كتب إسماعيل أبو هشهش : في الذكرى الثامنة بعد المئة لإعلان وعد بلفور … الإعلان لم يكن مجرد موقف عابر ، بل هو قرار استعماري واع ، لم يزل قائما في تفاعل مستمر

قد يتساءل الكثيرون، لماذا لم تعتذر المملكة المتحدة عن الكوارث والمأساة المستمرة ، التي جرها هذا القرار على الشعب الفلسطيني الذي لم تكن تنكر وجوده ، أو على الأقل لماذا لم يكفًر الذين اصدر الوعد ومن أيًده ( وهم كل الدول الاوروبية في حينه ) عن خطيئتهم الكبرى ، بسعي مخلص نحو تحقيق المصير للشعب الفلسطيني على أرض وطنه التي انتزعه منه ذلك الوعد المشؤوم.
شيء من هذا القبيل لم يحدث ، لأن الفعل مستمر وقائم ، بمعنى ان بواعثه ما زالت قائمة ، وهو ما يديم حاجة الغرب الاستعماري لوجود دولة اسرائيل قوية ، من أجل الغايات التي أنشئت من أجلها ، وهي باختصار تتلخص في هدفين اثنين ، الأول هو حل المسألة اليهودية التي كانت تشكل صداعا تاريخيا لكل المجتمعات الاوروبية ، على مدى قرون طويلة ، والتي اخذت بعدا اجتماعيا تمثل في ثقافة الكراهية تجاه اليهود ، وما اطلق علية ( اللاسامية او العداء للسامية ) ، والتي صلت مستويات مأساوية خلال الحرب العالمية الثانية تمثلت فيما يعرف بالهولوكوست. هذا بعد عشرات عمليات التهجير القسري للمجتمعات اليهودية من مختلف الدول الاوروبية في شرق القارة وغربها . على مدي ثمانية قرون في الألفية الثانية .
والغرض الآخر الذي كان باعثا لهذا القرار الوعد ، يندرج ضمن المشروع الاستعماري في المنطقة العربية ، الذي كان يتشكل للتو، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وخروج كل من بريطانيا وفرنسا منتصرتين فيها ، وحاجتهما إلى دولة ارتكاز ، من أجل بسط الهيمنة على المنطقة العربية ومواردها .
لم يكن ارثور بلفور وزير خارجية بريطانيا العظمى محبا لليهود وهذا معروف عنه ، حين منح هذا الوعد لهم ، وهو نفسه من رفض قبل عشر سنوات من ذلك التاريخ ، استقبال اليهود الرومانيين حين هجروا قسرا من موطنهم . كذلك لم يكن اليهود أنفسهم، ولأسباب عقائدية راغبين في الهجرة الى فلسطين ، إذ كانت حدودها مفتوحة لكل من يرغب في اللجوء إليها، طوال قرون ، قبل أن تتكشف النوايا القومية لهذه الهجرة بعد اعلان بلفور .
حتى حين انعقد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل في سويسرا عام ١٨٩٧ ، كان من المفترض أن ينعقد المؤتمر في مدينة زيوريخ التي يسكنها مجتمع يهودي كبير وممأسس، لكن خشية من أن التوجهات العقائدية ستعمل على افشال فكرة البعث القومي التي كانوا يرفضونها و التي كانت تمثل الأغلبية الساحقة من اليهود ، خطط ثيودور هرتسل ، الذي تماهى مع السياسة واغراض رأس المال الأوروبي ، نقل المؤتمر إلى بازل حيت اليهود هناك هم اقلية صغيرة ، فالحركة الصهيونية منذ تأسيسها تلاقت مع قيم الامبريالية ، ولم تستجب لجوهر الديانة اليهودية ، اي ان هرتسل قد صهين اليهودية من داخلها . وحتى انه والساسة البريطانيون طرحوا عدة خيارات لتكون وطنا لليهود تماشيا مع الرفض العقائدي للهجرة إلى فلسطين ، منها جزء من الارجنتين، اوغندا أو مدغشقر في أفريقيا ، لكن في النهاية سميت فلسطين كأرض لهذا الوطن ، خدمة لمصالح الدولة الراعية .

تموضعت دولة اسرائيل منذ انشائها في مركز المشروع الاستعماري الغربي ، وفي خدمة تطلعاته في الهيمنة والسيطرة ، وسايرت تحولات الرأسمالية الغربية ، من حقبة الاستعمار الكولونيالي الأوروبي منذ اقامتها ، ثم الانخراط في المرحلة الاستعمارية الامبريالية ، بعد صعود الولايات المتحدة على قمة هذا النظام في خمسينيات القرن الماضي ، في حالة تخادم مع قوى الاستعمار العالمي ، في حرب السويس عام ١٩٥٦ شاركت فرنسا وبريطانيا في عدوانهما على مصر ، الدولتان الاوربيتان تريدان استعادة قناة السويس بعد تأميمها ، وهي تريد أضعاف مصر لأنها تجد فيها تهديدا وجوديا ، ولأن السياسة مجرد مصالح وتطلع نحو الكسب ، فقد صوتت الولايات المتحدة في مجلس الأمن لوقف العدوان ، متفقة مع الاتحاد السوفيتي وضد موقف حليفتيها ، إذ كانت الولايات المتحدة تسعى لازاحة قوى الاستعمار القديم في منطقة ثرية بمواردها وتبسط نفوذها ، لهذا السبب انتبهت منذ ذلك الحين لدولة اسرائيل وموقعها كدولة ارتكاز استراتيجي في المنطقة ، خاصة بعد انتصارها في حرب عام ١٩٦٧ .
دولتان تتشاركان القيم نفسها، كلاهما يعتاش على الحروب ، واشعال النزاعات ، وليس ادل على ما تعيشة المنطقة العربية منذ ثلاثة عقود ، من صراعات وحروب أهلية، وتمزق . والدور الاسرائيلي الذي يظهر مرافقا لأي فعل أمريكي.
بقي ان اذكر ان حلم إقامة دولة صهيونية في المنطقة ، لم يبدأ بوعد بلفور عام ١٩١٧ ، وإنما خطط له عام ١٩٠٥ في مؤتمر كامبل في لندن والذي ضم جميع الدول الاوروبية في تلك الفترة ما عدا المانيا لأسباب آنية حكمت الوضع السياسي وقتها ، في ذلك الاجتماع تقررت الكيفية التي سوف يتم السيطرة على المنطقة العربية من خلالها ، تلك المنطقة التي كانت تخضع للدولة العثمانية الآيلة للسقوط ، بحيث يمنعها من التوحد ويبقيها في حالة تمزق وتشرذم . الهزيمة الكبرى تأسست حين فشل العرب في إنجاز مشروع قومي يحفظ امنهم الجماعي ، وانكفأت كل دولة على ذاتها . النكبة التي حدثت عام ١٩٤٨ وقيام دولة اسرائيل ، كنتيجة لخطةكامبل ووعد بلفور ، هي نكبة للعرب جميعهم ، وليس لفلسطين وحدها .

disqus comments here