إعادة تشكيل المجال الجيوستراتيجي في جنوب الجزيرة العربية وباب المندب

تشهد منطقة جنوب الجزيرة العربية، الممتدة من الساحل اليمني الشرقي (حضرموت–المهرة–المكلّا) وصولاً إلى مضيق باب المندب وسواحل القرن الإفريقي، تحوّلاً بنيوياً عميقاً في طبيعة التوازنات الجيوستراتيجية. ولا يقتصر هذا التحول على تداعيات الحرب اليمنية، بل يعكس تغيّراً أوسع في مفاهيم الأمن البحري، والسيادة الإقليمية، وسلاسل الإمداد العالمية.

خلال عام 2025، تصاعدت حدة التوترات في الجنوب اليمني مع تقدّم قوات المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتياً في حضرموت، وما رافق ذلك من احتكاكات مع قوى محلية مدعومة سعودياً. هذا التطور أعاد إلى الواجهة مخاوف حقيقية من تعميق التفكك اليمني وتحويل الجنوب إلى ساحة تنافس إقليمي مفتوح.

في هذا السياق، تعيد المملكة العربية السعودية صياغة مقاربتها تجاه اليمن، ليس باعتباره ساحة نزاع داخلي فحسب، بل بوصفه عنصراً محورياً في منظومة أمن البحر الأحمر وباب المندب. وتأتي هذه المراجعة الاستراتيجية في ظل تزايد النزعات الانفصالية الجنوبية، وتعدد الأدوار الإقليمية المتنافسة، وتنامي الحضور الدولي في القرن الإفريقي، إلى جانب التآكل المستمر لقدرة الدولة اليمنية على ممارسة سيادتها.

تجادل هذه الورقة بأن التحركات السعودية الأخيرة في حضرموت والمكلّا تعبّر عن انتقال نوعي من منطق إدارة الحرب إلى منطق إدارة المجال الجيوستراتيجي، مع توظيف أدوات عسكرية محدودة ورسائل سياسية محسوبة لضبط توازنات الجنوب ومنع تشكّل كيانات غير منضبطة على حدودها الجنوبية.

أولاً: الإطار الاستراتيجي العام

1. باب المندب كعقدة جيوسياسية عالمية

لم يعد مضيق باب المندب مجرد ممر ملاحي يربط البحر الأحمر بالمحيط الهندي، بل تحوّل إلى عقدة جيوسياسية عالمية تتقاطع عندها مصالح أمن الطاقة، والتجارة الدولية، والصراعات الإقليمية. ويشكّل المضيق امتداداً مباشراً لأمن البحر الأحمر وقناة السويس وشرق المتوسط، بحيث ينعكس أي خلل في ضفتيه الشرقية أو الغربية فوراً على النظامين الاقتصادي والأمني الدوليين، كما ظهر جلياً في التوترات المرتبطة بهجمات الحوثيين وتأثيرها على حركة التجارة العالمية.

2. اليمن: من دولة أزمة إلى ساحة إعادة تشكيل إقليمي

لم يعد اليمن يُدار بوصفه دولة موحدة ذات مركز سيادي واحد، بل تحوّل إلى فضاء مجزأ تحكمه مناطق نفوذ ومنصات صراع غير مباشر. ويبرز الجنوب اليمني، ولا سيما حضرموت والمهرة، كجائزة استراتيجية لا تقل أهمية عن صنعاء أو الحديدة، في ظل سيطرة قوى محلية على معظم السواحل الجنوبية، وتزايد التدخلات الإقليمية والدولية التي تتجاوز الدولة اليمنية كمؤسسة جامعة.

ثانياً: الأهمية الجيوستراتيجية للساحل اليمني الشرقي

1. حضرموت والمكلّا

تمثل حضرموت أكبر كتلة جغرافية يمنية، وتتميز بانخفاض مستوى الاحتكاك المباشر مع الحوثيين مقارنة بمناطق أخرى. كما يتيح شريطها الساحلي المطل على بحر العرب منفذاً بحرياً بعيداً عن اختناقات البحر الأحمر.

يوفر النفوذ المستقر في حضرموت للمملكة العربية السعودية هامش مناورة استراتيجياً مهماً، من خلال تنويع المنافذ البحرية وتقليص الاعتماد الحصري على البحر الأحمر. إلا أن المنطقة شهدت خلال عام 2025 توترات متصاعدة، ترافقت مع تحركات سعودية لتأمين الحقول النفطية والبنية التحتية الحيوية، في مقابل محاولات قوى أخرى توسيع نفوذها الميداني والسياسي.

2. المهرة: بوابة بحر العرب

تشكل محافظة المهرة العمق الشرقي للأمن السعودي، ونقطة ربط محتملة لمشاريع الطاقة وخطوط الأنابيب المستقبلية. كما تمثل حاجزاً جغرافياً أمام تمدد نفوذ قوى إقليمية أخرى تسعى للسيطرة على الموانئ والمنافذ البحرية، ما يمنحها أهمية استراتيجية تتجاوز وزنها السكاني والسياسي المحلي.

ثالثاً: التحدي الانفصالي الجنوبي

يمثل صعود المجلس الانتقالي الجنوبي تحدياً مركباً للأمن السعودي، لا بسبب فكرة الانفصال بحد ذاتها، بل نتيجة ما يترتب عليها من تفكك للسيادة، وتعدد لمراكز القرار، وتحويل الموانئ والسواحل إلى أدوات نفوذ إقليمي.

من منظور سعودي، يكمن الخطر الأساسي في نشوء واقع سياسي وأمني غير قابل للضبط المركزي، يفتح المجال أمام اختراقات خارجية ويحوّل الجنوب إلى ساحة تنافس مفتوحة، بما يهدد أمن الحدود الجنوبية للمملكة واستقرار الممرات البحرية الحيوية.

رابعاً: البعد الإقليمي والدولي

1. الإمارات العربية المتحدة

تركّز المقاربة الإماراتية على الموانئ والجزر، من خلال دعم قوى محلية للسيطرة على السواحل الجنوبية وبناء نفوذ بحري طويل الأمد. هذه السياسة، التي لا تمر دائماً عبر مؤسسات الدولة اليمنية، أسهمت في تعميق التوتر مع السعودية، وخلقت تناقضات داخل التحالف نفسه.

2. إسرائيل

يتزايد الاهتمام الإسرائيلي بالبحر الأحمر، في إطار رؤية أوسع لأمن الملاحة ومواجهة التهديدات الإقليمية. وتُظهر إسرائيل انخراطاً متقدماً في القرن الإفريقي، مع إدراك متزايد لأهمية الضفة الشرقية لباب المندب، وما يوفره ذلك من عمق استراتيجي في مواجهة خصومها.

3. القوى الدولية

تحافظ القوى الدولية على حضور عسكري في جيبوتي ومحيطها، مع تركيز واضح على أمن الملاحة وتراجع الرغبة في التدخل البري المباشر. هذا النمط من الانخراط يسهم، بشكل غير مباشر، في تكريس واقع التفكك اليمني عبر الاعتماد على تحالفات إقليمية متعددة.

خامساً: التحول في المقاربة السعودية

تعكس السياسة السعودية الراهنة انتقالاً من إدارة صراع عسكري يتركز على مواجهة الحوثيين، إلى إدارة مجال جيوستراتيجي متكامل يشمل تأمين العمق البحري، وضبط التوازنات المحلية، ومنع تشكّل كيانات غير منضبطة على حدودها الجنوبية.

ويفسر هذا التحول التحركات السعودية في حضرموت، بما في ذلك نشر قوات محلية مدعومة سعودياً، وتوجيه رسائل عسكرية محدودة، وإعادة ترتيب العلاقة مع الفاعلين المحليين على قاعدة الحفاظ على وحدة اليمن ومنع انزلاق الجنوب إلى تفكك غير قابل للضبط.

سادساً: الخيارات السياساتية المتاحة

الخيار الأول: الاحتواء الذكي

يقوم على دعم قوى محلية غير انفصالية، وتعزيز الإدارة المحلية ضمن إطار الدولة، مع تنسيق غير تصادمي مع الإمارات.
المخاطر: بطء النتائج وهشاشة التفاهمات.

الخيار الثاني: إعادة هندسة الجنوب

يرتكز على فرض ترتيبات سياسية وأمنية جديدة، وتقليص نفوذ الفاعلين غير المنضبطين، وإعادة تعريف دور الدولة اليمنية.
المخاطر: التصعيد الداخلي وتدويل الأزمة.

الخيار الثالث: إدارة الفوضى

يقضي بالقبول بواقع التفكك، والتركيز على حماية المصالح الحيوية فقط، مع ترك الجنوب كساحة توازنات مفتوحة.
المخاطر: استنزاف طويل الأمد وفقدان السيطرة الاستراتيجية.

سابعاً: توصيات سياساتية
    1.    إعادة تعريف اليمن في الاستراتيجية السعودية كمنطقة أمن قومي بحري، لا كملف حرب فقط.
    2.    تعزيز الحضور السياسي في حضرموت بالتوازي مع الحضور الأمني.
    3.    منع احتكار الموانئ من أي فاعل إقليمي أو محلي.
    4.    ربط ملف الجنوب اليمني بأمن البحر الأحمر في أي تفاهمات دولية مستقبلية.
    5.    الاستثمار في ترتيبات طويلة الأمد بدل الحلول التكتيكية المؤقتة.

إن التحركات السعودية في المكلّا وحضرموت لا تمثل ردود فعل ظرفية، بل تعكس تحولاً استراتيجياً أوسع يهدف إلى إعادة ضبط المجال الجيوسياسي الممتد من بحر العرب إلى باب المندب. وسيحدد مستقبل الجنوب اليمني، إلى حد كبير، شكل الأمن البحري الإقليمي خلال العقد المقبل، في ظل تصاعد التنافس الإقليمي وتزايد هشاشة الدولة اليمنية.

disqus comments here