العودة وخيار الموت أو الرحيل
Sun 19 October 2025

أسامة خليفة كاتب فلسطيني بعد إعلان وقف إطلاق النار يوم الجمعة 10/10/2025 بدأ عشرات الآلاف من الفلسطينيين العودة إلى شمال قطاع غزة، في ظروف انعدام مقومات الحياة حيث المنازل والبنية التحتية المدمرة، ولا مكان لنصب خيمة إلا فوق الركام الهائل الذي يغطي كل الأمكنة، وهذه ثاني عودة جماعية لقوافل المهجّرين إلى شمال القطاع، وكانت المرة الأولى بعد دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في 19 كانون الأول/ يناير الماضي، ذلك إنما يدل على تمسك الفلسطينيون بأرضهم ووطنهم ورفض التهجير. منذ 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، نزح سكان الشمال عدة مرات، وعندما رفض مئات الألوف من سكان مدينة غزة أوامر الإخلاء الإسرائيلية، تصاعد القصف العنيف والمتواصل، وتزايد تفجير الروبوتات التي تحمل الأطنان من المتفجرات، لم يكن إخلاء مناطق آهلة بالسكان في قطاع غزة لأسباب السلامة، وإبعاد المدنيين عن منطقة خطر، بل كان الخطر يلاحق المهجّرين في كل مكان في القطاع، ولا وجود لمنطقة آمنة في طول البلاد وعرضها، وباعتراف الجميع ما سمّته إسرائيل ممرات آمنة لم تكن آمنة بل مصائد للقتل والاعتقال، وحوّل الجيش الإسرائيلي المواصي إلى منطقة مكتظة بالسكان، واكبت مجازر الجيش الإسرائيلي إصدار أوامر إخلاء جماعية لسكان شمال قطاع غزة، تطلب منهم الانتقال إلى جنوب القطاع عبر منشورات ورسائل هاتفية ووسائل إعلام، مع تصاعد القصف والتهجير لجأ أكثر من مليون ونصف فلسطيني إلى الجنوب، فتكدسوا في مناطق مثل رفح وخان يونس في ظروف إنسانية كارثية، حتى لم تعد مناطق الإيواء تتسع لنصب خيمة واحدة. سياسة الاخلاء القسري نهج صهيوني مورس منذ النكبة الفلسطينية العام 1948، سمح قرار تقسيم فلسطين 181 الصادر عن الأمم المتحدة للعصابات الصهيونية بالتعاون مع سلطات الانتداب البريطاني بتهجير نحو مليون فلسطيني من منازلهم وأراضيهم تحت تهديد السلاح والقتل والمجازر الوحشية، فعاش اللاجئون في خيام البؤس يعانون مآسي التشرد والفقر المدقع. وكما هي الصورة واضحة في نكبة قطاع غزة من جرائم ومجازر روعت السكان الآمنين، شاهدها العالم في بث مباشر، جرت أحداث النكبة الأولى في ظل التعتيم وغياب وسائل الإعلام عن التغطية، وكي لا يعود السكان إلى بيوتهم وجعل العودة إليها مستحيلة، بعد هدنة أو اتفاق وقف القتال، واصل جيش الاحتلال التدمير الشامل وتسوية أحياء بأكملها بالأرض، ورغم السماح بعودة السكان إلى شمال القطاع، بعد اتفاقيتين لوقف إطلاق النار، ومسيرتي عودة للسكان إلى بيوتهم، لم يجدوا مساكن يأوون إليها. وزير الأمن المتطرف إيتمار بن غفير اعتبر أن التهجير الحل المشروع، فيما دعا قادة إسرائيليون آخرون إلى نكبة جديدة لتهجير الفلسطينيين، تشابه ما حدث في العام 1948 بل تفوقها إجراماً. أكثر من 531 بلدة هدمها الجيش الإسرائيلي في العام 1948، ترشيحا قرية لم تكن آمنة في صباح يوم الخميس 28 تشرين الثاني 1948 عندما قامت طائرات العدو ومدفعيته بقصف عنيف دمر معظم بيوت القرية، وأدى إلى سقوط العشرات من الشهداء، بقي العديد منهم تحت ركام البيوت المدمرة، نزح عن القرية معظم سكانها، وأقام مستوطنون قادمون من رومانيا وبلدان أخرى مستوطنة فوق أراضيها. فاطمة هواري ابنة قرية ترشيحا دمر القصف بيتها وأحلامها، خرجت من تحت الركام حية، لكن مشلولة لتصبح أغنية لكل فلسطيني وفلسطينية قتل العدوان أحلامهم وآمالهم، ودمر حياتهم وبيوتهم، أغنية عروس الجليل كلماتها للشاعر مروان مخول، ومنها: عروس الجليل تُغنّي على موّالها حلاة الروح في الخصر المشوّه حنين جرح لتيه الشظيّة عروس الجليل رقصت في كرسيّها المتحرّك نجماً يضيء طريق الخرافة للعائدين من أقاصي العدم وكم من الجميلات طلعن على البدر بدراً يبيعُ الصخر ليونة الإحساس من وجه حسن لا الصخر لان ولا حول لمن تنادي عروس الجليل أنت انتظاري على الضفة الأخرى من عبور القذيفة أنت معي ورداً شقني ليأتي على الدنيا مثنى أمّا أنا.. فلي عندي نبيذ دفين في رغبة ناسك إذا تاب عروس الجليل حالتان خاصتان ركن نلوذ إليه لنعلم نرجسة من أين يأتي الغرور وعبرة لمن ركب سماءنا ليقصفها فأدرك في فراغ ذخيرته كم فينا من تعاطف مع الساقطين من علوّ جرائمهم عروس الجليل منطقنا تلّ زعتر يذكّرنا فنشكره وميرمية نشربها لترتوي منّا هي طيٌ هاجر مع الأسراب لا ليقتسم الفرار إنّما ليدلّه السرب كيف الرجوع إلى الغصن الشريد عروس الجليل فارسها.. ولا بدّ أن يأتي جواداً أبيض إن شاء الربيع أما أهالي قرية كفر برعم فقد أصبحوا مهجرين في وطنهم، في 16 أيلول/ سبتمبر 1952 قامت طائرات العدو بتدمير بيوت القرية بالقنابل، واستمر مشهد التدمير في اليوم التالي باستخدام الألغام و المتفجرات، جرى ذلك أمام أعين أهالي كفر برعم شاهدوا بألم وخيبة أمل التدمير من فوق التلة المشرفة على قريتهم التي أطلقوا عليها اسم المبكى، وصارت التلة مزاراً يومياً يقصده أهالي كفر برعم لتجديد العهد على العودة، وبادروا إلى إعلان حملة العودة إلى منازلهم، أطلقوا على مبادرتهم « أعلن عودتي »، وتعاهدوا على ميثاق العودة الذي جاء فيه: «نعلن تحرُّكنا الشعبي بعد نضال طال أمده 65 عاماً، وبعد محاولات عديدة لتحقيق حلم العودة الى قريتنا السليبة، القضائية منها والجماهيرية، وبعد مواجهة عنصرية وغطرسة الاحتلال على كلّ أنواعها، نرى أنّ تواجدنا في القرية هو عودتنا الأكيدة والوحيدة، ومن هنا فإننا، مع أو دون قرار من سلطات الاحتلال، نُعلن عودتنا وندعو كلّ أهالي القرية ومن يرى بنفسه شريكاً في النضال، وجميع مساندي قضيتنا العادلة إلى العودة، لنعيد إحياء كفر برعم بشيبها وشبابها». يقول أحد شعراء القرية: على خد هضبة جميلة زمان جدودنا بنوا ضيعتنا كسّروا صخورها بسواعد الفتيان تا بنوا مداميك حارتها زرعوا تينها وزيتونها ورمان وعدسها وفولها وحنطتها الآلة ما كانت موجودة زمان بزنود رجالها كسّروا الصخر وطلعو نبعتها طرد الفلسطينيين من بيوتهم عبر القصف والتجويع والحصار، دون السماح لهم بالعودة إلى بيوتهم ليس نزوحاً مؤقتاً ولا هجرة طوعية، بل هو تهجير قسري بموجب القانون الدولي الإنساني، ينتهك اتفاقيات جنيف. تعرّف «المفوضية السامية لحقوق الإنسان» الإخلاء القسري بأنه «الإبعاد الدائم أو المؤقت للأشخاص، و/ أو أسرهم، و/ أو المجتمعات المحلية، من المنازل، و/ أو الأراضي التي يشغلونها، ضد إرادتهم، ودون توفير أشكال مناسبة من الحماية القانونية، أو غيرها من أشكال الحماية الأخرى، ومن دون إمكانية الوصول إلى الحماية»، وتؤكد المفوضية أن «ممارسة الإخلاء القسري تشكل انتهاكاً جسيماً لمجموعة واسعة من حقوق الإنسان المعترف بها دولياً، بما فيها الحقوق في السكن اللائق والغذاء والماء والصحة والتعليم والعمل والأمن الشخصي والتحرر من المعاملة القاسية واللاإنسانية والمهينة وحرية التنقل». في سبتمبر/ أيلول أعلن الجيش الاحتلال الإسرائيلي انطلاق عملية عسكرية بمسمى عربات جدعون 2، وتستخدم تكتيك «الإخلاء الإجباري تحت القصف» لدفع سكان شمال القطاع نحو الجنوب. وحسب تقديرات الجيش أن 95% من سكان الشمال نزحوا إلى جنوب القطاع، معتبراً كل من بقي هناك أهدافاً عسكرية، يواجهون خيارين لا ثالث لهما إما الموت تحت ركام بيوتهم المستهدفة بالقنابل الثقيلة أو الرحيل جنوباً، أصدر الناطق باسم الجيش الإسرائيلي إشعارات بالإخلاء لسكان مدينة غزة، كما أصدر الجيش الإسرائيلي أوامر إخلاء لثلاث مستشفيات في المنطقة، شن الجيش بعدها هجوماً واسعاً بدأه بمخيم جباليا. احتمل الباقون في بيوتهم، والمتشبثون بأرضهم، ما لا يحتمله بشر، تحدوا الموت والدمار، وتحملوا عنف وإجرام المعتدين، وصمدوا صموداً أسطورياً أمام الحصار والجوع والعطش، وعانوا من ظروف بمنتهى القسوة، هذا التواجد أعاق تنفيذ خطة جدعون 2 كما أعاقت من قبل خطة الجنرالات، وعرقل الانتقال إلى المرحلة الثانية حيث من المفترض أن يتبع المرحلة الأولى من التطهير العرقي وإخلاء المنطقة من السكان، مرحلة ثانية بتحويل شمال القطاع إلى منطقة عسكرية مغلقة وعزل المنطقة كلياً عن باقي القطاع، ومنع أي حركة دخول أو خروج منها أو إليها. وحسب الخطة، عند توقف الحرب وتحقيق الانتصار واستئصال المقاومة تقوم الحكومة الإسرائيلية بحملة استيطان واسعة في هذه المنطقة. بعد رحلة التهجير القسري الطويلة كان مشهد العودة مدهشاً بالصورة التي تناقلتها وسائل الإعلام، مشهد عودة جماعية يتدفق سيولاً بشرية، موكب شعبي عريض ومهيب، كان بالنسبة للإسرائيليين مستفزاً لمشاعرهم العنصرية، مثيراً مشاعر الغضب على قيادتهم السياسية والعسكرية الخائبة والعاجزة عن تحقيق أهداف أعلنتها، واعدة جمهورها المتعطش لدماء الفلسطينيين بالنصر المطلق، لكن مشاعرهم كانت تفيض بإحساسهم بالهزيمة، فمشهد العودة نقيض حقيقي للمشروع الصهيوني القائم على التطهير العرقي. والعقيدة الفلسطينية الراسخة في العودة إلى الديار هي أيضاً نقيض العقيدة الصهيونية في الاحتلال وسلب الأرض وطرد السكان والاستيطان والتهويد.