“الأرض الضيقة”.. ما لا يُروى عن فلسطين

من بين مئات الكتب التي تتناول الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، يكتسب كتاب “فلسطين: الأرض الضيقة” للصحافية الإسبانية بياتريس ليكومبيري، الصادر حديثاً عن دار “بيغ سور” ثلاثة عناصر أساسية: الصدق، والإنسانية، والإصغاء. فهو لا يسرد الوقائع الجافة، بل يصوغها من أفواه من عاشوها، وجعلوا من أجسادهم وأحلامهم مسرحاً للنكبات المتكررة.

عبر 250 صفحة، تنتقل الكاتبة من بين مرافئ قُصفت، وحواجز تُهين، وأنفاق تقسم الحياة إلى ما قبل وما بعد، لتجمع كل ذلك في فسيفساء تفيض بألمٍ خافت لكنه حاضر، من دون أن تحتل الكاتبة ذاتها مركز المشهد، بل تبقى في الخلفية، تُصغي وتسجّل.

الكتاب، الذي يمكن وصفه بأنه ريبورتاج طويل النفس بضميرٍ حيّ، لا يحاول أن يُرضي أطراف الصراع بقدر ما يسعى لفهم البشر خلف هذا النزاع، ويجتهد في تقديم رواية معقدة، متعددة الزوايا، من دون أن يسقط في فخّ الحياد الزائف أو “التمييع الأخلاقي” باسم التوازن.

كل الأصوات حاضرة: الإسرائيليون والفلسطينيون الذين يتصارعون، والذين يتحاورون، والذين يتجاهل بعضهم بعضاً. رجال ونساء من الضفتين، يعبرون عن خوفهم، انكساراتهم، أو حتى صمتهم؛ ذلك الصمت الذي كثيراً ما يكون تعبيراً عن عجز عن تبرير الباطل بالكلمات.

لا يسرد الوقائع الجافة، بل يصوغها من أفواه من عاشوها

تعتمد ليكومبيري أسلوب الحكاية الصحافية المتقنة، متنقلة بين قصص فلسطينيين وإسرائيليين، تكشف عبرها جوانب من المعاناة اليومية تحت الاحتلال أو في ظل الحصار. تروي قصة عائشة، الطفلة الغزية التي خضعت لجراحة دماغية من دون أن يُسمح لوالديها بمرافقتها، وقصة عوض الذي أُجبر على هدم منزله في القدس الشرقية لتفادي غرامة باهظة. كذلك تروي أمام العالم قصة نوام، المستوطن الذي يتحدث بهدوء من على شرفة تطل على الصحراء، متجاهلاً أن وجوده في هذا المكان يخالف القانون الدولي والأعراف وكل شيء متصل بالإنسانية.

لكن ما يمنح الكتاب عمقه السياسي والثقافي أيضاً هو نقده الجريء للأوهام الدولية. فحلّ الدولتين، كما تشير الكاتبة، لم يكن في يوم من الأيام أكثر من “خدعة دبلوماسية”، استُخدمت لإدامة الأمر الواقع، فيما كانت سياسات الاستيطان والتمييز تسير بخطى متسارعة. ومن جهة أخرى، لا تتردد الكاتبة في تحميل المسؤولية القياداتِ الفلسطينيةَ المأزومة داخلياً، والغارقة في انقساماتها.

أما الخلاصة الأهم التي ينتهي إليها الكتاب، فهي أن السلام لا يكون ممكناً من دون ذاكرة. لا يمكن فهم ما يجري اليوم إذا حصرنا الذاكرة في لحظة أو تاريخ معيّن. فالصراع، كما تشير ليكومبيري، لا يبدأ في السابع من أكتوبر، ولا ينحصر في نكبة 1948، بل هو حاضر في المدارس، وفي العائلات، وفي الهويات المتضادة، وفي السياسات الدولية، وحتى في غياب الحديث ذاته عن هذه المآسي.

“ما لا يُروى كأنه لا يوجد”، تقول الكاتبة. وبهذا المعنى، فإن التعتيم الإعلامي، والتقصير في الفهم، والتردد في التعاطي مع المأساة الفلسطينية بلغة الحقيقة، يُعدّ مشاركة في الجريمة.

في النهاية، “فلسطين، الأرض الضيقة” ليس فقط كتاباً عن فلسطين، بل درسٌ في الصحافة الإنسانية، وفي أخلاقيات السرد، وفي ضرورة أن يكون للمعاناة من يُنصت لها، لا من يُتاجر بها، خصوصاً في زمنٍ باتت فيه الرسائل الصوتية تحلّ محلّ التأمل في الكلمات، وتُختزل فيه القضايا الكبرى في تغريدات ومقاطع فيديو سريعة. ضمن هذا السياق، يأتي كتاب “فلسطين، الأرض الضيقة” للصحافية الإسبانية ليعيد التذكير بقيمة الصحافة الحقيقية، القائمة على الإنصات، والسرد الإنساني، والاقتراب من الحقيقة بعيداً عن الضجيج والمواقف المعلّبة.

disqus comments here