مهباج جدّي أبو حسن
Mon 07 July 2025

كبرتُ وأنا أسمع أبي يتحدّث عن دقّ القهوة بالمهباج، والمهباج هو جرن خشبي ومعه عصا قصيرة ذات رأس مدبب لدقّ وطحن القهوة.
جدّي المختار كان يدقّ المهباج، فتتحوّل السهرة لشيء خرافي.
إيقاع يرافق الدّق وصوت أحدهم يقول العتابا، والكلّ محلّق حوله، في انتظار القهوة.
بيت جدّي المختار الذي لم يكُن يخلو من النار التي تحتضن دِلال القهوة ليل نهار.
كانت دار جدّي في فلسطين تستقبل العابرين المسافرين من وإلى لبنان، بل وكانوا يبيتون في غرف الضيافة.
جدّي الفارس الذي كان يمتطي فرسه ويذهب لزيارة القرى المجاورة. كان أيضاً جدّي خليل (أبو فتحي أبو والدتي) فارساً أيضاً وفرسه اسمها صَبْحة وذلك لوجود بقعة بيضاء في جبهتها.
جدّاي كانا الفارسين الوحيدين في القرية.
أحد السهارى كان يعتّب (يقول عتابا) قائلاً:
يا راكب الخيل ميّل صوبنا
قهوتنا بالهيل غرقانة
نحن للكرم عنوان
وبيوتنا بالخير عمرانة
صوب البحر مشينا
وصوب النهر عدّينا
والخيرات بالخوابي مليانة
مواويل وعتابا تكسر صمت الليالي وسكونها في ضيعتنا التي تقع على سفح جبل من جبال الجليل الشريفة، مناجاة لحبيبٍ غاب، وابتهالات لربّ العباد. ها هو أخ جدّي بركات الحافظ للقرآن رغم أنّه لا يجيد القراءة والكتابة، وذاك أخ جدّي محمد، وأخ جدّي دياب، وها هي جدّتي الصالحة التي تعمل منذ الفجر وحتى آخر الليل في خدمة العائلة التي تتألف من عشرة أبناء وبنت وحيدة بينهم، في خدمة الضيوف الذين يمرّون عابرين على الضيعة، كلّهم يتحلّقون حول جدّي المختار، ليستمتعوا بالدقّ على المهباج، بالصوت الجميل، بالعتابا والمواويل.
جدّي علي, ولد عام ١٨٧٦، وعاش فوق المئة وثمانية أعوام، بقي بوعيه وبقدرته الذهنية حتى وفاته. حتى إنّه تزوّج في الثمانين من عمره وأنجب عمّتين وعمي الشهيد يحي رحمه الله.
منذ طفولتي وأنا أهدسُ بجدّي، وتعيش في مخيّلتي صورته وركوبه الخيل، وأتصوّر جلوسه ومشيه وكلامه وصوته.
كنتُ في التاسعة من عمري عندما توفيّ جدّي، ولكنني لا أتذكّره سوى لمحاتٍ في بيتنا، ذاكرتي لا تسعفني في تذكّر ملامح جدّي لأنني كنتُ أخاف منه، وأخاف الاقتراب من سريره.
المهباج جزء من تراثنا الفلسطيني، جزء من تاريخنا غير الموثق والمكتوب، أو حتى المصوّر. وعليه فإننا نُعتبر مؤرخين ومؤرخات صغار في عصرنا الحديث، لن نترك شيئاً للنسيان، بل سنوثق كلّ ما نستطيع توثيقه ليكون مرجعاً متواضعاً للأجيال القادمة.
يُبهرني دائماً كيف يحوّل الفلسطيني أبسط الأمور إلى تحفة فنيّة. هذا المهباج الخشبي تحوّل إلى قطعة موسيقية تراثية تستحضر أجمل المواويل والعتابا، رغم فقداننا لكثير من المواويل والكلمات لعدم وجود توثيق سمعي أو بصري أو حتى كتابي، هذه الأهازيج لم تكُن سوى تفاعلات شفهية وقتية ولم تكُن ذات قيمة فعلية وقتها.
لا زلنا حتى اليوم نردّد بعض الزغاريد في الأعراس، تردّدها جدّاتنا الكبار، ونساؤنا المعمّرات وتقوم بتحفيظها للجيل الذي يأتي بعدهن.
على أحد منصّات التواصل الاجتماعي، ينشر العديد زغاريد فلسطينية تبدأ ب" أويها" كالمعتاد وتنتهي بزلغوطة طويلة، هكذا نفرح وهكذا نزفّ عرائسنا:
آويها وبين الجوامع موقوفنا
آويها والجوخ الأخضر ملبوسنا
آويها لعيونك يا بو فلان
آويها كل العادات من تحت كربوسنا
جيــــت أغنـــي وقبلـــي مــا حـــدا غنـــا
بقــــاع وادي فيــــه الطّيــــــر بيستنــــــا
وريتـــك يـــا (اسم العريس) بهــالعـــروس تتهنـــا
وتظــــل ســــالـــم ويظـــل الفـــــرح عنّــا
إيقاع ومهباج وزغاريد وأهازيج، كلّها تختلط بعبق التراث، تراثنا الجميل الفوّاح برائحة القهوة المرّة النفاذة، وكمشات الهال، ونار ضيافة لا تخبو ولا تنام.
دقّ القهوة، دقّ الهيل، خلّ الدقّ يرقّص خيل
دقّ القهوة، دقّ الهيل، خلّ الدقّ يرقّص خيل
لو بإمكاني اختيار رمز يمثّل قريتي القبّاعة لاخترت دِلال القهوة والمهباج لارتباطنا الوثيق بهم، لأنهم جزء لا يتجزأ من ذاكرتنا، جزء يأخذ حيّزاً كبيراً من ثقافتنا. عبق الهال، رائحة القهوة وإيقاع الدّق، كلّها تختزل نسيجاً من التاريخ لقرى تنتظر أهلها أن يعودوا ليعمّروها.
