"ناجون وناجيات من مجزرة تلّ الزعتر" الحكايات التي لا يعرفها الناس

كبرتُ وأنا أسمعُ بمخيم تلّ الزعتر، ومجزرة تلّ الزعتر، ولكن لم تكُن المعلومات التي تصلني واضحة أو مفهومة.
 
لذا لجأت إلى عدد من اللاجئين السابقين الذين وُلدوا وسكنوا مخيم تلّ الزعتر، فسردوا خروجهم مع عائلاتهم قبيل المجزرة والصعاب التي واجهتها هذه العائلات، والخوف الذي رافق طريقهم للوصول إلى مكانٍ آمن بعد أشهر من الحصار.
 
قصص لناجين وناجيات وثّقت رحلة الحصار والخروج من المخيم، قصة "جميلة" شحادة وإخوتها الناجين من المجزرة، قصة "كفينة" الخطيب، وياسر علي، خالدات حسين المرأة الحديدية، ونوال حسن، شهادات تستحق الوقوف عندها.
 
"كان مخيم تل الزعتر للاجئين الفلسطينيين يقع في جوار بلدة الدكوانة، على بعد 6 كيلومترات إلى الشرق من وسط بيروت. في سنة 1975 تسبب موقع تل الزعتر الجغرافي- إلى جانب عوامل داخلية لبنانية، متداخلة مع أُخرى إقليمية – في وضع المخيم في قلب أحداث الحرب الأهلية، فتعرض مطلع سنة 1976 لحصار تمويني، تبعه هجوم عسكري" نفذته "القوات الانعزالية" آنذاك، مجزرة راح ضحيتها ٤٢٨٠ شه/يداً من اللاجئين الفلسطينيين.
"نشأة المخيم
في سنة 1949 أسست رابطة جمعيات الصليب الأحمر مخيم تل الزعتر على قطعة أرض كانت تابعة لملكية خاصة واستخدمت كمعسكر للجيش البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية. ارتبط اسم المخيم بموقعه في منطقة خالية من السكان ينتشر فيها الزعتر البري. وفي حين أطلقت وكالة الأونروا على المخيم اسم "مخيم الدكوانة" تيمناً ببلدة الدكوانة المحاذية، حملت الوثائق الشخصية الصادرة عن أجهزة الدولة اللبنانية اسم تل الزعتر كمحل إقامة أو ولادة للاجئي المخيم.
ضم تل الزعتر عند إنشائه على مساحة 56.645 متراً مربعاً 1932 لاجئاً فلسطينياً هجّرتهم الميليشيات الصهيونية من قرى شمال فلسطين في عام النكبة. وكان المخيم عند تأسيسه يتكون من خيم موقتة نصبها الصليب الأحمر."
من الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية بقلم محمد داوود العلي حول مخيم تل الزعتر.
الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية | مخيم تل الزعتر
ليس سهلاً أبداً أن تستذكر المجزرة ولا الأحداث التي حصلت. حينما تقرأ أو تسمع قصص الناجين والناجيات يقشعر بدنك.
حينما أخبرتني نوال حسن عن ابنة خالها جواهر شحرور صاحبة الشعر الطويل التي كانت تغادر المخيم، ليقتلعها (أحدهم) من الشاحنة ويجرّها إلى الأرض ولإنّها كانت تُقاوم بكل قوتها، أطلقوا النار على كتفها ليشلوا حركتها، نجحوا بأخذها بعيداً، لتختفي ولا يظهر لها أثرٌ بعد ذلك، شعرتُ كأنّ أحدهم اقتلع قلبي من صدري وانفجرتُ غضباً على هذا الظلم والوحشية التي عاشتها تلك الفتاة بين براثن الذئاب.
فقدت نوال ١٢ فرداً من عائلتها في مجزرة تل الزعتر، ووالد جواهر المكلوم لم يفقد الأمل يوماً أنّ ابنته لم تزل على قيد الحياة، كان مسافراً خارج لبنان، ووضع مبلغاً مالياً ضخماً في سبيل معرفة مصير ابنته ولكن لم يحصل على شيء.
الحروب لا تولّد إلا المآسي، حيث تكون الضحية ضحية دون سبب واضح، ثمّ يدّعون بأنّ النساء والأطفال أضرار جانبيّة.
سُجّلت حالات اغتصاب كثيرة ومعظم الفتيات اختفين، وأُخذن من على الحواجز التي وُضعت خارج المخيم، كلّ النساء اللواتي غادرنَ المخيم كُنّ أرامل، فلم يُغادر المخيم رجلٌ واحد، كلّهم استشهدوا.
البئر الذي شرب منه أهل المخيم المحاصرين كان مخلوطاً بالدماء، حيث كان هناك قنّاص يقتل كلّ من يقترب ليشرب أو يملأ الماء. شهران من الحصار، انتشرت الأمراض ووجد الناس الأفضل المغادرة، مكرهين تحت وابل الرصاص والقدائف الحارقة.
أحد الملاجئ التي كان يختبئون به قُصف بمَن فيه ولم يبق منهم أحد.
في مقابلة أجريتها مع خالدات حسين الناجية من مجزرة مخيم تلّ الزعتر. بكيتُ وأنا أستمع لما مرّت به من مرارات الحصار، وفقدانها لوالدتها، وأخيها وعمّها. وكيف أصيبت وانتُشلت من تحت ركام الملجأ الذي آواهم..
ما أحزنني وشلّ قدرتي على التفكير، رؤيتها للممرض (إلياس) الوحيد الذي لم يغادر المخيم، والذي أسعفها عند الإصابة باستخدام الماء والملح ليطهّر الجرح في غياب كلّ مقومات الطبابة، رأته حينما خرجت من المخيم جثة مُلقاة بالقرب من المستشفى الميداني وهو يرتدي لباس التمريض الأبيض.
في طريق الخروج إلى الدكوانة، كان عمّها يحمل أخيها على ظهره، ولكن ظهرت مجموعة من المسلحين أجبروا عمّها الذي يحمل أخيها المصاب على ظهره بالنزول والركض ليطلقوا عليه النار من الخلف ويردونه قتيلاً، وقفت خالدات ابنة الستة عشر عاماً مصدومة، لم تصرخ، لم تولول، بل تخدّرت من وقع الصدمة، مشوا بجانب جثة أخيها وأكملوا المسير إلى "المدرسة الفندقية" ليتمّ نقلهم لاحقاً إلى بيروت "الغربية".
هذا الأمر برمّته يجعلني أثور غضباً، أنتفضُ على مَن يقتل بدمٍ بارد وكأنّه يمارس هواية الصيد البشري، وكأنّ دم الفلسطيني مُباح، وكأنّ الفلسطيني وُلِد ليتعذّب، وُلِد ليعاني، وبكلّ برود علينا أن نكمل حياتنا متناسين ما حلّ ب ٤٢٨٠ شه/يد اً غالبيتهم من النساء والأطفال.
وفي مقابلة أخرى مع الناجية كفينة محمد الخطيب (أم أحمد) من بلدة دير القاسي وهي من مواليد تل الزعتر (الدكوانة)، نجت من المجزرة وهي بعمر الثلاثة عشر عاماً، وكان عدد أفراد عائلتها ٩ أخوة وأمها وأبيها.
خرجت إخوات كفينة الأكبر سناً في بدايات الحصار بينما بقي ستة منهم مع أمهم وأبيهم.
سقط المخيم عام ١٩٧٦، تمّ تسليم المخيم ليلاً. نفذت الذخيرة من المقاتلين، وجاءت الأوامر بالاستسلام.
حسب شهادة كفينة، ابنة الثلاثة عشر عاماً، استشهد خمسة أشخاص من عائلة الخطيب ومعروف، وتستذكر كفينة كيفية خروجهم وتحميلهم بالشاحنات، وكيف تمّ نقلهم إلى الحمرا حيث كان لهم أقارب هناك، لينتقلوا بعدها إلى منطقة صبرا.
نجوا لأنّ جدة كفينة لبنانية، ولهجتهم لبنانية، وهذا كالعادة لعب دوراً في نجاتهم حيث كان الصليب الأحمر يُجلي اللبنانيين إلى مناطق آمنة.
كانت تنتشر مخازن حبوب (غرّة) ومعامل لتعليب اللحمة، معامل الزعتر والشوكولا، هذه المعامل التي استطاع المحاصرون الاعتماد عليها أثناء الحصار.
هناك فتاة اسمها "هناء" اختفت ولم تعُد، كما تذكر "كفينة"، وتشعر كفينة بأنّ إخوتها البنات محظوظات لأنّهن خرجن من المخيم بداية الحصار.
نحن شعب عشنا ونعيش فظائع الحروب، وكأننا نحارب عن كلّ الشعوب، ونُقتل فداءً لكلّ الناس على الكرة الأرضية.
هم يقتلعون شجرة زيتون فنزرع ألف شجرة، هم يقتلون أطفالنا فيُولد عشرة.
قصة “جميلة” شحادة زرعت في قلبي حزناً لا ينتهي، حيث أنّهم كانوا لاجئين في مخيم تلّ الزعتر، وظروف خروجهم مع والدتهم بعد حصار دام شهرين شيء لا يقبله العقل البشري.
نجاتهم تعود إلى جنسية والدتهم اللبنانية التي حماها الصليب الأحمر الدولي، ونقلهم إلى خارج المخيم، رغم المضايقات التي تعرضوا لها أثناء الخروج، حيث ضرب أحد المسلحين "جميلة" بال"كلشن" على كتفها، فقالت له والدتها:"هذه طفلة، حرام عليك!" فما كان منه إلا أن أهانها بأفظع الألقاب وانهال عليها ضرباً.
تعرّضت والدتها للإصابة برصاصة في عينها، وبعد مضاعفات توفيت بسبب الإصابة. وقد استطاعت والدتها حماية أطفالها الستة عند هروبهم من المخيم، وتمّ نقلهم بشاحنة إلى الدكوانة حيث الجثث كانت متراكمة في الطرقات.
وصلوا إلى مكانٍ شبه آمن في بيروت، حيث حضر خالها وأخذهم إلى النبطية.
وكان الصليب الأحمر قد أخلى أخوين لجميلة بسبب الإصابة، ولم تعرف ماذا أصاب والدها في المخيم. فهو لم يعُد رغم الانتظار ولم يظهر بسبب كثرة الجثث التي تراكمت في المخيم وعلى أطراف المخيم.
رُبّيت "جميلة" وأخوتها في كنف أخوالهم، حيث كان لهم الفضل في حمايتهم.
ياسر علي وهو كاتب وشاعر فلسطيني من الناجين من مجزرة تل الزعتر، وقد قام بتوثيق خروجهم من المخيم عبر "مجموعة تغريدات على منصة
https://x.com/yasserali/status/1822951757795799106?s=46...
 
 
ليس بإمكاني تخيّل أو تصوّر نفسي مكانهم ولا كمية الخوف التي عاشتها هذه العائلة.
 
ورقة اللاجئين ستبقى ورقة الجوكر التي يستخدمونها في حروبهم، في جرائمهم، في مفاوضاتهم. نحن لسنا سوى بيادق موت، على قطعة شطرنج المفاوضات، الحروب، والنزاعات.
كلّ القصص تتشابه في مشاعر الخوف التي عاشها الأطفال وعاشتها النساء، مشاعر الشعور بالمصير المجهول، مشاعر التمسّك بالحياة رغم رائحة الموت التي كانت تفوح من الجثث التي ناموا إلى جانبها لليال، مشاعر فقدان الأمل بالإنسانية، مشاعر الغضب المكتوم خوفاً من القتل، مشاعر اللاقيمة في اتفاقيات وأروقة الأمم المتحدة.
تقول إحدى الناجيات من وثائقي حول المجزرة :“ما بكينا لأننا كنا أقوى من الموت.
تل الزعتر ما مات…هو صار في قلب كل فلسطيني.”
وتستذكر أخرى:
“كنا نمشي على الركام.
الحيطان كانت تنادي أسماء الشهداء.
كل حجر كان يعرف قصة."
طوال عمري لم أفهم أبداً خوف أبي من الذهاب إلى بيروت، "فوبيا" بقيت ترافقه لآواخر أيامه. خوف أن يُذبح على الهوية، خوف من غدرٍ قريب، خوف من عدو بعيد، خوف أن يقول كلمة "بندورة" بلهجة فلسطينية.
أُزيلَ المخيم ولم يعُد أهله، بقيت أحجار منه شاهدة على موت المئات، لم يتمّ إعادة إعمار المخيم ورفضت الدولة اللبنانية عودة اللاجئين إليه، ولكن بقيت رابطة أهالي تلّ الزعتر شاهداً حيّاً على مخيم اندثر.
ختاماً بعض الأبيات التي كتبها الشاعر ياسر علي:
باقونَ ما بَقِيَتْ صخورُ بلادِنا
وبَنَتْ حجارةَ أرضِنا أحبابٌ
باقونَ ما حَضَنَ الثَّرى زيتونَنا
باقونَ حتماً والصمودُ جَوابٌ
للحَقِّ نَمضي فالبِلادُ بِروحِنا
وَحيٌ وحُبٌ في الجَوى وتُرابُ
disqus comments here