“مقابلات خاصة مع نخب إسرائيلية”: الصهيونيّة مشروع احتلال والوضع القائم أسوأ من الأبرتهايد

لعلّ أبرز ما تُجمع عليه المقابلات التي يكتنفها كتاب “في مآلات إسرائيل تحت وطأة ماضيها: مقابلات خاصة مع نخب إسرائيلية” (المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية – مدار ضمن “مختارات ’قضايا إسرائيلية’”، 2024) من تأليف أنطوان شلحت وبلال ضاهر، هو تأكيد المُحاوَر معهم على الحق الفلسطيني بإنشاء دولة مستقلة، وإن كان ذلك لا يعيد فلسطين كلها لأهلها ولا يعيد اللاجئين الفلسطينيين في الشتات إلى أراضيهم، حيث يقابله إجماع آخر على حق الشعب الإسرائيلي بدولة أيضًا ليكونا جنبًا إلى جنب. وهو إجماع ينطوي على رؤية واقعية واستشراف لما سوف يحدث مستقبلًا لدولة إسرائيل من حمّام دماء في حال استمرّ الوضع على ما هو، مع توسّع النزعة اليمينية القومية المتشدّدة والمتطرّفة والتي لم تعد حالة شاذّة في المجتمع الإسرائيلي بقدر ما هي أحد أكثر المكوّنات عمقًا في المجتمع الإسرائيلي. والمُحاوَر معهم هم، وفقًا لتسلسل زمني تصاعدي للمقابلات، الدبلوماسي والدكتور عوديد عيران (2009)، البروفيسور مناحيم برينكر (2011)، عضو الكنيست الأسبق أوري أفنيري (2012)، عضو كنيست عن حزب العمل ورئيس حزب ميرتس يوسي سريد (2012)، المؤرّخ والسياسي مردخاي بار أون (2013)، المؤرخ والسياسي زئيف شتيرنهل (2013)، وقد شغلوا جميعهم مناصب سياسية وعسكرية حساسة، إضافة إلى الأديب أبراهام ب. يهوشواع (2014).
في تقديمه للكتاب، يؤكّد الكاتب أنطوان شلحت على مسألتين مهمّتين: أن قسمًا من المُحاوَر معهم لعبوا “دورًا عضويًا في الفعل الثقافي حين قاربوا الحيّز السياسي- الاجتماعي سعيًا للتأثير والتغيير” في المجتمع الإسرائيلي، وأن هذه المقابلات “لم تفقد صلاحيّتها الزمنيّة” مع استمرار حالة الحرب والصراع، ومن هنا تأتي أهمية نشرها وتوثيقها في كتاب، فهي أصوات عميقة قادمة من زمن ما قبل نشوء دولة الاحتلال ورافقت كل مراحل تطوّر هذا الكيان منذ أن كان اليهود لا يتعدّون الخمسة آلاف يهودي في كل فلسطين وصولًا إلى جنون الاستيطان مع ما رافق ذلك من احتكاك نفسي مع معاناة الفلسطينيين، وهذه الأصوات سعت للتأثير والتغيير في المجتمع الإسرائيلي عبر محاولة تفسير الحق الفلسطيني خاصة للأجيال الجديدة المصابة بلوثة التطرّف. كما يؤكد شلحت على بروز وطأة تأثير بنيامين نتنياهو منذ صعوده إلى سدّة الحكم في العام 1996 حيث كان همّه كبح كل الاتفاقيات مع الفلسطينيين، وتعزيز دور المتشدّدين عبر تجميع أتباع التيار الصهيوني- الديني حوله.
ومع استمرار وجود أمثال هذه النخب المثقفة في المجتمع الإسرائيلي التي تؤمن بوجوب إقرار دولة فلسطينية، إلا أن شلحت يرى أن النخب الحالية في اليسار الصهيوني، ومنذ حوالي ربع قرن، قد انكفأت بخطوات واسعة وانزاحت معاييرها نحو اليمين السياسي، ويأتي نشر هذه المقابلات في “استعادة تشخيص بعض النخب الإسرائيلية البارزة لما كان، ولما هو كائن، ولما يمكن أن يكون”.
ويرى الدبلوماسي السابق ورئيس “معهد دراسات الأمن القومي” بجامعة تل أبيب الدكتور عوديد عيران أن الحل الوحيد للنزاع بين الفلسطينيين والإسرائيليين هو أن يقدّم كلا الطرفين تنازلات من أجل الوصول لــ”حلّ الدولتين”، ولكنه يضيف أن كلا الطرفين ليسا جاهزين لتقديم هذه التنازلات، ليس على مستوى الطبقة السياسية فقط، بل على مستوى الشعبين أيضًا. ويرى أن لازمة العودة إلى حدود العام 1967 بحاجة إلى تعديل، وإجراء تبادل أراضٍ من أجل الربط بين الضفة الغربية وقطاع غزة، ومعتبرًا بأن تجميد الاستيطان مبدئيًا يساعد للوصول إلى حل الدولتين. ويرى عيران أن المشكلة تكمن في عملية تفكيك المستوطنات في الضفة الغربية التي لها مكانة لدى الإسرائيليين من الناحية التاريخية والدينية تختلف عن مكانة قطاع غزة عند تفكيك المستوطنات منها عام 2005، وحيث تبع ذلك إطلاق صواريخ من غزة، لذلك “فإن الإسرائيليين يرون أن إخلاء المستوطنات لا يضمن الأمن”، وهنا يتساءل عيران “هل هناك أحد ما يؤمن بأن أي رئيس حكومة في إسرائيل بإمكانه إخلاء مستوطنات؟”.
وعيران الذي كان مسؤولًا عن موضوع تطبيع العلاقات في أعقاب توقيع معاهدة سلام بين مصر وإسرائيل في عام 1979، يرى بأن مصلحة إسرائيل هي بإنهاء الصراع، وأنه ليس بالضرورة أن يرافق ذلك تطبيع علاقات، فالأهم هو تبادل المصالح وليس الثقافات. وعند سؤاله عن رغبة إسرائيل بإجراء مفاوضات ولكنها لا تريد اتفاقًا جدّيًا، أشار عيران إلى أن ذلك يرتبط بالقدرة على “البقاء في الحكم”؛ وعاد عيران إلى رئيس الحكومة الأسبق إيهود باراك الذي كان أول من فتح النقاش العام حول ما كان يُعتبر “بقرات مقدّسة” مثل تفكيك المستوطنات، وأن باراك كان يريد التوصل لاتفاق مع الفلسطينيين لكنه وضع شروطًا، لأن أي قرار سيتّخذه يرتبط بردّ فعل المجتمع الإسرائيلي وبالتالي بوصوله إلى سدّة الحكومة مرة أخرى.
أما البروفيسور مناحيم برينكر، الذي عمل أستاذًا للأدب العبري والفلسفة في الجامعة العبرية بالقدس وينتمي إلى مجموعة مؤسّسي “السلام الآن”، فيقول “منذ حرب الأيام الستة في حزيران/ يونيو 1967 يوجد حرج كبير لدى إسرائيليين كثيرين. ويتمثّل في أنهم عندما يذهبون إلى الخدمة العسكرية يتساءلون: هل يدافعون حقًا عن الدولة أم عن المناطق التي احتلتها؟”، وهو ما يفسّره سببًا لعدم استمرار أبناء الشبيبة العلمانية في التجنّد مقابل ازدياد عدد المتديّنين في الجيش. كما يشير برينكر إلى وجود تخوّف لدى العلمانيين اليهود من أن تتحوّل القدس إلى مدينة حريدية حيث الهجرة السلبية لليهود العلمانيين منها. بالمقابل، يحيط نتنياهو نفسه بمستشارين من أتباع التيار الصهيوني- الديني، يعلّق برينكر على ذلك “نتنياهو يجد لغة مشتركة معهم، وهم جميعًا قوميون متطرفون”. أما رئيس حزب “إسرائيل بيتنا” أفيغدور ليبرمان وعلى الرغم من كونه يمينيًا إلا أنه كان من أوائل اليمين الذين أيّدوا قيام دولة فلسطينية، مع تبادل أراضٍ حيث هناك أغلبية عربية، أو أغلبية يهودية، وهو ما يتوافق مع رأي عوديد عيران، وحيث يرى برينكر أيضًا أن كلا الشعبين غير جاهزين لتقديم تنازلات، ومنها التنازل من الجانب الفلسطيني عن حق العودة، وهو ما يجعل أفق الحل مسدودًا، معتبرًا أنه بالإمكان دفع تعويضات للاجئين الفلسطينيين في الشتات كما تم دفع تعويضات لليهود عن ممتلكاتهم وأراضيهم عند انتقالهم من أوروبا الشرقية. وبالمقابل، فإنه يؤيد تقسيم القدس ويعتبر أن عدم تنازل الإسرائيليين عن وحدة القدس هو العائق الآخر لتحقيق السلام، كما يذكر بأن للاستيطان قوة كبيرة ووكلاء أقوياء، ولم ينجح أي رئيس حكومة في وقفه.
برينكر أصرّ على مقولة أن قسمًا من الفلسطينيين هربوا في عام 1948 بعد أن أبلغتهم القيادة بأنهم سوف يعودون، على الرغم من تأكيد المحاوِر، بالاستناد إلى تحقيق لصحيفة هآرتس عام 2011، على أنه جرى تجميع العرب في ساحة السوق في حيفا وتم قصف السوق بالهاون ما أدّى إلى مقتل وجرح المئات وفرار آخرين نحو الميناء، لكن برينكر أصرّ على أن رئيس بلدية حيفا اليهودي آنذاك حاول إقناع العرب بالبقاء.
ويؤكد برينكر، الذي يبدو متفائلًا، على أن اليسار في إسرائيل لم يضعف بل حركة السلام هي التي ضعفت، وبرأيه فإن هذا مرتبط بمدى الانفتاح من الجانب العربي على إسرائيل، فكلما زاد الانفتاح تتعزّز قوة اليسار، وعندما يتشدّد الجانب العربي تتدنّى احتمالات السلام وسيتمسّكون بالتفوّق العسكري، فهي مسألة ثقة بأنهم إذا صدّقوا أنه سيحلّ السلام “فإنهم مستعدّون للذهاب بعيدًا”. ولكن هل يتحدث حقًا برينكر عن جميع الإسرائيليين، في حديثه هذا، أم عن اليسار الإسرائيلي؟! يقول برينكر إنه بعد اتفاق أوسلو كان 60 إلى 70% من الإسرائيليين يؤمنون بأنه يجب أن تقوم دولة فلسطينية، ولكن ما أدّى إلى تدهور الأمور هو أن إسرائيل استمرّت بأعمال البناء الاستيطاني، وبالمقابل بدأ تفجير الحافلات من الجانب الفلسطيني، فالإسرائيليون رأوا أن الإرهاب لم يتوقف، وأوصلوا نتنياهو إلى الحكم، الذي يطلب من الفلسطينيين الاعتراف بالدولة اليهودية كي يقول من خلالها بأنه لا يوجد حق عودة.
ويؤكد برينكر على عنصرية عدد كبير من القوانين التي يتم طرحها في الكنيست، وأن طرحها لأجل تحقيقهم مكاسب سياسية عبر جذب تأييد الجمهور العنصري. ولكنه بالمقابل يؤكد على أنه لا يزال ثمة ديمقراطيون وليبراليون في الكنيست يوقفون سنّ تشريعات مجحفة، ويعطي مثالًا بأن الكنيست سنّ قانونًا يمنع العرب من السكن في البلدات اليهودية الجماهيرية فيما تم كبح قانون سحب الجنسية. وعلى صعيد الأكاديميا لم تنجح هجمة “إم ترتسو” اليمينية بفصل محاضرين جامعيين نقديين، ويذكر مثالًا البروفسور نيف غوردون الذي دعا إلى “مقاطعة بضائع المستوطنات كخطوة في سياق مناهضة الاحتلال” ولم يتم التعرّض له.
اللقاء مع الصحافي والناشط اليساري أوري أفنيري توقّف عند محطات من حياته حيث كان على أعتاب التسعين، وكان من المهم العودة لتلك المرحلة التي سبقت نشوء دولة الاحتلال. حيث قدم إلى فلسطين في عام 1933 بعمر عشر سنوات، وانضم إلى التنظيم العسكري القومي “إيتسل” بعمر الخامسة عشرة، وبعد بضع سنوات انشقّ عنه بسبب قيام التنظيم بعمليات عسكرية ضد العرب ومعاداته للاشتراكية، وبعد ذلك أسّس حركة “فلسطين الفتاة” بالعربية و”أرض إسرائيل الفتاة” بالعبرية، وكان يحمل فكرة “لسنا مجرّد استمرار للشعب اليهودي التاريخي، وإنما أمة جديدة، هي أمة عبرانية”، رافضًا تسمية الشرق الأوسط بـ”الشرق” لأنه مصطلح أسّس له الغرب باعتبار الشرق شرقًا لأوروبا. وبحث عن تسمية تجمع العبرانيين والعرب فرأى أن يطلق “أبناء سام” واخترع مصطلح “المنطقة السامية” بدل الشرق الأوسط. وتطّلع أفنيري نحو الارتباط بين الحركة الوطنية العبرانية والحركة الوطنية العربية ودعا إلى وحدة الشعبين لمحاربة الحكمين البريطاني والفرنسي، لكن الأمور تطوّرت وصدر قرار التقسيم، وبدأت الحرب، واضطر لاحقًا إلى المشاركة فيها؛ لكنه خرج منها بأنه “يوجد شعب فلسطيني” وهو “شعب له مميزاته”.
يضيف أفنيري بأن “ما بدا أنه سرايا متناثرة للهاغناه في الشهور الأولى من الحرب تطور ليصبح جيشًا مع قيادة ودفاع وأركان”، وكل ذلك بفضل السلاح القادم من ستالين، ثم يقول “كل السلاح الذي أمسكناه كان سوفياتيًا”، فصفقة السلاح التشيكوسلوفاكية هي التي غيّرت وجه الحرب، برأيه، وتم تدريب الطيارين اليهود في تشيكوسلوفاكيا. ويتوقف أفنيري عند نقطة مهمة هي “الحروب الضروس” بين الشيوعيين والصهاينة في فلسطين وفي العالم، وذلك حتى عام 1947، عندما أطلق الزعيم الشيوعي أندريه غروميكو خطابه التأييدي للصهيونية وللتقسيم، فقد كان الشيوعيون اليهود والعرب في فلسطين يرفضون التقسيم قبل ذلك، ما جعلهم يغيّرون موقفهم لتتلاءم مع مواقف موسكو، ويضيف “من دون تأييد موسكو للتقسيم لما قامت إسرائيل”، حيث كان بإمكانهم استخدام الفيتو.
ما أنكره برينكر أكّد عليه أفنيري الذي يقرّ بأنه شارك في الحرب ودخل عشرات القرى الفلسطينية، وكانوا يطلقون آلافًا من الأعيرة النارية فيهرب السكان، ويقول “الادّعاءات بأن القيادة العربية دعت العرب إلى الهرب من البلاد هي ادّعاءات سخيفة للغاية” و”معظم الأساطير التي يرويها اليهود حول النكبة سخيفة”. لكن أفنيري كان مقتنعًا بعد النكبة أنه لا بدّ من إقامة دولة للفلسطينيين، واشترى صحيفة “هعولام هزيه” عام 1950 وكتب مقالات عن معارضة طرد السكان العرب من القرى ومصادرة أراضيهم. “كانت ثورة في الإعلام” يقول أفنيري، حيث كانت الصحافة الإسرائيلية كلها موالية للحكومة، في وقت “كانت الصحافة جزءًا من النضال الوطني – الصهيوني”. ويضيف أفنيري “واصلنا العمل من أجل الدولة الفلسطينية” وحاربنا الحكومة، وتم تشكيل هيئة تحرير عربية باسم “هذا العالم” وعمل فيها عرب من بينهم الشاعر سميح القاسم. ويخبر أفنيري عن كراهية بن غوريون له بسبب ما يصدر عن الصحيفة من مقالات ضد السياسات الإسرائيلية تجاه العرب. ثم تم تشكيل قائمة لتخوض انتخابات الكنيست باسم “هعولام هزيه- كواح حداش” أي “هذا العالم- قوة جديدة” ونجح أفنيري وحده في أن يكون عضو كنيست. ويسرد أفنيري بالتفصيل محاولاته لإقامة دولة فلسطينية حيث قدّم اقتراحًا للحكومة بإجراء استفتاء شعبي للفلسطينيين في الضفة وغزة إذا كانوا يريدون دولة مستقلة، أم يكونوا تابعين للأردن ومصر، أو الانضمام إلى إسرائيل، وقد تحدّث أفنيري نفسه مع زعماء المدن الفلسطينية وأجمعوا على إقامة دولة فلسطينية، ولكن تلك المحاولات فشلت، فقد رفضها موشيه دايان واعتبرها فكرة غير قابلة للتنفيذ لأن الفلسطينيين يصرّون على القدس كعاصمة لهم، وإسرائيل قرّرت ضم القدس لها.
واعتبر أفنيري بأن اللقاءات بين رابين وعرفات جعلت رابين يفهم الموضوع الفلسطيني ويقتنع بضرورة إبرام اتفاق سلام، “لهذا قتلوه. باستثناء رابين لم يرغب أي رئيس حكومة في صنع سلام مع الفلسطينيين… تطلّع الحركة الصهيونية راسخ لديها في الجينات، هو نحو إقامة دولة يهودية تمتد شرقًا حتى نهر الأردن، إن لم يكن أكثر، وشمالًا حتى نهر الليطاني على الأقل، وجنوبًا حتى العريش على الأقل… والموافقة على إقامة دولتين للشعبين هي بمثابة تغيير هائل”.
يقرّ أفنيري بأنه صهيوني وأنه يريد أن تبقى إسرائيل موجودة لكن يجب على الإسرائيليين أن يقرّروا ما إذا كانت دولتهم يهودية أم إسرائيلية، فهو يعتبر بأن الإقرار بأنها يهودية يعني بأنهم ليسوا جزءًا من البلاد، وأنهم مبعوثون أوروبيون وأن نظرتهم إلى العرب استعلائية. وإذا ظلّ الوضع كما هو الآن “فإن هذه ستكون دولة أبارتهايد” ثم يضيف “الوضع هنا أسوأ من الأبارتهايد، لأن هذا الوضع قد يؤدي إلى تطهير عرقي”، كما أنه في حال منح حقوق متساوية بين اليهود والعرب “فإنها لن تكون في المستقبل دولة ثنائية القومية وإنما دولة عربية، وسيقرّر الكنيست في أول مناسبة تغيير الاسم، وهذا هو النقيض المطلق للصهيونية”. لكن أفنيري يضيف “تحت كل هذه الأمور يوجد شعور كبير بالذنب جرّاء ما اقترفناه، وهذا الشعور يتم كبحه. نحن رأينا ما حدث في عام 1948 ولا يمكن نفيه. ونحن نواجه صعوبة حيال ذلك، لأن الصهيونية في بدايتها كانت مثالية… والنكبة تؤنّب ضمير اليهود”. ويعتبر أفنيري بأن حديث إسرائيليين أنه لا يوجد شعب فلسطيني سخافات. كما يؤكد على أن أي إسرائيلي سيقول بأنه يتوق للسلام مع الفلسطينيين “لكنهم لا يريدوننا”، وهو كلام اشتغل المسؤولون الإسرائيليون على الترويج له فصدّقه الشعب الإسرائيلي.
من جهته، يقول رئيس حزب ميرتس الأسبق يوسي سريد الذي هاجر أهله من بولندا عام 1930 وولد في فلسطين في عام 1940، بأن احتلال الضفة الغربية وغزة هو كارثة كبرى ويهدّد وجود إسرائيل في الصميم ووجود 250 ألف مستوطن في الضفة ليس تغييرًا نحو الأفضل، ويضيف “الاحتلال والديمقراطية لا يسيران معًا. وجميع الدول المتنوّرة والديمقراطية تنازلت عن الاحتلال من أجل إنقاذ الديمقراطية. ونحن لا نتنازل عن الاحتلال. ولذا فإن نظامنا الديمقراطي يواجه خطرًا كبيرًا”، ثم يقول “إسرائيل غير الديمقراطية لن تتمكن من البقاء”. ويرى سريد بأن بناء المستوطنات في الضفة أكبر عقبة أمام تسوية مع الفلسطينيين، وبأنه لا يشتري بضائع من صنع المستوطنات.
ويرى سريد أن الذين يتحدثون عن دولة واحدة للشعبين بدلًا من دولتين للشعبين فكرة سيئة، وأنه يمكن الاستمرار بحلّ الدولتين عبر إجراء تبادل أراضٍ. وبيّن سريد أنه لا يمكن منح مساواة في الحقوق في حلّ الدولة الواحدة حيث سيجلس في الكنيست 60 يهوديًا و60 فلسطينيًا وهو ما لن يوافق عليه أحد، لذلك هناك اقتراحات يمينية بأن تكون إسرائيل للشعب اليهودي وكل العرب “فليجدوا ترتيبًا لهم، إما ألّا يكون لهم كيان قومي أو ينتخبوا في الأردن أو يتم منحهم حكمًا ذاتيًا”. ويعود سريد إلى مبادرة السلام لجامعة الدول العربية ويعتبرها الأفضل وبأن إسرائيل لم تتطرّق لها بشكل جدّي، وأنه لا يوجد أي احتمال لحلّ في الوقت الراهن.
وما يثير حنق سريد هو استخدام نتنياهو المحرقة لأغراض سياسية، ويخبر سريد كيف أن نتنياهو منذ التسعينيات توجّه إلى أوشفيتز في ذكرى المحرقة وصار يشبّه ياسر عرفات بهتلر وأن الفلسطينيين نازيون ويريدون إبادة الشعب اليهودي، وهو ما يثير الغضب برأي سريد.
ويتحدّث سريد عن تبدّل رابين، الذي وافق على التنازل عن هضبة الجولان، ويؤكد بأن رابين كان يخشى بأن احتلال الضفة وغزة سيشكّلان خطرًا على إسرائيل، وأنه قُتل بسبب قناعاته، واغتياله أدّى إلى صعود نتنياهو وأن “كل وجود نتنياهو كان من أجل إحباط الاتفاقيات”.
يؤكد سريد على ضرورة إنهاء احتلال الضفة الغربية وغزة، ويقول “هل بالإمكان حلّ مشكلة اجتماعية واحدة من دون أن نتحرّر من تلك الحدبة التي اسمها الاحتلال؟”.
الضابط المتقاعد برتبة عقيد والمؤرخ السياسي مردخاي بار أون الذي ولد عام 1928 في فلسطين بعد أن قدم والداه من ألمانيا في عام 1921، يعود في حديثه إلى ما قبل العام 1948 وانضمامه إلى حركة “هشومير هتسعير” التي هاجمت فكرة إقامة دولة إسرائيلية وكانت تتطلّع إلى تطوير الييشوف اليهودي والعمل بشكل ودّي مع العرب، فيما كان الحزب الشيوعي- الجناح العربي إلى جانب تقسيم البلاد. ويسرد كيف حارب الفلسطينيون البريطانيين منذ عام 1936 وكيف جرى التحالف بين الييشوف اليهودي والبريطانيين فكانوا يرتدون الزيّ العسكري البريطاني، وبدأ يُقتل فلسطينيون ويهود، وتحصل عمليات انتقامية. ويذكر بار أون بأن معركة القسطل كانت الحاسمة، حيث جرى تسليح اليهود عبر صفقة الأسلحة التشيكوسلوفاكية ما غيّر وجه الحرب. ويقرّ بأنه شارك في احتلال قرى فلسطينية، وأن إسرائيل تتحمّل المسؤولية عن نشوء قضية اللجوء، وأنه لا يزال يتذكر أسماء القرى العربية، وثمة قرى تم محوها عن الخريطة. وكان القرار الأساسي بعدم السماح للعرب بالعودة. كما يذكر بأن البيوت الزراعية القديمة تم جرفها، أما البيوت الصخرية، فقد تم إسكان يهود فيها.
ويشرح بار أون، كونه كان مدير مكتب رئيس هيئة الأركان موشيه دايان أسباب العدوان الثلاثي على مصر، ويقول بأن إغلاق جمال عبد الناصر لمضائق تيران ونشر الجيش المصري دبابات شمال قطاع غزة كان قد حصل عليها من خلال صفقة الأسلحة التشيكية- المصرية، أدّيا إلى شنّ إسرائيل الحرب على مصر بعد تسليحها عسكريًا من فرنسا وبعد الاتفاق السرّي مع فرنسا وبريطانيا. وتم احتلال سيناء، لكن ضغط الأميركيين والروس على إسرائيل جعلاها تنسحب من سيناء. وفي ذلك العام، أعطى رئيس الوزراء الفرنسي جي موليه إسرائيل الموافقة لبناء مفاعل نووي وتزويدها بالخبراء والمهندسين الفرنسيين.
إغلاق عبد الناصر لمضائق تيران ونشر 700 دبابة مصرية داخل سيناء قريبًا من الحدود هي أيضًا أسباب حرب عام 1967 إضافة إلى طرد قوات الأمم المتحدة من هناك، يقول بار أون، ويضيف “هذه خطوة لا يمكن تحمّلها بالنسبة لإسرائيل”، وكانت هناك نيّة مصرية لاحتلال النقب، على الرغم من أنه لم تكن نيّة إسرائيل احتلال سيناء، وكذلك الضفة الغربية، لكن الجيش الأردني دخل الحرب، وهاجم كيبوتس رامات راحيل في جنين، واحتلّ قصر المندوب السامي في القدس، “على أثر ذلك، وبمتعة بالغة، احتلوا الضفة”.
ويختم بار أون بأنه ما بين العامين 1948 و1967 كان يؤمن بخط بن غوريون، أما منذ ذلك الحين، فهو يتطلّع إلى السلام. في عام 1968 انضمّ إلى حركة “السلام الآن” التي تطالب بإنهاء احتلال الضفة وغزة وإقامة دولة فلسطينية. يقول بار أون بأن الأماكن بأسمائها العربية لا تزال تعيش أمام عينيه كما رآها قبل الاحتلال، ثم رآها مهدّمة، ورغم ذلك يعارض إعادة اللاجئين، فهذا “حلّ غير ممكن من دون تدمير دولة إسرائيل”، ولكن يجب تصحيح الوضع بواسطة إقامة دولة فلسطينية، كما يقول، ويضيف “على إسرائيل الاعتراف بمساهمتها في إنشاء قضية اللاجئين”، ويستذكر بار أون امرأة فلسطينية في مخيّم الرشيدية في صور تجهش بالبكاء لفقدها أبنائها، أحد أبنائها قُتل والآخر لا تعرف أين هو، خلال اجتياح لبنان في عام 1982، إذ قالت له “خذني ليوم واحد إلى القرية التي طردوني منها أنا وعائلتي في فلسطين”، يقول بار أون عن ذلك “التفكير بالعودة عميق وجدّي لدرجة لا يمكن أخذ هذا الأمر منهم، أن نأخذ منهم الحق بأن يحلموا بالعودة مجرّد هراء”.
الأمن أهم من الديمقراطية
يبدأ الحديث مع المؤرخ زئيف شتيرنهل، المتخصّص الأول في موضوع الفاشية، بمقدّمة مطوّلة يذكر فيها الكاتبان أن شتيرنهل تعرّض لمحاولة اغتيال من قبل منظّمة يمينية متشدّدة تُطلق على نفسها اسم “جيش التحرير الرسمي” وتدعو لتقديم جائزة لكل من يقتل ناشطًا يساريًا، واعتبر شتيرنهل أن ذلك بداية انحلال الديمقراطية الإسرائيلية. ويلخّص الكاتبان أفكار شتيرنهل عن الديمقراطية التي جاءت ضمن مقابلة سابقة لمجلة “ديمقراطية” الإلكترونية، إذ يرى شتيرنهل بأن حقوق الإنسان في إسرائيل تُعتبر في نظر مسؤولين كثيرين عائقًا أمام الدولة… كما لو أن هذه الحقوق تقوّض حقوق الدولة، ويضيف “أن حقوق الإنسان ليست جزءًا من مفهوم إسرائيل الديمقراطي،” وأنها هشّة للغاية، وأن المسؤولين الإسرائيليين يعتبرون الأمن أهم من الديمقراطية، فالديمقراطية بنظرهم تستوجب فقط حق الاقتراع، بدون أي حقوق اجتماعية واقتصادية، كما أن الكنيست لا يقوم بدوره بل يشرّع ما تمليه الحكومة، فهو “جثة هامدة”، وأعضاء الكنيست لا يعرفون شيئًا سوى ما تزوّدهم الحكومة به. كما كان شتيرنهل قد حدّد طروحاته ضمن مقالة مطوّلة عن اليمين في ظل حكومة نتنياهو (2009-2013) معتبرًا أن اليمين سيقضي على الديمقراطية، وأن هدف اليمين تحويل غير اليهود إلى مواطنين ذي مكانة أدنى، وتدريجيًا يصبح هناك أفضلية سياسية واقتصادية واجتماعية لليهود على غير اليهود، وهكذا تكفّ إسرائيل عن أن تكون ديمقراطية، ويضيف شتيرنهل بأن اليمين يعمل على تحدّي المفهوم الجوهري للديمقراطية الليبرالية، وينبّه من خطورة تشريعات الحكومة المعادية للديمقراطية.
شتيرنهل (1935) جاء إلى فلسطين في عام 1951 وتجنّد في صفوف الجيش الإسرائيلي، يقول “أردت أن أشترك في هذا المشروع الكبير، بناء دولة إسرائيل”، كما اشترك في حرب عام 1967 ليتفرّغ بعد ذلك للأكاديميا فيما يسمّيه “العداء للتنوير”، وكان آخر كتبه “لا يمين لا يسار”.
يقول شتيرنهل بأن اليهود الحريديم والمتديّنين لم يتم اعتبارهم صالحين في بولندا، فيما تاريخ عائلته كان صهيونيًا، وكانوا منصهرين في الحياة الثقافية هناك، وقدم إلى فلسطين معتقدًا أنه سيجد دولة إسرائيل الاشتراكية. يقول إنه مع الوقت تبيّن له بأن الاشتراكية كانت وسيلة تجنيد لغرض بناء الدولة القومية، “هذا المجتمع الاشتراكي الذي حلمنا به لم يكن موجودًا هنا”.
ويتحدث شتيرنهل أنه بدأ ينكشف على المسألة العربية عندما رأى الحكم العسكري على العرب بين العامين 1948 و1966، وفي عام 1967 بدأ الاهتمام بالعرب يتحوّل إلى موضوع مركزي في وعيه السياسي. ويقرّ شتيرنهل أنه في عام 1949 كان ينبغي القول إن هذه هي نقطة النهاية لمشروع الدولة، وأن العرب دفعوا ثمنًا باهظًا وهذا يكفي. ويؤكد شتيرنهل أن الذين جاءوا من أوروبا جاءوا واشتروا في البداية أراضي من عرب، كانوا يعرفون أنه يوجد عرب هنا، وأن القول بغير ذلك غير صحيح. كما يأتي شتيرنهل على ذكر شراء أراضي مرج بن عامر من عائلة سرسق اللبنانية وإنشاء كيبوتسات “هشومير هتسعير” وغيرها هناك، على الرغم من وجود مزارعين يسكنون فيها، حيث تم طردهم، ويتساءل شتيرنهل “نحن يساريون، اشتراكيون، نؤمن بشعار أخوة الشعب… فأين العقلانية والعدالة الأخلاقية؟”، ثم يضيف أن ما قالوه له عن ذلك: “جئنا لكي نحتل البلاد… البلاد لنا، ويجب احتلالها”. وهنا يسأله الكاتبان بأنه إذا يؤمن بأن الحركة الصهيونية حركة احتلال، فيجيب أن المشروع الصهيوني مشروع احتلال لكن لا مشكلة أخلاقية لديه إزاء ذلك، وأن المشكلة الأخلاقية تبدأ من العام 1949، وأنه ضد احتلال الضفة وغزة وإقامة مستوطنات فيهما. وقال “يجب أن نقيم دولة خاصة بالفلسطينيين وأن نعيد لهم القدس الشرقية يجب أن تكون عربية”.
وفي حديثه عن تطور الحركة الصهيونية، يقول شتيرنهل بأن الصهيونية انبثقت من الضائقة اليهودية ومن معاداة السامية في أوروبا، “لو تم منح اليهود حقوقًا في أوروبا لما كانت هناك حركة صهيونية”. وقال إن التنكيل باليهود في فرنسا وألمانيا وفيينا وبودابست جعل من هرتسل يفكر ببناء دولة لليهود، وقرروا احتلال فلسطين لأن لليهود معنى لديهم في التوراة، “من أجل حل مشكلة اليهود كان ينبغي احتلال أرض… استخدمت هذه الحركة القومية (الصهيونية) رموزًا دينية لكنها لم تكن حركة دينية”، وما حدث أثناء التنكيل باليهود أن الملايين سافروا إلى أميركا لكن في عام 1923 تم إغلاق الحدود الأميركية بوجه اليهود. ويضيف بأنه تم استغلال اليهود القادمين إلى فلسطين، كانوا يبنون الكيبوتسات مع إحساس بأنها جزر الاشتراكية، لكن الصهيونية استغلت تلك المشاعر، إلى أن حدثت حرب عام 1967، التي اعتبرها “أكبر كارثة” وأنها “أوجدت المشكلة التي لم نستطع حلّها إلى الآن”. ثم يؤكد بأن المستوطنات في الضفة وفي الجولان أوجدت حالة استعمارية ولم يكن يجب السماح ببنائها.
يقول شتيرنهل إنه حاليًا لم يعد في إسرائيل من يسار حقيقي سوى حزب ميرتس، أما حزب العمل فقد تحرّك نحو الوسط. ويؤكد بأنه لا يمكن تجاهل حقيقة وجود ملايين الفلسطينيين وتجاهل حقوقهم الإنسانية فهذا ليس يسارًا. كما يشير إلى أن معظم الإسرائيليين يدركون أنه من دون حل للقضية الفلسطينية لن يكون لإسرائيل مستقبل حقيقي، “ومستقبلنا هو العيش إلى جانب الفلسطينيين”، ويقول أيضًا “يزداد عدد الأشخاص الذين يدركون أن احتلال الضفة وغزة هو كارثة وسرطان يأكل أجسادنا”. ثم يضيف بأنه يرفض إقامة دولة ثنائية القومية “هذا ليس حلًا، وإنما حمام دماء”. وأنه يجب أن تكون وجهة إسرائيل السلام وإقامة دولة فلسطينية. ولكنه من ناحية أخرى يرى بأن على الفلسطينيين كي يحلّ السلام أن يعترفوا بوجود إسرائيل، وأن لا يطالبوا بحق العودة، وبالمقابل يجب منحهم تعويضات لبناء حياة جيدة حيث هم. يسأله الكاتبان “لماذا تريد أن تسلب منهم هذا الحلم بالعودة؟”، فيجيب “لأن هذا الحلم هو مأساتنا”. ويختم شتيرنهل “الوضع سيكون أفضل لو لم يكن على رأس الليكود شخص مثل نتيناهو”.
ومثل شتيرنهل، يأتي حديث الأديب أبراهام ب. يهوشواع الذي ولد في القدس عام 1936 لأب مستشرق وترعرع بين عرب يرتادون منزلهم. يقول يهوشواع بأن الدولة الإسرائيلية انزاحت نحو اليمين، وأن شيئًا بين اليهود والعرب داخل إسرائيل تعرّض للخراب “أصبح هناك مزيد من الاغتراب. قبل ذلك كان هناك شعور بأن العرب واليسار يسيران معًا”. يتحدث يهوشواع من وجهة نظره كيساري يرفض احتلال الضفة وغزة، “كانت الضفة مشتعلة، وكنا نسافر إلى الأعراس في شفاعمرو، كان لدينا شعور بأنكم لستم شركاء بالشكل الكافي في الحرب ضد الاحتلال”!
ويعود يهوشواع إلى فترة الإمبراطورية العثمانية، ويقول بأنه حينها كان بإمكان اليهود العيش في فلسطين، ولكن لم يكن فيها سوى خمسة آلاف يهودي، وكانوا منتشرين في البلاد العربية، والذين قدموا إلى فلسطين قدموا بسبب العداء العنصري للسامية في أوروبا، ما دفع هرتسل وزملاءه للتفكير بتصحيح الوضع وإخراج اليهود من أوروبا. وعند الإعلان عن وعد بلفور، يضيف يهوشواع، جاء 50 ألف يهودي إلى فلسطين فيما هاجر الملايين من اليهود إلى أميركا. ويؤكد يهوشواع بأن الفلسطينيين هم الشعب الأقل عداء للسامية “الفلسطيني هو عدو ولكن ليس لديه تنميطات مجنونة تجاه اليهود”؛ والتنميطات هي تلك التي كان يثيرها الأوروبيون، وأثارها هتلر بقوله بأن اليهود رأسماليون وبلشفيون. ويرى يهوشواع بأن هناك وهمًا بأن اليهود يملكون كل شيء في أميركا، لكن “هناك حلف بين قسم من اليهود في أميركا وبين المسيحيين الأصوليين الذين يكرهون المسلمين ويريدون أن يأتي المسيح إلى هنا”.
وبالعودة إلى عام 1967، يتوافق حديث يهوشواع مع حديث بار أون عن أن حرب عام 1967 مشكلتها مصر التي وضعت جيشًا هائلًا على الحدود، ولم تستطع إسرائيل تحمّل ذلك، وتم احتلال الضفة الغربية بسرعة بالغة، وفورًا بدأ “جنون الاستيطان” وفكرة “أرض إسرائيل الكاملة”.
ويقول يهوشواع “اليهود لا يفهمون ماذا يعني ‘وطن‘. وبإمكان اليهودي أن يتنقل في العالم من وطن إلى آخر وهو يرى فيها كلها أوطان الآخرين”، ثم يضيف “اليهود لا يستوعبون أن الوطن هو إقليم يمنحك الهوية. الوطن عندنا افتراضي… ومن هنا الاستخفاف بأوطان شعوب أخرى. أرادت الصهيونية تصحيح هذا الأمر، لذلك شدّدت في بدايتها على الأرض والوطن”. ثم يقارن يهوشواع بين الشعب الفلسطيني الذي لا يزال يحمل مفتاح بيته ويريد العودة إليه ويعتبر العودة إليه هي العودة إلى الوطن، وبين “الشعب الإسرائيلي الذي لا يفهم ما هو وطنه وما هو وطن الآخرين”.
ويضيف يهوشواع “الإسرائيلية هي الهوية الأصلية. وكلمة يهودي ظهرت بعد 700 أو 800 سنة بعد إسرائيلي. أقول دائمًا لو سألوا سيدنا موسى وداود والملك سليمان، من أنتم، لأجابوا ‘نحن إسرائيليون‘”.
ويرى يهوشواع أن بن غوريون لو كان حيًا لما وافق على قانون القومية ولما طالب السلطة الفلسطينية بالاعتراف بإسرائيل. ويؤكد بأن حزب ميرتس وحزب العمل لا يؤيدان إقامة مستوطنات في الضفة، كما ينتقد ضعف الدور الأميركي الذي يتحدث منذ أربعين عامًا عن معارضته إقامة مستوطنات ولم يفعل شيئًا لوقفها. ويتخوّف يهوشواع من الدولة ثنائية القومية ويرى أنها كارثة على الإسرائيليين والفلسطينيين، حيث سيعيش الفلسطينيون في أبارتهايد. واعتبر أن الطريقة الصحيحة بإقامة دولة فلسطينية في الضفة وغزة، وعدم تفكيك المستوطنات، حيث يمكن أن يحصلوا على الجنسية الإسرائيلية ويعيشوا في دولة فلسطينية، أو يحصل تبادل أراضٍ، ويطلب يهوشواع من الفلسطينيين أن يساعدوا لتحقيق هذا الأمر.
*****
إجمالًا يمكن القول من العرض أعلاه إن هذا الكتاب يتيح لنا إمكان التبحّر في ما تفكر وتهجس به بعض النخب الإسرائيلية حيال الحاضر وما ينبئ به المستقبل، ومن خلال الاستناد إلى ما تراكم من وقائع. ولذا فهو يضع بين أيدينا مفتاحًا مهمًا لفهم مآلات إسرائيل الراهنة.