حطّات حُمر وعصابات صهيونية”.. د. نهى زعرب قعوار تروي حكاية احتلال الناصرة

تقول زُعرب قعوار إنه “عند احتلال الناصرة بتاريخ 16 تموز، كان عمري حينها 12 عامًا. دخلت العصابات الصهيونية البلدة من ثلاث جهات: من جهة صفورية شمالًا، والعفولة جنوبًا، ومستوطنة كفار هحورش غربًا”.

المسار : في تموز/ يوليو عام 1948 وبعد شهرين من إعلان استقلال إسرائيل، سقطت الناصرة في قبضة العصابات الصهيونية.

وقع احتلال المدينة نتيجة لمخططات ممنهجة نفّذتها عصابات “الهاغاناه” و”البلماح” ضمن “عملية ديكل”، التي هدفت إلى إخضاع الجليل وإكمال تهجير ما تبقى من المدن والقرى الفلسطينية.

دخلت القوات الصهيونية الناصرة حيث يقع مركز جيش الإنقاذ بقيادة فوزي القاوقجي، من ثلاث جهات مدعومة بالسلاح الثقيل والدبابات، لتفرض سيطرتها في ساعات، دون مقاومة مسلّحة تُذكر، بعد أن أُنهكت المنطقة من النزوح والتشريد.

تقع الناصرة في الجليل الأسفل، كان يسكنها نحو 14 ألف نسمة لغاية العام 1948.

كان يعتمد اقتصاد الناصرة على الزراعة والتجارة المحلية، إلى جانب السياحة الدينية المرتبطة بالمواقع المسيحية التاريخية، كما شهدت الناصرة نشاطًا تعليميا ملحوظًا، مع انتشار المدارس الأهلية والحكومية، وارتفاع نسبة التعليم بين أبنائها.

وعلى الرغم من تصاعد التوتر السياسي في فلسطين، لم تكن الناصرة ساحة لاشتباكات مباشرة قبل تموز 1948، ما دفع العديد من سكانها للاعتقاد بأن بلدتهم ستُستثنى من المعارك. هذا الشعور لم يدم طويلًا، إذ كان يوم السادس عشر من تموز نقطة تحوّل حاسمة في تاريخ الناصرة وسكانها.

تُحدّث الشاهدة على النكبة واحتلال الناصرة، الأديبة والمؤرخة د. نهى زُعرب قعوار (89 عامًا)، “عرب 48” عن تفاصيل يوم 16 تموز 1948، يوم احتلال الناصرة.

تروي زُعرب قعوار أنه “عند احتلال الناصرة بتاريخ 16 تموز، كان عمري حينها 12 عامًا. دخلت العصابات الصهيونية البلدة من ثلاث جهات: من جهة صفورية شمالًا، والعفولة جنوبًا، ومستوطنة كفار هحورش غربًا. حالة من الخوف كانت تخيّم على الناصرة في الأيام التي سبقت الاحتلال، وعدد ليس بالقليل من الأهالي فرّوا واختبأوا في مغارات الجبال، ومنهم من لجأ إلى لبنان”.

تضيف زعرب قعوار: “أنا وعائلتي بقينا في منزلنا بالبلدة القديمة في الناصرة، إذ كان جديدا ومحصنا، خلال ذاك اليوم كنت أرى مجموعات من شباب الناصرة يتوجهون نحو منطقة الخانوق مفرق طبرية – صفورية شمالي البلدة، وعند الساعة الرابعة عصرا، سمعنا صوت إطلاق نار كثيف لم نسمعه من قبل، استمر نحو ساعة”.

الدبابات إنجليزية والجيش عراقي!

تكمل زعرب قعوار أنه “عندما توقف إطلاق النار، خرج أبي ليعرف ما الذي حصل، فرأى دبابات وجنود على مسافة بعيدة من منزلنا، وعاد إلينا يقول ‘تعالوا اخرجوا! الدبابات إنجليزية والجيش عراقي! لا تخافوا، الجيش يرتدي حطّات لونها أحمر’ (مثل لباس الجيش العراقي)”.

تسهب الشاهدة على النكبة واحتلال الناصرة أنه “بعدها بأقل من ساعة بدأنا بسماع صوت جنود يصرخون ويطالبونهم بفتح الباب، بعدها بقليل جاءوا لمنزلنا وهددوا بكسر الباب، ففتح لهم والدي، وعندها بدأ الجنود بالحديث بين بعضهم البعض باللغة العبرية! وكان أبي يعرف اللغة العبرية بسبب طبيعة عمله وتنقله بين المدن، فقد كان كبير المهندسين وضابط مساحة فلسطين في عهد الانتداب البريطاني”.

تتابع أنه “صُدمنا حينما عرفنا أنهم جنود العصابات الصهيونية! وتفاقمت حالة الخوف والتوتر خصوصا أننا كنا على دراية بمجازر دير ياسين وعيلبون، بعد ذلك قاموا بتفتيشنا وسرقوا صيغة أمي التي كانت في جيب أبي، بعدها أجبرونا على رفع أيدينا والخروج مرورا بحرش القشلة حتى منطقة الخانوق”.

تواصل زعرب قعوار أنه “عندما وصلنا الساحة الكبيرة في منطقة الخانوق، إذ برجل مزارع كان يعمل في حديقتنا اسمه سعيد يخرج من بين المنازل ويرتدي حطّة حمراء اللون، وعندما صار على بعد 10 أمتار من الجنود وما زالوا يلبسون الحطّات الحُمر، قال سعيد ‘مسلم والحمد لله’ مباشرة أطلقوا النار عليه بكثافة وقتلوه، وبدأنا بالبكاء على سعيد”.

تقول محدثتنا إن “أبي كان جريئا، ذهل حينها لضابط اتضح أنه يهودي أميركي اسمه حاييم سغلوف وتحدث معه بالإنجليزية قائلا ‘نحن حتى متى سنبقى هنا؟’ فأشار إلى المنزل الذي فيه رئيس البلدية وقادة العصابات الصهيونية، وأجاب أبي قائلا ‘إذا سلّمت الناصرة بتسلموا وإذا لا.. ‘، فمسك البندقية بيده ولوّح بها يمينا ويسارا، بما معناه سوفف نقتلكم”.

تسرد زعرب قعوار أنه “بعدها بقليل جاء رئيس البلدية، يوسف الفاهوم، ورجل آخر اسمه إبراهيم الفاهوم، والضابط صاموئيل خميس، وخوري الكاثوليك باسيليوس، ورفع رئيس البلدية عصا عليها خرقة بيضاء، ومن ثم اعتلوا سقف منزل يطل على الساحة مع قادة العصابات الصهيونية، وعندها قالوا إنهم مضّوا على وثيقة الاستسلام والخنوع”.

وتلفت الشاهدة على النكبة واحتلال الناصرة النظر إلى أنه “لم نتوقع احتلال الناصرة، كنا نعتقد أن هذا جيش الإنقاذ! ومع بدء الاحتلال زادت حالة الخوف في البلدة من أن يكون مصير الأهالي مشابها لما حصل للأهالي في مجزرة عيلبون ومجزرة دير ياسين، وزيادة على ذلك حالات التحرش والتعدي على النساء وتعريتهن! وهذا ما شرّد أهالي صفورية فقد خشوا من العصابات على نسائهم”.

وتبيّن زعرب قعوار أنه “بعد ذلك اتضح أن العصابات قتلت 18 شخصا من أهالي الناصرة في ذاك اليوم، ومنهم امرأة مسلمة جارة بيت جدي، عندما رأت الجنود في الشوارع ويلبسون حطّات حُمر اعتقدت أنه جيش مفتي فلسطين، الحاج أمين الحسيني، وخرجت تزغرد وتغني الأهازيج فأطلق الجنود النار عليها وقتلوها. في نهاية اليوم عدنا إلى المنزل وقد كسّر الجنود ودمروا كل شيء داخله”.

الناصرة بعد الاحتلال

تذكر زعرب قعوار أن “الناس جاعت مع احتلال البلدة، توزيع الخبز أصبح مرفقا بالقَسِيمَة (الكوبون) وبكمية محددة، كذلك اللحوم يحق لكل منزل كيلو غرام في الأسبوع، كل المؤن كانت محددة، لا تستطيع شراء الكمية التي تريدها وليست كل الأصناف متوفرة ولا تسطيع الشراء من أي دكان تريد، هناك دكان محدد لكل منزل، كان طابور شراء الخبز يمتد لمئات الأمتار من منطقة كنيسة البشارة حيث الفرن بجانبها إلى ساحة عين العذراء، واستمرت هذه الحالة 10 سنوات تقريبا”.

وعن فترة الحكم العسكري، أفادت زعرب قعوار بأنه “في تلك الحقبة كان مستوى البطالة مرتفع جدا في البلاد عامة، وكان يُمنع الخروج والسفر بين البلدات لا بتصريح، وممنوع المبيت خارج بلدتك، كانت مدة صعبة جدا”.

وتشير زعرب قعوار إلى أنه “بعد 3 أيام من الاحتلال، أرسل الحاكم العسكري مرسالا مع شخصيات معروفة في المدينة، لعودة أبي إلى عمله كمهندس وضابط مساحة، إلا أن أبي رفض وقال لهم ‘لا أتعاون مع دولة إسرائيل’ وقد انتقمت السلطات منا بفعل هذه الجملة، حيث كان هناك رفض تام لتوظيفي وإخوتي وأخواتي في أي وظيفة متعلقة بالحكومة وفي حالتي كمعلمة”.

من هي د. نهى زعرب قعوار؟

أديبة، وشاعرة، ومؤرخة فلسطينية بارزة، وُلدت في الناصرة في 18 آذار/ مارس 1936، تُعد من أبرز الشخصيات الثقافية في الداخل الفلسطيني، إذ ساهمت بشكل كبير في توثيق التاريخ المحلي وتعزيز الحياة الأدبية، ألفت عدة مجموعات شعرية كما كتبت عدة كتب للأطفال، ويُعد كتابها “تاريخ الناصرة” من أهم أعمالها، استغرق تأليفه 18 عامًا، ويُعد موسوعة شاملة عن تاريخ الناصرة.

وأسست زعرب قعوار “صالون نهى الأدبي” في الناصرة قبل أكثر من 45 عامًا، وهو ملتقى ثقافي يجمع الأدباء والشعراء والمثقفين من مختلف الخلفيات. يُعقد اللقاء في الأربعاء الأول من كل شهر، ويُعد من أقدم المنتديات الثقافية في الجليل.

disqus comments here