تقرير : هوّة مستمرّة بين القول والفعل: الكلمة الأخيرة… ليست لأوروبا التي تحاول تحسين صورتها أمام شعوبها

على مدار عامين من الحرب “الإسرائيلية” على قطاع غزة، ظلّ الاتحاد الأوروبي يراوح مكانه في موقفه من الحرب. ولذا، فإن التصريحات الرسمية الصادرة عن دول أعضاء في التكتُّل، من بينها فرنسا وألمانيا وإسبانيا، بالإضافة إلى بريطانيا وكندا من خارجه، لم تَعُد تحمل أيّ مصداقية، خصوصاً أنها تقتصر على الإدانة الكلامية، بينما تستمرّ عقود التوريد، والتعاون العسكري، والتبادل التجاري مع الكيان.
وفي هذا السياق، بدأت بعض الدول الأوروبية، أخيراً، تتحدّث عن دراسة فرض عقوبات على “إسرائيل”، أو إعادة النظر في بعض الاتفاقات الثنائية معها، لكنّ هذه الخطوات لا تخرج عن كونها محاولات لتحسين الصورة أمام الشعوب الأوروبية، ولا سيما في ظلّ تصاعُد الضغوط الشعبية داخل القارة العجوز، والمطالبات المتصاعدة بوقف الدعم غير المشروط “لإسرائيل”.
والواقع أن الخطوة الأوروبية الأخيرة جاءت متأخّرة جداً، وبدت مرتبطة بحسابات سياسية داخلية، وبإشارات تأتي من واشنطن، وليس بقناعة حقيقية لدى القادة الأوروبيين بضرورة إنهاء المجازر في غزة. وكان وزير الخارجية الفرنسي، جان نويل بارو، أَطلق ما وصفته وسائل الإعلام بـ«الرسالة القاسية»، حين أعلن دعم بلاده إعادةَ النظر في اتفاق التجارة بين الاتحاد الأوروبي و”إسرائيل”، في خطوة قد تكون لها انعكاسات اقتصادية مدمّرة على الكيان الذي يعتمد على الصادرات إلى أوروبا. على أنه قبيل ذلك، جرى التلويح، في إسبانيا مثلاً، بإلغاء عقود تسليح مع الدولة العبرية، بعدد من ملايين اليوروهات، في ما سُوِّق إعلاميّاً باعتباره موقفاً حاسماً. لكنّ الواقع أشار إلى خلاف ما تقدّم؛ إذ تم الإبقاء على عقود أكبر بكثير، تصل إلى ما يقرب من مليار يورو، تربط الشركات الدفاعية الإسبانية بالكيان “الإسرائيلي”.
هكذا، تكتفي الحكومات بإصدار بيانات إدانة رسمية، بينما تستمر شركاتها الأمنية في تسليم الأسلحة، التي تُستخدم في قتل المدنيين، وتشريد الأطفال، وتدمير المستشفيات.
باختصار، ثمة سياسة واحدة عنوانها: المواربة في الموقف، والانتظار حتى آخر لحظة لتبنّي خطاب متّزن يُظهر أوروبا بصورة المدافع عن القانون الدولي، فيما هي تواصل دعمها الفعلي للعدوان وعمليات القتل والتهجير والإبادة.
ويبدو أنه من بين الأسباب التي دفعت بعض الدول الأوروبية إلى اتخاذ مسافة من السياسات التي يتبعها بنيامين نتنياهو، في الآونة الأخيرة، الإشارات الواردة من واشنطن بأن الدعم المطلق “لإسرائيل” قد يتراجع، ولو قليلاً، إذا استمرّت عمليات التجويع والقتل الجماعي في غزة، بلا سقوف ولا اعتبارات. ومن المفارقات أنه، حتى إدارة ترامب، لم تَعُد قادرة على الدفاع عن الوحشية الإسرائيلية، ما يشير إلى مستوى الفظائع التي تُرتكب بحق الشعب الفلسطيني في غزة.
ويدفع هذا الواقع، أوروبا إلى الانزياح نحو خطاب أكثر تشدُّداً ضدّ “إسرائيل”، وإنْ كان محسوباً، ولا يمسّ بالجوهر، في ما يمكن وصفه بـ«الانزياح السلحفاتي». لكنّ القرار الحقيقي لا يزال في يد واشنطن، كونها هي التي تحدّد مدى حرية التحرّك الأوروبي، سواء في فرض عقوبات أو في الضغط الحقيقي على تل أبيب، لوقف الحرب. أمّا على الجانب العربي، فيبدو الموقف أقرب إلى الشراكة غير المباشرة – بل أحياناً المباشرة – في الجريمة.
فالدول العربية التي ساهمت في تطبيع العلاقات مع “إسرائيل”، ودعمتها سياسيّاً واقتصاديّاً خلال العامَين الماضييَن، لم تقف فقط موقف المتفرّج، بل غطّت الجرائم، وسهّلت استمرارها عبر تقديم شرعية دولية لدولة الاحتلال. وعندما تحدّث بعضها عن «القلق» أو طالب بوقف الحرب، فإن موقفه فُهم بسهولة أنه مجرّد خطاب شكلي، لا يعكس أيّ جدّية في الضغط على “إسرائيل”، ومحاولة لتحسين الصورة أمام الشعوب، أو تحقيق مصالح ثنائية مع الولايات المتحدة وأوروبا.
بالنتيجة، ما يجري اليوم هو تضليل سياسي مزدوج: من جهة أوروبا التي تتّخذ من حقوق الإنسان ستاراً لنفاقها، ومن جهة عربية اختارت إمّا الصمتَ أو التواطؤ مع المجرم. أما المجرم الحقيقي، وهو “إسرائيل” بدعمٍ أميركي، فيستمر في ارتكاب جرائمه من دون رادع.