الجوع في غزة: سلاح الاحتلال الجديد لإعادة تشكيل الجغرافيا والديموغرافيا

لم تعد أزمة الجوع في قطاع غزة مجرد نتيجة طبيعية لحربٍ أو حصارٍ طال أمده. ما نعيشه اليوم يتجاوز حدود الكارثة الإنسانية إلى ما هو أخطر: استخدام الجوع كسلاح، وأداة ضغط ممنهجة في يد الاحتلال الإسرائيلي لتحقيق أهداف سياسية وعسكرية بعيدة المدى، يأتي في مقدمتها إعادة تشكيل غزة ديموغرافياً وجغرافياً، وعزلها نهائياً عن الضفة الغربية، في محاولة لدفن فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة.

لأكثر من ثلاثة أشهر، يعاني أكثر من مليوني فلسطيني من غياب مقومات الحياة الأساسية: غذاء، ماء، ودواء. ومع ذلك، تستمر إسرائيل في فرض قيود مشددة على إدخال المساعدات، وتُبقي المعابر مغلقة أو شبه مغلقة، متحدّية بذلك كل المناشدات الإنسانية والدولية. أما ما يُسمّى بالمساعدات، فلا تكاد ترقى إلى مستوى "التقطير"، في مشهد يكرّس الجوع، ولا يعالجه.

الأخطر من ذلك هو ما تكشفه طريقة توزيع هذه المساعدات. إذ تُدار العملية عبر شركات أميركية، وتحت إشراف جنود أميركيين سابقين، ضمن مراكز تجميع محددة في جنوب ووسط القطاع. هذا التحديد الجغرافي ليس اعتباطياً، بل يرسم معالم مشروع تهجيري ناعم، يدفع السكان للنزوح نحو "مناطق احتواء إنساني"، تُدار كأنها حظائر بشرية، بذريعة الإغاثة. هي ليست خطة إنسانية، بل تكتيك سياسي وعسكري، هدفه تفريغ الشمال ومناطق معينة من السكان، تمهيداً للسيطرة العسكرية عليها دون تكلفة بشرية أو إعلامية.

نحن أمام محاولة لتطويع الجوع، وتحويله إلى أداة "هندسة سكانية"، في إطار مشروع أوسع لفرض واقع جغرافي-سياسي جديد، يقضي على حلم الدولة الفلسطينية الموحدة، ويكرّس الانقسام، ويخلق واقعاً ميدانياً يُستخدم لاحقاً في طاولات التفاوض، إن حصلت.

من هنا، فإن مسؤولية التصدي لهذا المشروع لا تقع على الفلسطينيين وحدهم، بل على المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية أن تتحرك فوراً. المطلوب ليس فقط زيادة المساعدات، بل تغيير جوهري في آلية إدخالها وتوزيعها. يجب فتح جميع معابر غزة بشكل كامل، والسماح بتدفق الإغاثة إلى كل مناطق القطاع، دون اشتراطات أو توزيع انتقائي.

الغذاء يجب أن يبقى حقاً إنسانياً، لا وسيلة لخدمة أجندات الاحتلال. والكرامة لا تُقايض بلقمة مشروطة، ولا تُختزل في طرد إغاثي في مركز معزول. المطلوب اليوم هو كسر الحصار، وليس الالتفاف عليه؛ فرض حل سياسي، لا تسكين إنساني؛ دعم صمود الفلسطينيين في أرضهم، لا دفعهم قسراً لمغادرتها.

الجوع في غزة ليس قدراً، بل سياسة. ومواجهته تبدأ بكشف هذه السياسة، ورفض تحويل المساعدات إلى خيوط في لعبة الاحتلال.

disqus comments here