كتب د. إسماعيل المسلماني :العرب كظاهرة صوتية: استدخال الهزيمة وثقافة العجز والهروب إلى الخطابالعرب
لم تعد الأزمة العربية المعاصرة مقتصرة على اختلال موازين القوة أو فشل المشاريع السياسية، بل باتت أزمة وعي وتمثّل للذات. ففي مقابل العجز عن إحداث تحوّل فعلي في الواقع السياسي والاجتماعي، برزت ظاهرة يمكن توصيفها بـ “العرب كظاهرة صوتية”؛ حيث يُستعاض عن الفعل بالقول، وعن التغيير بالخطاب، وعن المواجهة بإنتاج لغوي كثيف يفتقر إلى القدرة على تحويل ذاته إلى ممارسة. هذه الظاهرة ليست عرضًا لغويًا بريئًا، بل تعبيرًا عميقًا عن استدخال الهزيمة وإعادة إنتاجها ثقافيًا ونفسيًا.
أولًا: من الهزيمة العسكرية إلى الهزيمة الداخلية
يمثل مفهوم استدخال الهزيمة انتقال الهزيمة من كونها حدثًا خارجيًا طارئًا إلى بنية ذهنية مستقرة. فالعقل الجمعي العربي، تحت وطأة الهزائم المتكررة وفشل الدولة الوطنية ومشاريع التحرر، لم يكتفِ بالتكيّف مع واقع الانكسار، بل قام بتطبيعه وتبريره. وهنا تتحول الهزيمة إلى قناعة ضمنية بعدم الجدوى، وإلى تصور ثابت عن العجز البنيوي عن التغيير، ما يفضي إلى إعادة إنتاج خطاب يضخّم الذات لغويًا فيما يفرغها عمليًا.
ثانيًا: الصوت كتعويض رمزي عن الفعل الغائب
في ظل انسداد أفق الفعل، يصبح الصوت أداة تعويض نفسي وسياسي. فالخطاب المرتفع، الشعاراتي، والانفعالي يؤدي وظيفة مزدوجة: أولًا، يمنح الفرد والجماعة شعورًا زائفًا بالقوة والفاعلية؛ وثانيًا، يخفف من وطأة الإحساس بالعجز عبر تحويل الصراع من ساحة الواقع إلى ساحة اللغة. غير أن هذا التعويض لا يلغي العجز بل يُعيد إنتاجه، إذ يتحول الخطاب إلى غاية بحد ذاته، ويُقاس الموقف السياسي بحدّة النبرة لا بقدرته على التأثير.
ثالثًا: ثقافة العجز وإعادة إنتاجها خطابيًا
تتجلى ثقافة العجز في مجموعة من الأنماط الخطابية المتكررة: المبالغة في توصيف المؤامرة، تقديس الماضي، شيطنة الواقع دون تفكيكه، وتحويل الفشل إلى قدر تاريخي. هذه الأنماط لا تعكس فقط قراءة مشوّهة للواقع، بل تسهم في تعطيل الفعل، إذ تُغلق إمكانيات التغيير باسم الاستحالة، وتستبدل التحليل العقلاني بانفعال صوتي لا ينتج معرفة ولا استراتيجية.
رابعًا: الهروب من المسؤولية إلى البلاغة
أحد أخطر تجليات الظاهرة الصوتية هو الهروب من المسؤولية السياسية والأخلاقية. فبدل مساءلة الذات، والبنى، والخيارات، يُعاد تدوير خطاب إنشائي يحمّل الخارج كامل المسؤولية، دون إنكار وجوده، ولكن مع تجاهل دور الداخل في تكريس الهزيمة. البلاغة هنا لا تُستخدم كأداة تفكير، بل كآلية دفاع نفسي تبرّئ الذات من الفشل وتمنحها وهم التفوق الأخلاقي.
خامسًا: من تفكيك الصوت إلى استعادة الفعل
لا يمكن تجاوز هذه الظاهرة إلا عبر نقد جذري للخطاب السائد، لا بهدف الصمت، بل بهدف إعادة وصل القول بالفعل. فالصوت، حين ينفصل عن الممارسة، يتحول إلى ضجيج؛ وحين يُبنى على معرفة ومسؤولية، يصبح أداة تغيير. استعادة الفعل تمر عبر الاعتراف بالهزيمة دون تطبيعها، وبالعجز دون تقديسه، وبالواقع كما هو لا كما يُراد له أن يُقال.
إن توصيف العرب كـ”ظاهرة صوتية” ليس إدانة ثقافية بقدر ما هو تشخيص لحالة تاريخية مركّبة، تتداخل فيها الهزيمة السياسية مع الانكسار النفسي والارتباك المعرفي. والخطر الحقيقي لا يكمن في ارتفاع الصوت، بل في اعتياده كبديل عن الفعل. فالأمم لا تُقاس بما تقوله عن نفسها، بل بما تفعله لتغيير شروط وجودها.