كتب “اسماعيل الريماوي” محمد بكري… اختار فلسطين فسكنت في قلبه
لم يكن محمد بكري فنانًا يمرّ مرور الكرام في حياة الفلسطينيين، بل كان حضورًا يشبه الوطن حين يتجسد في إنسان، وصوتًا يشبه الوجع حين يقرر أن لا يصمت، رحل جسده، لكن ملامحه ما زالت معلّقة في ذاكرة الفلسطينيين، في نظرات الأمهات، في تعب الآباء، في حكايات القرى التي لم تغادره يومًا، وفي خشبات المسارح التي شهدت صدقه قبل موهبته.
وُلد محمد بكري على تراب الجليل، هناك حيث تختلط الحجارة بالحنين، وحيث يتعلم الطفل باكرًا أن الهوية ليست شعارًا بل قدرًا. نشأ وهو يحمل فلسطين لا كقضية مجردة، بل كحياة يومية، كألمٍ مألوف، وكحلمٍ مؤجل لا يسقط بالتقادم. منذ بداياته الأولى، بدا واضحًا أن الفن عنده ليس مهنة، بل موقف، وليس وسيلة للشهرة، بل طريقًا شاقًا لاختبار الصدق والانحياز.
على خشبة المسرح، لم يكن يمثل، كان يعيش. لم يكن يتقمص الأدوار، بل يمنحها روحه، ويصب فيها ذاكرته وخوفه وغضبه وحلمه. كان صوته حين يعلو، يشبه صرخة قرية محاصرة، وحين يخفت، يشبه همس أمّ تخشى على ابنها من الغياب، حمل فلسطين معه حيثما ذهب، إلى مسارح الداخل المحتل، وإلى رام الله، وإلى العواصم الأوروبية، لم يبدّل لهجته، ولم يخفف نبرته، ولم يتصالح مع الظلم ولو للحظة.
دفع ثمن صدقه غاليًا، حوصر، شوّهت صورته، طورد في المحاكم، عوقب لأنه قال الحقيقة كما هي، لا كما يريدها الجلاد، ومع ذلك، لم ينكسر، كان يعرف أن الفنان الحقيقي لا يُقاس بعدد الجوائز، بل بعدد الخيبات التي يتحملها دون أن يتنازل، اختار الطريق الأصعب، أن يكون فلسطينيًا كاملًا في زمن يُطلب فيه من الفلسطيني أن يكون أقل، أو صامتًا، أو محايدًا.
محمد بكري لم يكن مجرد ممثل، كان شاهدًا على عصر القهر، وضميرًا حيًا في زمن التواطؤ، ومرآةً قاسية تعكس وجه الاحتلال دون مساحيق، كان يؤمن أن الفن لا قيمة له إن لم يقف مع الإنسان، وأن الجمال الحقيقي هو أن تقول لا حين يقول الجميع نعم خوفًا أو مصلحة.
فقدت فلسطين صوتا نادرا ، صوتًا لم يخن الحكاية، ولم يبدّل الرواية، ولم يتعب من التذكير بأن هذه الأرض لها أصحاب، وأن الذاكرة لا تموت، رحل محمد بكري، لكن حضوره بقي، في الأفلام، في المسرح، في الكلمات، وفي قلوب الذين رأوا فيه أنفسهم، ووجعهم، وأملهم العنيد.
يموت الجسد، لكن من عاش لفلسطين لا يموت، يبقى كجذرٍ عميقٍ في الأرض، كلما اشتد القحط، تذكّرنا أن هذه الأرض ما زالت قادرة على الإنجاب، وأن فلسطين، ما دام فيها رجال مثل محمد بكري، لا يمكن أن تُهزم.