على غزة، الشتاء شريك الحرب ومرآة الحصار
على غزة، لا يأتي الشتاء كما يأتي على الآخرين.
لا يحمل دفئه المؤقت ولا وعوده العابرة، بل يصل محمّلًا بثقلٍ إضافي، كأنه يعرف مسبقًا هشاشة المكان وقسوة الظروف، ويختبر قدرة الناس على الاحتمال مرةً أخرى.
في أماكن كثيرة من العالم، يُعدّ الشتاء فصلًا عابرًا تُواجه برودته بالملابس الثقيلة والمنازل الدافئة.
أمّا في غزة، فالشتاء واقع مركّب، تتداخل فيه الطبيعة مع السياسة، والمطر مع الحصار، والبرد مع آثار حرب لم تنتهِ فصولها بعد.
هنا، لا يُقاس الشتاء بدرجات الحرارة، بل بمستوى المعاناة التي يضيفها إلى حياةٍ مثقلة أصلًا بالأزمات.
تتحول الأمطار في غزة من نعمة منتظرة إلى عبء يومي، حين تغرق الشوارع، وتتسرب المياه إلى البيوت المتهالكة، وتنهار الخيام التي تأوي آلاف النازحين.
الرياح لا تكتفي بطرق الأبواب، بل تدخل بلا استئذان إلى تفاصيل الحياة، لتكشف هشاشة المأوى، وتضاعف الإحساس بالعجز. في هذا السياق، يصبح الشتاء امتدادًا للألم، لا فصلًا منفصلًا عنه.
الأطفال هم الأكثر تأثرًا.
ليالي البرد الطويلة، ونقص التدفئة، وشحّ الملابس الثقيلة، تجعل من نزلات البرد البسيطة خطرًا حقيقيًا. ومع نظام صحي يعاني من نقص حاد في الإمكانيات، يتحول المرض إلى هاجس دائم للأهالي، الذين يجدون أنفسهم أمام معادلة قاسية: خوف على أبنائهم، وقلّة في الخيارات.
أما البيوت، إن بقيت قائمة، فهي بالكاد تؤدي وظيفتها الأساسية.
أسقف متضررة، نوافذ بلا زجاج، وجدران لم تُرمم بعد القصف، تجعل الشتاء اختبارًا يوميًا للصمود. وفي المخيمات، حيث الخيام لا تقي من مطر ولا من برد، يصبح الشتاء عاملًا إضافيًا في تعميق الأزمة الإنسانية، ويكشف حجم الاحتياج الحقيقي إلى حلول تتجاوز المساعدات المؤقتة.
على غزة، لا يأتي الشتاء بالآخرين، لأن غزة لا تعيش الظروف الطبيعية وحدها.
تعيش تحت حصار مستمر، وبنية تحتية منهكة، واقتصاد شبه مشلول. كل قطرة مطر تذكّر بغياب الأمان، وكل ليلة باردة تفضح عجز العالم عن توفير الحد الأدنى من مقومات الحياة الكريمة لسكانها.
ورغم ذلك، تستمر غزة.
يبتكر أهلها وسائلهم الخاصة لمقاومة البرد، يتقاسمون القليل، ويصنعون الدفء من التضامن، ويحاولون حماية أطفالهم بالأمل حين تعجز الجدران.
في غزة، الشتاء ليس مجرد فصل قاسٍ، بل شاهد جديد على قدرة الناس على البقاء، رغم كل ما يُفترض أنه لا يُحتمل.
هكذا يمر الشتاء في غزة:
ثقيلاً، قاسيًا، مختلفًا…
لكنه لا ينجح في كسر إرادة الحياة، ولا في إطفاء إصرار مدينةٍ تعلّمت أن تواجه الفصول كما تواجه الحصار: بالصبر، والصمود، والتمسّك بالأمل