تجمّع البرغلية في ذاكرة عائلة شحادة

تجمّع البرغلية هو أحد التجمّعات للاجئين الفلسطينيين غير الرسمي، ويضمّ عدة مئات من العائلات الفلسطينية.
والتسمية "البرغلية" نسبة لمحمود برغل، الذي كان مالكًا لجزء كبير من أراضي المنطقة، وانتشرت التسمية بين الناس على أساس “برغل” نسبةً إليه، لتصبح لاحقًا “البرغلية” بإضافة “الـ” التعريف مرورًا بالاستخدام الشعبي.
وقد استقرّ جدّي وأعمامي في هذا التجمّع في أوائل الستينيات، وكان جدّي قد انتقل هناك بعد أن كان في النّفاخيّة جنوب لبنان.
لم يكن هذا التجمّع بذي مميزات، لم يكُن هناك كهرباء ولا بُنى تحتية للماء والصرف الصحي.
كانت زوجات أعمامي ينزلنَ إلى "المشروع" ليغسلنَ ويملأن جِرار الماء للاستخدام وليس الشرب. بينما مياه الشرب كانت من نبعٍ قريب. والمقصود بالمشروع مشروع القاسمية للريّ الزراعي.
كانت المهمة شاقة حيث كُنّ يصعدن الجبل وعلى رؤوسهن الجرار. وهذا الأمر كان بشكل يومي، حيث أن هذه المهمة كانت جزءاً من روتينهن اليومي، بالإضافة إلى الخبز على الطابونة. كُنّ يخبزنَ خبز الصاج كلّ على صاجها، حيث كُنّ أيضاً يخصصنَ يوماً لإحضار العيدان اليابسة، وورق الموز الذي يعمدنَ إلى تيبيسه للنار.
أفضل الخبز كان من تحت يدي زوجة عمّي محمد، حيث كان يعمد أبي لإحضار خبز من السوق ليستبدل به رغيفين من عندها.
زوجة عمي حسين كانت تخبز وأطفالها حولها وفي حضنها، وزوجة عمي إبراهيم كُنّ بناتها يساعدنها، وزوجة عمي موسى كلّ أولادها وبناتها يتساعدنَ في الخبيز.
الكلّ كان يخبز خبز الصاج ولكن جدّي لم يكن يحبّ سوى الخبز العادي من دقيق القمح.
كانت أمّي صغيرة السّن وقد تزوجت أبي في سن الرابعة عشرة من عمرها. لم تكُن على دراية بكلّ هذه الأمور التي كُنّ يقمنَ بها.
لم تكُن الحياة سهلة حينها، وكانت تفتقد المنطقة للكهرباء، فعمَدَ والدي لمدّ شريطٍ كهربائي من الشارع ليصل إلى البيت المتواضع الذي يقطنه في حضن الجبل في البرغلية.
في السبعينيات كان العدو الصهيوني يقوم بغارات على مناطق معينة في البرغلية مستهدفاً الفدائيين، وكانت الناس تهرب إلى المغارات المجاورة خوفاً من التعرّض للشظايا. وقد نجح والدي في أكثر من مرّة من النجاة من عدة غارات، وأذكر مرّة أخبرني بأنّه لُوحق من طائرة أغارت عليه مرّتين هو وأحدهم، ولكنهما نجحا في الاختباء في "الدواية" وهي مجرى مستطيل لعبور المياه وسط البساتين. الحظ كان حليفه ولم يكن حليف صديقه الذي أغارت عليه الطائرة أكثر من مرة لتقتله فيما بعد ويستشهد.
حياة النساء اللاجئات في تلك الفترة تُعتبر من أصعب الفترات في غياب وسائل الراحة وفي غياب كلّ مقومات الحياة الطبيعية. وهنا أتحدّث عن عائلتي الكُبرى التي قاست الكثير في ظلّ الظروف الصعبة، وكلّ ذلك لأنهم كانوا في انتظار العودة إلى فلسطين، حيث مرّت وقتها عشرين عاماً ولازالوا يؤمنون بالعودة إلى فلسطين.
وها نحن اليوم وبمرور سبع وسبعين عاماً ولا نزال على يقين العودة إلى ديارنا إلى أراضينا.
حينما أقول "البرغلية" الكلّ يستذكر شجرة توت جدّي التي كانت تغطي البيت، يستذكرون طعمها الحلو وأوراقها الخضراء الوارفة. في زيارة سريعة أخذتني عواطف ابنة عمتي أم شحادة رحمهما الله، لدار جدّي في البرغلية فما وجدتُ سوى جذع شجرة التوت وقد قُصّت، وبعض الحجارة التي كانت أساس البيت، وكأنهم لم يسكنوا وكأنهم لم يكونوا.
التقطت عدّة صور ومشيت وفي القلب حزن عميق.
كبُرت العائلات وكبر عديدها، فبدأ أعمامي بالانتقال، منهم إلى مفرق العباسية، ومنهم إلى أبو الأسود ومنهم إلى أنصارية، ومنهم إلى البساتين مقابل البحر في البرغلية، وأبي إلى وادي الزينة. بينما بقي عمي محمد أبو علي وبقيت عمّتي أم شحادة في البرغلية.
تمتلئ البرغلية بذكرياتٍ كثيرة لإخوتي عندما كانوا صغاراً، ويستذكرون دكان يوسف الفاعور في الضيعة ودكان كايد على مفرق البرغلية، ويستذكرون طريقهم إلى مدرسة الأنروا في القاسمية حيث كانوا يذهبون مشياً على الأقدام مع بنات أعمامي، ويُخبرني أخي يوسف كم كانت أمينة ابنة عمي محمد رحمهما الله تهتم بهم وتمسك بأيديهم، كم كانت حنونة! خلال طريق العودة الطويلة، كانوا يقطفون العليّق اليري، ويمرّون بالبساتين، وتتسخ ثيابهم، ويحضرون "الفرفحينة" لإمي. الطريق إلى المدرسة كانت طويلة وكان عليهم الاستيقاظ عند السادسة صباحاً للحاق بالدوام، ويُخبرني يوسف بأنّ المدرسة كان يأتي إليها التلاميذ من مختلف المناطق المحيطة، من الواسطة، من القاسمية، من أبو الأسود، من إرزاي، كنتُ بحالة صدمة لبُعد المسافات، خاصة أنهم كانوا مجموعة كبيرة من الأطفال من أولاد وبنات أعمامي، أي ما يزيد عن ٢٠ طفلاً.
اليوم البرغلية لها بلدية برئاسة إبراهيم الداوود، وإمام جامعها عدنان الداوود. ودخلت عليها تحسينات كثيرة من شبكة كهرباء وبنى تحتية.
تبقى ذكرى البرغلية المكان الذي يوماً ما كان يجمع عائلتي الكبرى، والمكان الذي يفوح بذكريات اللجوء المرّة، ويبقى المشروع يروي البساتين على امتداد السنين.

disqus comments here