شأنه ان يشرعن تعيين زيني في هذا المنصب، مهما كان الاجراء. حتى لو كان مناسب لهذا المنصب من ناحية مهنية ضيقة، وعلى ضوء خلفيته هو غير مناسب، فان تعيينه يدل اكثر من أي شيء آخر على النظام الذي يعمل رئيس الحكومة على تاسيسه في اسرائيل. أي شخص مسيحاني جدا الى درجة انه لا يصلح لمنصب السكرتير العسكري فانه سيسخر جهاز الامن العام لخدمة اجندة الحرب الخالدة. في عهده سيحظر المس بالمسيحانيين، أي اليهود المشتبه فيهم، وليرحم الله العرب. كل من يؤمن بالحرب الخالدة سيجلب علينا حرب خالدة، أي الدمار.
-------------------------------------------
هآرتس 28/5/2025
بدون حسم من يحكم غزة بعد حماس فانها مرشحة للفوضى
بقلم: جاكي خوري
رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو يكثر من التصريح بأن احد اهداف الحرب هو هزيمة حماس، لكن الجمهور يستحق شفافية ايضا فيما يتعلق بالقضية الساخنة بدرجة لا تقل عن ذلك – القرارات الاستراتيجية للحكومة فيما يتعلق بمستقبل قطاع غزة، هذا اذا وجدت قرارات كهذه. ما الذي سيحدث في القطاع في اليوم التالي لتحرير المخطوفين، وفي اليوم التالي للتدمير والكارثة؟ هل توجد لدى المستوى السياسي رؤية حقيقية أو أن اسرائيل تهاجم بدون توجه؟.
الواقع بسيط: قطاع غزة مع 2 مليون من سكانه لا يمكن ان يبقى في فراغ سلطوي لفترة طويلة. حكم حماس تصدع الآن، ومعه ينهار ايضا النظام المدني الاساسي. عائلات مسلحة، سارقون، مجموعات متطرفة، اصحاب مصالح، بقايا فتح والسلطة الفلسطينية، جميعها تتنافس فيما بينها في كل حي وعلى كل معبر وعلى كل مركز قوة لا توجد فيه حماس. اذا لم يتم اتخاذ قرار اسرائيلي حاسم فيما يتعلق بمستقبل القطاع فان الفراغ سيمليء بقوى اكثر خطرا.
واضعو السياسة يقفون امام ثلاثة احتمالات، كل واحد منها ينطوي على ثمن واخطار. الاحتمال الاول، الذي هناك من يتحدثون عن الآن بشكل علني، عودة الى سيطرة اسرائيلية في القطاع وحتى اعادة اقامة المستوطنات هناك. ولكن هذا الاحتمال هو رغبة خطيرة اكثر مما هو سيناريو قابل للتطبيق. أي محاولة لتحقيق هذا الحلم سيزيد العداء لاسرائيل والشعور بالاغتراب في اوساط الجمهور الفلسطيني. حكم عسكري مباشر لـ 2 مليون مواطن معاد سيحتاج الى مليارات من ميزانية الدولة وتخصيص عشرات آلاف الجنود وتشغيل ادارة مدنية وخدمات وبنى تحتية في غزة. اسرائيل ستضطر الى مواجهة انتقاد دولي لاذع، واحتمالية التوصل الى اتفاقات تطبيع مع الدول العربية ستتضاءل. شهية اليمين المسيحاني في اسرائيل ستزداد، وهو سيطمح الى تعميق الطرد والتطهير العرقي الذي يحدث الآن في الضفة الغربية من اجل تحقيق الهدف العلني – دفن حلم الدولة الفلسطينية.
بدلا من ان تتحمل اسرائيل السيطرة على القطاع، هي يمكنها السماح بعودة السلطة الفلسطينية بدعم مصر والسعودية والمجتمع الدولي. ولكن بدون افق سياسي حقيقي بالنسبة للفلسطينيين فان السلطة الفلسطينية ستعتبر قوة وساطة منفصلة في افضل الحالات، ومقاول من الباطن لاسرائيل في اسوأ الحالات. عودة السلطة الى غزة يمكن ان تنجح فقط اذا حدثت كجزء من عملية اوسع، تشمل المصالحة الفلسطينية الداخلية والتعهد باجراء الانتخابات والاعتراف بالحاجة الى التوصل الى تسوية سياسية. ليس ادارة اخرى للنزاع، بل محاولة حقيقية لحل النزاع. أي اقتراح وسط آخر لا يمكن ان يوفر الرد على المدى البعيد، وبعد بضع سنوات – عندما ستلتئم جراح الحرب الحالية، هذا اذا حدث ذلك – سنجد انفسنا مرة اخرى امام حرب.
الاحتمال الثالث هو الاكثر خطورة والاكثر واقعية. في ظل غياب حسم اسرائيلي بخصوص مستقبل القطاع، وبدون حكم عسكري اسرائيلي، وبدون دخول السلطة الفلسطينية، فان قطاع غزة سيتم تركه للمليشيات، وسيتحول بسرعة الى مقديشو الشرق الاوسط، فوضى مليئة بالسلاح، والايديولوجيا المتطرفة والمرتزقة الذين سيوزعون المواد الغذائية ويمكنون الجهات الانتهازية في اسرائيل وفي الساحة الفلسطينية من تحقيق مكاسب خاصة على حساب المدنيين.
هذا السيناريو المخيف لن يكون في الصومال، ليبيا والسودان، بل سيكون على بعد ساعة سفر من تل ابيب. من يعتقد ان هذه الفوضى ستبقى “لديهم” سيخيب امله. العداء تجاه اسرائيل سيزداد فقط، والجريمة والعنف سينزلقان الى ما بعد حدود القطاع، واسرائيل ستتضرر ايضا من التهريب. في سيناريو متطرف ايضا المعابر يمكن ان تنهار.
الجمهور في اسرائيل يستحق الحصول على اجابة على ما سيحدث في اليوم التالي للحرب. بدون قرارات استراتيجية ورؤية واضحة فان أي نصر تكتيكي سيكون قصير، وكل نجاح على الارض سيكون فقط المقدمة للمواجهة القادمة. الحكومة الاسرائيلية ورئيسها مجبرون على التوقف عن الاختباء وراء شعار “هزيمة حماس”، والبت بمرة واحدة فيما سيتم فعله في غزة.
-------------------------------------------
معاريف 28/5/2025
في غزة أقمنا دولة فلسطين
بقلم: افرايم غانور
في الوقت الذي رقص فيه ايتمار بن غير وبتسلئيل سموتريتش ومن لف لفهما على جبل البيت (الحرم) مع اعلام إسرائيل، هتفوا وتمنوا إعادة بناء الهيكل واستيطان متجدد في قطاع غزة، فان صور الفظائع عما يجري في القطاع المدمر تملأ كل الشاشات في العالم، تزيد بقدر واضح الكراهية لدولة إسرائيل وترفع بشكل حاد مستوى اللاسامية في كل العالم.
هذا يحصل بينما يواصل نتنياهو رش الملح على جراح عائلات المخطوفين ببيان يبعث توقعات وآمال: “ان لم يكن اليوم، فغدا يمكننا أن نبشر بشيء ما”، وبعد ساعة يتبين أن هذا بيان عابث، خدعة أخرى من رئيس وزراء عديم المشاعر والحد الأدنى من التعاطي تجاه عائلات المخطوفين حتى بعد نحو 20 شهرا من الحرب. هذا يحصل فيما أن الحكومة ومن يقف على رأسها يقلبون العوالم كي يعينوا رئيس شباك موال ومتفان لاحتياجاتهم، يفترض أن يخدم الانقلاب النظامي في ذروته حين لا يكون يعنيها في هذه الأيام الصعبة هو توسيع صلاحيات الحاخامين من خلال قوانين جديدة تتيح لهم ان يقرروا ويبحثوا في شؤون مدنية.
في هذه الساعات تماما، فيما يشدد الجيش الإسرائيلي الحرب التي لا تنتهي في قطاع غزة حيال فلول حماس، فان أوروبا تشدد النبرة المهددة تجاه إسرائيل. لمن لا يزال لم يسمع ولم يعرف – في الشهر القادم سينعقد في الجمعية العمومية للأمم المتحدة في نيويورك مؤتمر دولي بمبادرة فرنسية – سعودية هدفه إقامة الدولة الفلسطينية. وذلك من خلال الترويج للمبادرة الفرنسية لحل الدولتين للشعبين، وهو الميل الذي حسب التقارير الأخيرة من فرنسا يوجد لهم مؤيدون كثيرون في العالم وعددهم آخذ في الازدياد. من يفترض أن ينضم الى هذه المبادرة هي كندا، بريطانيا، اسبانيا، استراليا، بلجيكا والدول الاسكندنافية. كل المحاولات لمنع الحقيقة والواقع المرير الذي خلقته هذه الحكومة على مدى نحو 20 شهرا من الحرب، إذ لم تعرف كيف تحول النصر العسكري الى حل سياسي – امني في قطاع غزة، لن تنجح في الغاء الحقيقة التاريخية: في قطاع غزة، في حرب السيوف الحديدية وفي حملة “عربات جدعون” أقمنا الدولة الفلسطينية.
حكومة مسؤولة وبراغماتية كانت في هذه الساعات ستقلب العوالم كي تزيل شر القضاء المرتقب من ذاك المؤتمر في الأمم المتحدة وتعمل بكل قوتها لاعادة المخطوفين من خلال وقف الحرب في غزة. كل هذا في الوقت الذي تأتي به صور الفظاعة من قطاع غزة، وأبرياء يقعون ضحايا الحرب، وصور أطفال، نساء وشيوخ جوعى تجعل الجيش الإسرائيلي جيش زعران، مجرمي حرب عديمي الرحمة، فيما ان الواقع بالفعل يختلف تماما. وهكذا – هذه الحكومة بسلوكها الفاشل والمجرم تخدم نوايا حماس واراداتها.
واضح لكل ذي عقل حتى قبل المؤتمر في نيويورك، بان استمرار الحرب والازمة الإنسانية المصورة في قطاع غزة يجلبان على دولة إسرائيل آثار قاسية جدا ستضعضع مكانتها في العالم – بالتشديد على آثار اقتصادية سيكون لها تأثير حقيقي وفوري على حياتنا. وعندما نسمع فردريش ميرتس، المستشار الألماني في احدى الدول الصديقة الكبرى لإسرائيل يقول: “لا يمكن تبرير شدة الهجوم الحالي لإسرائيل في قطاع غزة. لا افهم ما هو هدف الجيش الإسرائيلي”، عندما يدعو أعضاء البرلمان الالماني الى فرض حظر سلاح على إسرائيل وعندما مأمور الرياضة في الاتحاد الأوروبي غلين ميكاليف ينضم في موقفه الى الجبهة الأوروبية التي تبلورت ضد إسرائيل ويطالب بتجميد إسرائيل من الساحة الدولية مثل روسيا وبيلاروسيا، فان هذا يجب ان يوقظ هذه الحكومة الرهيبة بتفكير آخر، للفهم بان لا مفر من إعادة المخطوفين ووقف الحرب – ومن الأفضل ان يكون هذا مبكرا حتى لو بساعة واحدة.
------------------------------------------
يديعوت احرونوت 28/5/2025
600 يوم من الفشل القيادي
بقلم: اليشع بن كيمون
600 يوم مر منذ نشبت الحرب في قطاع غزة وبنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل، يواصل الوقوف في المفترق، متردد، بلا قرار. هو لا يسير حتى النهاية لانه يحب أن يبقي الخيارات مفتوحة. الا يحسم. والنتيجة هي حرب طويلة، دامية، فيما أن كل واحد في محيط نتنياهو يحاول أن يجره وفقا لارادته، من ترامب وويتكوف في الغرب وحتى سموتريتش وبن غفير في الشرق.
الأهداف كانت واضحة في بداية الطريق: تدمير القدرات العسكرية والسلطوية لحماس؛ تحرير كل المخطوفين؛ وضمان أمن بعيد المدى لإسرائيل. غير أن بعد 600 يوم، الجيش الإسرائيلي بذل جهدا عسكريا عظيما، هدم أجزاء واسعة من غزة وقتل، حسب التقرير، نحو 20 الف مخرب من حماس، بمن فيهم مسؤولين كبار مثل يحيى ومحمد السنوار. البنى التحتية العسكرية لحماس تضررت بشدة، لكن المنظمة لا تزال حية، تتنفس وتعمل. خلايا صغيرة تواصل المقاومة، وفي شمال القطاع اضطر الجيش الإسرائيلي ان يعود المرة تلو الاخرى الى المناطق إياها. خطة توزيع المساعدات الإنسانية مباشرة الى السكان استهدفت اضعاف حماس، ويدعون الان بانها هي بالفعل انعطافة، لكن هكذا ادعوا في الماضي أيضا بالنسبة لمستشفى الشفاء وبعدها بالنسبة لرفح ومحور فيلادلفيا. في النهاية، بلا تقدم سياسي الى كيان يأخذ السيطرة في القطاع الزمن وحده يتغير، اما الواقع فلا.
المخطوفون؟ من اصل 251 امرأة، طفل، رجل، جندي ومجنده اختطفوا، 145 اعيدوا في صفقات مختلفة. و 58 لا يزالون محتجزين في غزة، بعضهم لم يعد على قيد الحياة. حكومة نتنياهو فشلت في خلق روافع ضغط ناجعة على حماس. ليس لدي توقعات من منظمة إرهاب سافلة لكن لدي توقعات من حكومتي التي ينبغي لها أن تتخذ خطوات تدفع الإرهابي الذي يحتجز المخطوفين لان يفهم من الأفضل له أن يستسلم. وهذا لم يحصل.
الامن لإسرائيل؟
حماس تواصل اطلاق الصواريخ، حتى وان كانت بشدة متدنية. الحوثيون من اليمن يواصلون ازعاج مئات الاف من السكان في ارجاء البلاد وسكان غلاف غزة لم يعودوا جميعا الى بيوتهم، رغم معدلات العودة العالية التي تعرضها مديرية تكوما (انبعاث). سوريا تسخن من جديد والامن لم يتبقَ الا مثابة وعد.
نتنياهو عالق. في كل مفترق حرج يمتنع عن القرار. عندما كان مسار لوقف النار، توقف – مرة بسبب ضغط سياسي، مرة بسبب معارضة الجيش او الشباك. عندما كانت إرادة لاحتلال أراض واستيطانها، هذا أيضا توقف مع تصريحات مثل “لن أوطن في غزة”. والنتيجة هي ورطة استراتيجية: لا هنا ولا هناك. رئيس الأركان لا ينفذ الأوامر، رئيس الشباك عديم الثقة والمستشارة القانونية “تعرقل العمل”. اختبار النتيجة: 600 يوم من الحرب لم تحقق نتائج ذات مغزى.
لكنكم ستتفاجأون، عندما يريدون القرار – يمكن احداث تغيير. توجد ساحة واحدة تحقق فيها الحكومة رؤياها، تندفع الى الامام، تزيل الحواجز وتقلب الواقع بعد عشرات السنين. يمكن ان نحب هذا ويمكن ان لا، لكن في يهودا والسامرة، بخلاف غزة، إسرائيل تثبت أنها قادرة على أن تغير الواقع. الجيش يستخدم قوة دقيقة، يفكك مخيمات لاجئين، يدخل الى مراكز المدن في وضح النهار ويخلق حرية عملياتية لم يشهد لها مثل منذ سنين. مستوى الإرهاب انخفض جدا، والاستيطان يندفع الى الأمام بوتيرة مدوية. رؤساء مجالس المستوطنين يتحدثون عن الاستيلاء على الأراضي وإقامة مستوطنات بـ اهلا اهلا. توجد جماهير تعارض تعميق السيطرة خلف الخط الأخضر، لكن لا يمكن التنكر للحقيقة: في يهودا والسامرة توجد نتائج. في غزة؟ فقط تردد، معاذير واحساس بتفويت الفرصة.
غزة هي ليست فقط ساحة معركة – هي اختبار للقيادة الإسرائيلية وطريقة لادارة اتخاذ القرارات. صحيح حتى الان، هذا الاختبار فشل.
-------------------------------------------
هآرتس 28/5/2025
احتفال بالإبادة الجماعية: يتقدمهم بن غفير.. من “مات نبيهم” إلى “أغلقنا مدارسهم بقتل أطفالهم”
بقلم: أسرة التحرير
الشعار الجديد الذي احتل “مسيرة الأعلام” هذه السنة في يوم القدس، إلى جانب الشعارات الكلاسيكية المعروفة “فلتحرق قريتكم”، “محمد مات” و”الموت للعرب” هو “في غزة لا تعليم، لم يبقَ هناك أطفال”. ظاهراً، لا يدور الحديث مرة أخرى إلا عن نشيد عنصري ومنكر. فهل “الموت للعرب” أقل فظاعة من النشيد الجديد؟ ومع ذلك، من الصعب تجاهل الذكر الصريح، المبتهج، لأطفال موتى. كما من الصعب تجاهل حقيقة أن هذه الدعوات تنطلق في دولة تتنكر لموت جماعي لأطفال في غزة منذ بضعة أسابيع.
هذا الأسبوع انتظمت دولة كاملة، من كل جوانبها، كي تشكك في حقيقة أن الجيش الإسرائيلي قتل تسعة إخوة وأخوات، كلهم أبناء أقل من 12 سنة، في هجوم واحد. في الأسبوع الماضي، أثار رئيس الديمقراطيين يئير غولان عاصفة حين قال إن “أي دولة سوية العقل لا تقتل الرضع كهواية”. هذا قول واضح القصد – ومع ذلك، قلة امتنعوا عن المشاركة في سيرك التنديدات ضده.
التهجم على غولان تم إثباته على نحو أفضل من كل شيء، لأن أقواله لمست عصباً مكشوفاً. فالجمهور يكبت ما تفعله إسرائيل في غزة: عشرات آلاف القتلى، غالبيتهم الساحقة ليسوا من رجال حماس، ومنهم نحو 18 ألف طفل. حتى من يعترف بالأرقام، يقنع نفسه بأن قتل الأطفال “ضرر جانبي” ومحتم. لكن عندها يأتي عشرات آلاف المشاركين في “مسيرة الأعلام” ويثبتون بأن النقيض التام هو الصحيح: قتل الأطفال في غزة ليس نتاجاً مرفقاً بالأسف، بل تطلع عنصري تعبر عنه هذه الجموع بصوت عال ومبتهج فيما هي تسير في شوارع العاصمة.
“لا تعليم في غزة، لم يبقَ هناك أطفال” – هذا احتفال بالإبادة الجماعية. دولة سوية العقل لا تندد بمن يتساءل عن قتل الأطفال، بل من يحتفل بهذا القتل. لكن إسرائيل، مثلما رأينا مرة أخرى في يوم القدس، تسير نحو فقدان سواء العقل.
رعاع عنصري وعنيف يعم مجتمع بكامله. لكنه في إسرائيل يجلس على طاولة الحكومة ويملي السياسة. وعليه، فلا يمكن شطب أحداث “مسيرة الأعلام” بادعاء أنها ظاهرة هامشية. بطل السائرين هو وزير الأمن القومي بن غفير. فهو لا يستقبل فقط بإنشاد “الموت للعرب”، بل إنها دعوة لسياسة رسمية يعمل هو عليها ويطبقها.
لا يمكن الاستمرار مع غض البصر في ضوء التطرف داخل المجتمع الإسرائيلي. فدعوات الإبادة الجماعية تطبعت تماماً. فلئن حاولوا نكران النكبة من قبل، فها هو اليمين الإسرائيلي اليوم يدعو على رؤوس الأشهاد إلى نكبة ثانية. منظمة “إن شئتم” علقت يافطة كبرى كتب عليها “بدون نكبة – لا نصر”. الكثيرون من السائرين حملوا هذا الشعار على قمصانهم. دولة سوية العقل لا تدعو إلى نكبة. دولة سوية العقل لا تحتفل – برعاية وزراء وبتمويل بلدي – بقتل الأطفال في غزة. لكن إسرائيل تحتفل. وسواء العقل يبدو كذاكرة بعيدة.
-------------------------------------------
معاريف 28/5/2025
منعطف حاسم: انطلاق خطة تفكيك "حماس"
بقلم: عاميت ياغور
منذ عام ونصف العام أتحدث وأكتب عن هذا، ولحسن حظي يبدو أن الأمر يتحقق أخيراً، بعد عام ونصف العام من التردد والاعتماد شبه الكامل على الجهد العسكري فقط (الذي حقق إنجازات ميدانية، لكنه لم يؤدِّ إلى تفكيك «حماس»، كسلطة وفكرة). يبدأ التغيير، هذا الأسبوع. كلّ مَن يفهم قليلاً ماهية «حماس» ويعرف ما يهمّها حقاً يدرك أننا نبدأ، هذا الأسبوع، ولأول مرة، بمعالجة العنصر الأساسي في قوة التنظيم، أي السكان والسيادة.
حتى الآن، كانت الاستراتيجية تقوم على الصدام العسكري مع «حماس». صحيح أن هذه الاستراتيجية ألحقت بها أضراراً كبيرة، لكنها من الناحية المفاهيمية وضعتها في موقع «الندّ» لإسرائيل، في حين أن الواقع بعيد عن ذلك تماماً. لم تنجح هذه العمليات في زعزعة حُكمها في قطاع غزة، على الرغم من كلّ الضربات العسكرية التي تلقّتها. من الآن فصاعداً، حتى لو لم تبلور إسرائيل هذا بوضوح، فنحن أمام تحوّل عميق في الاستراتيجية نحو نهج الإقصاء، أي جعل «حماس» تفقد دورها، ولا سيما في نظر السكان أنفسهم.
يستند الإقصاء إلى ركيزتين أساسيتين: الأولى، أن السكان سيحصلون على الغذاء والمساعدات، ولأول مرة، من جهة غير تابعة لـ»حماس» (الولايات المتحدة)، وأيضاً، لن تجني «حماس»، بعد الآن، الإيرادات الاقتصادية الحيوية لها في هذا التوقيت الحرج، فضلاً عن فقدانها مكوّن السيادة. أمّا الركيزة الثانية، فهي «خطة الهجرة الطوعية» التي تتجسد على أرض الواقع في هذه الأيام، وسواء أكانت قابلة للتنفيذ بالحجم المتداول أم لا، فإنها ستُلحق ضرراً بالغاً بالفكرة التي سعت «حماس» لترويجها من خلال عملية 7 تشرين الأول، وبالتالي تتحول من مدافِعة عن فلسطين وتسعى لتحريرها، إلى مؤذية لفلسطين، ومسببة لها نكبة ثانية.
من المفترض أن يكون لهذا تأثير مضاعف، مقارنةً بالضغط العسكري، الذي لا ينبغي التخلي عنه، بل يجب أن يدعم هاتين الركيزتين، باعتباره العمود الفقري لهما. في تقديري، سيحوّل هذا النهج الضغط الذهني والاقتصادي على «حماس « إلى أمر لا يُحتمل، وبعكس الضغط العسكري الذي تبيّن أن «حماس» قادرة على تحمُّله والبقاء في ظله، فإن التنظيم، في محاولته وقف هذا المسار الخطِر، قد يوافق على إطلاق سراح رهائن، بل ربما يُقدم على تنازلات غير مسبوقة.
المرحلة الأولى: توزيع الغذاء
الآلية: فتح مناطق إنسانية، بقيادة أميركية، وبتغطية أمنية إسرائيلية؛ الأكبر والأول بينها سيكون المجمّع الذي سيُفتتح في جنوب قطاع غزة في منطقة موراغ، حيث من المتوقع أن يصل إليه نحو 120 ألف فلسطيني من غزة، سيخضعون للتفتيش الأمني، ويتلقّون مساعدات إنسانية ذات جودة ومستوى عالٍ. سيكون التوزيع بالتجزئة (وليس بالجملة)، لكلّ أسرة بشكل فردي، مع تسجيل أسبوعي، ووفقاً لحجمها.
الوضع الحالي: الجهات الأميركية المسؤولة عن التوزيع، وهم أفراد شركة الأمن GHF، موجودون في الميدان حالياً، ومن المقرر أن يبدؤوا بالعمل خلال الأيام القليلة المقبلة. سيتم تمويل هذه العملية من خلال صندوق تبرعات خاص أُنشئ لهذا الغرض، وسيكون من الضروري تعزيز هذا الصندوق بمزيد من التبرعات لضمان استمرار النشاط في المدى الطويل.
التقدير: وفق السيناريو المرجّح، سيتدفق مئات الآلاف من سكان غزة إلى هذه المناطق الإنسانية، بهدف الاقتراب من نقاط توزيع الغذاء والمساعدات، والهرب من خطر المناورات العسكرية، ومن تهديد «حماس». وتجربة ناجحة في هذا النموذج ستُتيح تطبيق نموذج مماثل في مراكز إنسانية أُخرى من المقرر افتتاحها شرق خان يونس وجنوب محور نتساريم.
المعنى: لأول مرة منذ بداية هذه الحرب، تُنتزع من «حماس» الرافعة الأساسية التي تملكها على السكان، ولأول مرة في غزة، يظهر جمهور من الغزيين لا يخضع، بعد الآن، لسلطتها المباشرة، ولا يعتمد عليها في معيشته.
المخاطر: من المرجّح ألّا تُسارع «حماس» إلى مهاجمة الجهات الأميركية في القطاع (أفراد شركات الأمن الخاصة)، وستتردد كثيراً في الاستيلاء على الغذاء المُراقب والموزّع بعدد محصور مباشرةً في أفواه العائلات، الأمر الذي ربما يثير سخطاً شعبياً واسعاً ضدها.
التطور المتوقع: يُنظر داخل «حماس» إلى مسار الإقصاء، باعتباره تطوراً لا رجعة فيه (بعكس إعادة بناء القدرات العسكرية)، ولذلك، ستسعى لوقفه في أسرع وقت ممكن، عبر إطلاق سراح رهائن في المرحلة الأولى، وربما نشهد في المراحل اللاحقة تنازلات أكبر من «حماس»، في سبيل الحفاظ على بقاء قياداتها وأفرادها. في موازاة ذلك، تعاني «حماس» في غزة جرّاء أزمة اقتصادية حادة، ووفقاً لبعض التقارير، لم تعد قادرة على دفع رواتب ناشطيها بشكل منتظم.
استراتيجياً: سيتم إقصاء «حماس»، وستفقد مكانتها في نظر السكان، وستعاني جرّاء أزمة اقتصادية حادة، ونقص في الغذاء، وهو ما سيقود إلى إنهاء الحرب في غزة بالتدريج، وفقاً لشروط إسرائيل. إن تركيز السكان في جنوب القطاع وحول المراكز الإنسانية سيسمح بالبدء بتنفيذ خطة «الهجرة الطوعية» لكل غزيّ يختار ذلك.
عنصر بالغ الأهمية، الزمن: هناك حاجة إلى تحقيق تجربة نجاح سريعة جداً، سواء من حيث الاعتماد على الدعم الأميركي المحدود، أو تأمين التمويل اللازم لاستمرار النشاط في المدى الطويل. هذا هو النموذج الذي كان يجب على إسرائيل تطبيقه منذ بداية سنة 2024، كجزء من الجهد المدني ضد «حماس»، بالتزامن مع الجهد العسكري. إلّا إن عدم تطبيقه حينها أطال أمد القتال، وتسبب بدفع أثمان باهظة. لكن، أن تأتي متأخراً خير من ألّا تأتي أبداً.
المرحلة الثانية: تنفيذ خطة «الهجرة الطوعية»
الآلية: فتح معابر لخروج سكان غزة نحو حياة جديدة في دول أُخرى خارج القطاع، لمن يختار الهجرة طوعاً، في مقابل تقديم حوافز اقتصادية وغيرها.
الوضع الحالي: بدأ في إسرائيل، فعلاً، نشاط إدارة مخصصة للهجرة، تُجري، حالياً، مفاوضات مع عدد من الدول الأفريقية، بهدف التوصل إلى اتفاقيات بشأن استقبال مهاجرين من غزة. بعض الدول أبدى، فعلاً، استعداداً مبدئياً للاستيعاب. الآن، يتركز النقاش على مسألة التمويل والمقابل الذي تطلبه كل دولة (من أموال ودعم أميركي في قضايا سياسية متنوعة، وغير ذلك، بما في ذلك مطالب لا توافق عليها إسرائيل). لكن قبول الاستيعاب لا يشكّل سوى جزء من الخطة. أمّا الجزء الثاني والأهم فهو برنامج استيعاب منظّم ومفصّل، يشمل إقامة وتطوير بلدات مخصصة، وتوفير شروط سكن لائقة، وأنظمة تعليمية للأطفال، وفرص عمل للكبار.
تقدير: وفقاً لاستطلاع أجراه معهد الاستطلاعات التابع لخليل الشقاقي في بداية أيار فإن نسبة كبيرة من سكان غزة (43%) أعربت عن رغبتها في الهجرة من القطاع، بينما صرّح 49% منهم بأنهم سيتوجهون مباشرةً إلى إسرائيل لتسهيل خروجهم. وفق هذه المعطيات، يُقدّر أن ما لا يقلّ عن مليون غزي قد يستجيبون لخيار الهجرة. كما هي الحال في برنامج توزيع الغذاء، فإن جودة المعالجة وسلّة الاستيعاب يجب أن تكون عالية المستوى، من أجل توفير تجربة نجاح لكلّ مهاجر يسعى لبناء حياة جديدة، بيت، ومجتمع، ومصدر رزق، وتعليم. من المتوقع أن ينقل المهاجرون الأوائل تجاربهم إلى عائلاتهم وأصدقائهم داخل غزة، الأمر الذي يمكن أن يُحفّز آخرين على اتخاذ القرار والهجرة.
المخاطر: المسألة التمويلية، إن مصدر التمويل الحالي هو من إسرائيل والولايات المتحدة ومنظمات دولية. كذلك، أعربت جهات إنجيلية عن استعدادها للمساهمة وجمع التبرعات لمصلحة برامج الاستيعاب في الدول المستقبِلة.
الفرص: إن السكان الذين سيتجمعون في المناطق «المعقّمة» حول مراكز المساعدات الإنسانية وتوزيع الغذاء يشكّلون الفئة الأكثر إتاحةً لتنفيذ البرنامج من دون خطر مباشر من تدخّل «حماس».
من المهم أن نفهم: سواء أنجحت خطة «الهجرة الطوعية» بالكامل أم لا، فإن مجرد البدء بتنفيذها سيؤثر في «حماس» جوهرياً؛ إذ ستُشكّل تهديداً وجودياً لمكانتها المفاهيمية، وتتناقض كلياً مع سبب وجودها، وتتحوّل من «مُدافع عن فلسطين» إلى مَن يُحمَّل المسؤولية عن إلحاق الأذى بها.
من المرجّح أن تحاول «حماس» إيقاف هذه الخطة، كما ستحاول منع خطة توزيع الغذاء؛ ليس من خلال القوة العسكرية في وضعها الحالي، بل ربما من خلال خطوات سياسية، مثل الموافقة على إطلاق سراح رهائن في مقابل وقف تنفيذ الخطة، أو حتى التوصّل إلى استنتاج جذري أنها فقدت مقوّمات قوتها الأساسية، وبالتالي قبول نزع سلاحها ونفي كوادرها من القطاع، على غرار ما حدث مع منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت خلال حرب لبنان الأولى.
في تقديري، إذا نُفّذت الخطتان على نحو جيد، فهما تشكلان نقطة تحوّل حاسمة في المعركة نحو إنجاز لا رجعة فيه؛ إنجاز قد يؤدي إلى إطلاق سراح رهائن، في محاولة لوقف الانهيار، ثم إلى تفكيك «حماس»، بمجرد أن يُنتزع منها العنصر المركزي في قوتها.
------------------------------------------
عن «N12» 28/5/2025
خطة توزيع المساعدات في غزة تخفي كابوساً مرعباً
بقلم: عوفر شيلح
ظاهرياً، يخدم إدخال جهة خاصة لتكون مسؤولة عن توزيع المساعدات الإنسانية في غزة أهداف إسرائيل.
ستدخل المساعدات بطريقة آمنة ومنظّمة نسبياً، وستُوزَّع مباشرةً على سكان غزة، دون أن تستولي عليها «حماس»، أو جهات «إجرامية» أُخرى، وربما بذلك سيخفّ الضغط الدولي عن إسرائيل بسبب أوضاع الفلسطينيين في غزة، الذين نزح كثيرون منهم من منازلهم ويعانون جرّاء الجوع المدقع وخطر الموت.
ستفقد «حماس» جزءاً من دعمها الاقتصادي وقوتها، كهيئة تسيطر على حياة الغزيين. وكل ذلك، ظاهرياً، من دون تدخُّل مباشر من إسرائيل، وبتمويل أجنبي وتنفيذ شركات أميركية ومرتزقة.
لكن هذه الخطة، حسبما تكشف التحقيقات الصحافية في الأيام الأخيرة، أُعدّت خلف الكواليس بطريقة غير منظّمة، وبمشاركة غير واضحة من ضباط في الخدمة الفعلية، ورجال أعمال يخفون هويتهم، وشركات أميركية غير معروفة جيداً.
الخطة مليئة بالفجوات أكثر من مضمونها. ليس واضحاً مَن سيموّل إطعام نحو مليونَي إنسان، حتى لو كان الهدف، بحسب تعبير تستخدمه جهات إسرائيلية بشكل يثير الاشمئزاز، هو «إبقاؤهم فوق حدّ الجوع قليلاً».
ومن غير الواضح ما الذي سيحدث، إذاً، أو بالأحرى، عندما تهاجم «حماس» مواقع التوزيع القليلة التي يُفترض أن مئات آلاف العائلات ستتلقى منها وجباتها الأسبوعية.
ومَن سيوقف الحشود الجائعة التي تنهب كل ما يمكن نهبه.
الخطة ستجعل إسرائيل المسؤولة الوحيدة
الأهم من ذلك، أنه لا يوجد أيّ سبب للاعتقاد أن هذه الخطة الناقصة ستقلل الضغط الدولي على إسرائيل. بل العكس تماماً. ستظل إسرائيل تُعتبر مسؤولة مباشرة عن كل ما يحدث: عن الاضطرابات التي ستنشأ، حتماً، عن تصرفات المرتزقة إذا شعروا بالخطر، وعن الجوع، وعن التهجير المستمر من المنازل، وعن الكثافة السكانية الخانقة في منطقة تعادل ربما ربع مساحة القطاع، وعن عدد القتلى من المدنيين في غزة، الذين يُقتلون كل يوم من أجل هدف عسكري غير واضح.
من الواضح أن هناك مشروعاً أكبر
الأمر المؤكد هو أن هذه المبادرة، التي بدأت بعض الجهات فعلاً بجني الأرباح المالية منها، وفي بعض الحالات، بطريقة تقترب من الفساد وتضارُب المصالح من طرف الذين يرتدون الزي العسكري، هي جزء من خطة أكبر كثيراً. مَن لا يصدق، يمكنه أن يقرأ المقال الذي نُشر في «معهد القدس»، وكتبه ضابطان في الاحتياط ذكرت التحقيقات الصحافية اسميهما: العميد (احتياط) إيرز وينر والعقيد (احتياط) غابي سيبوني.
تحت عنوان «إلى أين تتجه الحملة على غزة؟»، كتب الضابطان، وهما من الشخصيات الرئيسة في «قضية هرباز» المنسية، [وثيقة مزورة كتبها المقدم بوعاز هرباز في سنة 2010 لتشويه سمعة قائد المنطقة الجنوبية، آنذاك، يوآف غالانت]، أن «الشرط الأساسي لتحقيق هدف الحرب، الذي يرمي إلى عدم تشكيل غزة تهديداً لإسرائيل طويل الأمد، يتطلب سيطرة أمنية كاملة على قطاع غزة من خلال الحضور في الميدان، وليس من خلال السيطرة عن بُعد... يجب على إسرائيل، بوساطة الجيش، أن تتولى مسؤولية توزيع المساعدات الإنسانية، عبر شركات مدنية وجِهات محلية، إلى جانب مكونات من الحكم العسكري الضرورية، وتهيئة الظروف لتشجيع هجرة سكان غزة».
الدفع نحو التهجير والاستيطان
في هذا السياق، يجب فهم الأحداث الأخيرة: هي جزء من تحقيق رؤية كاملة.
احتلال الجيش الإسرائيلي القطاع، والسيطرة على الأرض، ودفع السكان الغزّيين نحو منطقة ضيقة في ظروف إنسانية لا تُطاق.
إدخال جهات مدنية ستتحمل إسرائيل كامل المسؤولية عن أفعالها، وعندما تفشل - وهي ستفشل، في حال بدأت أصلاً - سيحلّ الجيش مكانها، لأنه لن يكون هناك طرف فلسطيني، أو عربي آخر، مؤهل للقيام بذلك. ثم يأتي تشجيع الهجرة، وأخيراً، الاحتلال الكامل والاستيطان، لأنه من دون ذلك كيف يمكن ضمان تحقيق أهداف الحرب؟
غياب أي بُعد سياسي
ما يغيب تماماً عن هذه الرؤية هو البعد السياسي. لا يوجد فيها أيّ اعتراف بأن إسرائيل، من خلال هذا المسار، ستتخلى عن رؤيتها بشأن إعادة تشكيل الشرق الأوسط.
لن يكون هناك تطبيع مع السعودية، ولا شراكة مع أيّ دولة في المنطقة، إذا استمرت إسرائيل في التصرف بهذه الطريقة في غزة.
أمّا بالنسبة إلى الأسرى الذين لا يزالون على قيد الحياة، فإن هذه الخطوة تعني أياماً طويلة من العذاب وخطر الموت.
الأثمان الدبلوماسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية ستكون باهظة، وبدأنا فعلاً بدفعها. والآن، بات واضحاً أيضاً مَن الذي يربح من وراء ذلك.
-----------------انتهت النشرة-----------------