غزة (2): إعادة تشكيل الصراع، الوصاية الأمريكية، وتحويل إسرائيل إلى أداة تنفيذ

يمثّل اللقاء السادس بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو محطة مفصلية في مسار إدارة الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، ليس من حيث كونه لقاءً ثنائياً إضافياً، بل لكونه كشف بصورة صريحة عن انتقال مركز الثقل الاستراتيجي من تل أبيب إلى واشنطن، ومن منطق الشراكة الخاصة إلى نمط أقرب إلى الوصاية السياسية الأمريكية المباشرة. وقد عُقد هذا اللقاء في منتجع مارالاغو جنوب ولاية فلوريدا يوم أمس الاثنين الموافق 29 أغسطس 2025، في لحظة إقليمية شديدة الحساسية، ما أضفى على مخرجاته بعداً يتجاوز الإطار البروتوكولي ليطال إعادة هندسة وتشكيل إدارة الصراع ذاته، لا سيما في سياق ما بات يُعرف بالمرحلة الثانية من اتفاق غزة، أو غزة (2).

تكمن أهمية هذا اللقاء في كونه جاء بعد خمس لقاءات سابقة عجزت خلالها إسرائيل عن تحويل تفوقها العسكري إلى إنجاز استراتيجي حاسم في غزة. فقد كشفت الحرب حدود القوة الإسرائيلية، وأنتجت حالة إنهاك داخلي سياسي وعسكري واقتصادي، ترافقت مع تصاعد الضغوط الدولية وتآكل الشرعية الأخلاقية والقانونية للسلوك الإسرائيلي. في هذا السياق، دخل ترامب اللقاء السادس من موقع صاحب القرار، واضعاً تصوراً متكاملاً للانتقال من إدارة الحرب إلى إدارة ما بعدها، وفق مقاربة براغماتية تقوم على الضبط المرحلي للصراع بدل حله.

إصرار ترامب على البدء السريع بإعادة إعمار غزة الفلسطينية لا يمكن فهمه خارج هذه المقاربة. فالإعمار هنا يُطرح كأداة سياسية واقتصادية، لا كاستحقاق قانوني أو إنساني، ويهدف إلى خلق واقع بنيوي جديد، يربط الاستقرار الأمني بمشاريع إعادة البناء والاستثمار. ويتقاطع هذا الطرح مع أطماع أمريكية واضحة في ثروات شرق المتوسط، ولا سيما الغاز والبترول قبالة سواحل قطاع غزة، إضافة إلى إدماج القطاع في مشاريع استراتيجية أوسع تتعلق بالطاقة والنقل والموانئ، بما يعيد تعريف وظيفته في المعادلة الإقليمية.

في هذا الإطار، يبرز البعد الديمغرافي كأحد أخطر مكونات غزة (2). فالإشارات المتكررة، الصريحة والضمنية، إلى تهجير جزئي أو إعادة توزيع سكاني، لا يمكن اعتبارها أفكاراً عابرة، بل تعكس توظيفاً ممنهجاً للأزمة الإنسانية كرافعة لإعادة تشكيل المجال السكاني. هذا النمط من السياسات يندرج ضمن ما تصفه أدبيات الصراع بالهندسة الديمغرافية تحت الضغط، حيث تتحول الكارثة الإنسانية إلى أداة لإنتاج وقائع سياسية وأمنية جديدة طويلة الأمد.

في المقابل، بدا نتنياهو في هذا اللقاء في أضعف حالاته السياسية. فإخفاقه العسكري في قطاع غزة، وتورطه في أزمات قضائية داخلية، والانقسام الحاد داخل المجتمع الإسرائيلي، والأزمة القيادية البنوية للاحتلال جميعها عوامل حوّلته من شريك في صياغة الاستراتيجية إلى أداة تنفيذ ضمن السقف الأمريكي. وفي هذا السياق، تكتسب إشارة ترامب إلى إمكانية منحه عفواً دلالة سياسية، إذ تحمل رسالة واضحة بأن مستقبل نتنياهو السياسي والقضائي بات مرتهناً بالكامل للتوجهات الأمريكية بمعنى أدق في يد ترامب. هذا التدخل المباشر في الشأن الداخلي الإسرائيلي يؤشر إلى انتقال العلاقة من التحالف المتكافئ نسبياً في الإطار الوظيفي إلى نمط من الوصاية السياسية الناعمة.

لم يغب ملف السلطة الوطنية الفلسطينية عن نقاشات اللقاء، بل طُرح من زاوية الإصلاح، خاصة فيما يتعلق بالمناهج التعليمية وبنية السلطة. غير أن هذا الخطاب، عند تفكيكه، يكشف عن محاولة لإعادة إنتاج سلطة فلسطينية وظيفية، منزوعة الأدوات السيادية، تُستخدم كوسيط إداري وأمني في الضفة الغربية وغزة، دون منحها أفقاً سياسياً حقيقياً. هذا النموذج يكرّس إدارة السكان بدل تمكينهم، ويؤجل قضايا تقرير المصير إلى أجل غير مسمى.

أما الضفة الغربية بالذات، فقد شكّلت أحد أكثر ملفات اللقاء حساسية، خصوصاً فيما يتعلق بعنف المستوطنين. إقرار ترامب بعدم التوصل إلى اتفاق كامل مع نتنياهو حول هذا الملف يعكس إدراكاً أمريكياً بأن انفلات المستوطنين بات عبئاً سياسياً وقانونياً متزايداً. ومع ذلك، ظل الخلاف في إطار إدارة التباين، دون أن يتحول إلى ضغط استراتيجي حقيقي على المشروع الاستيطاني، ما يؤكد أن واشنطن لا تستهدف تفكيكه، بل ضبط إيقاعه بما يخدم الاستقرار المرحلي.

في هذا السياق الأوسع لإعادة هندسة الإقليم، لا يمكن تجاهل دلالة اعتراف إسرائيل بما يُسمّى أرض الصومال، والذي يشكّل محطة مفصلية تتجاوز بعدها الإفريقي المباشر. فهذا الاعتراف لا يُقرأ بوصفه خطوة دبلوماسية معزولة، بل كجزء من استراتيجية أوسع لإعادة تشكيل خرائط النفوذ والشرعية في مناطق النزاع والهشاشة السياسية. فالتعامل مع كيانات غير معترف بها دولياً، ومنحها شرعية انتقائية، يعكس نمطاً جديداً في إدارة النظام الدولي، يقوم على تفكيك الدول الضعيفة، وتطبيع التعامل مع كيانات الأمر الواقع، بما يخدم المصالح الأمنية والاقتصادية للقوى الكبرى (مُلَّاك العالم). وفي هذا الإطار، تتقاطع حالة أرض الصومال مع سيناريوهات مطروحة لغزة، سواء على مستوى الوصاية الدولية، أو إعادة تعريف السيادة، أو التعامل مع الواقع المفروض باعتباره بديلاً عن الحل القانوني والسياسي.

إقليمياً، رَبط اللقاء مسار غزة بملفات إيران وسوريا، في دلالة واضحة على أن واشنطن تدير هذه الساحات كوحدة استراتيجية واحدة. فترامب أبقى خيار الضربة الإسرائيلية لإيران قائماً في حال فشل المسار التفاوضي، دون الانخراط في خطاب إسقاط النظام، ما يعكس توظيف إسرائيل كأداة خشنة. وفي الملف السوري، طغى خطاب التسوية والبحث عن ترتيبات سياسية، في محاولة تجميد الجبهات الأقل أولوية وتركيز الجهد على إعادة ترتيب الإقليم بأقل كلفة ممكنة.

خلاصة القول إن غزة (2) لا تمثّل مرحلة سلام، بل مرحلة إعادة تشكيل للصراع وفق منطق الإدارة والضبط المرحلي. فاللقاء السادس في مارالاغو كشف بوضوح أن القرار الاستراتيجي بات أمريكياً خالصاً، وأن إسرائيل، في ظل ضعف قيادتها السياسية، تحوّلت إلى أداة تنفيذ ضمن رؤية أوسع لإعادة هندسة وتشكيل الإقليم، تمتد من غزة إلى القرن الإفريقي وفق ما بات يعرف بالسلام الإبراهيمي. وفي هذا السياق، لا تكمن الخطورة فقط فيما يُنفَّذ على الأرض، بل فيما يُؤجَّل عمداً، إذ تُرحّل جذور الصراع إلى المستقبل، بما ينذر بانفجارات أشد وأكثر تعقيداُ في مراحل لاحقة.

سامحونا؛؛؛

disqus comments here