كتب سامح راشد : وجه مرعب للتكنولوجيا

شاهدتُ قبل أيام فيلماً سينمائياً مصرياً قديماً (أُنتِج قبل سبعة عقود)، تدور أحداثه حول مُخترِع ابتكر مادّةً تحوّل الإنسان إلى كائن خفي غير مرئي. وبعد أعوام قليلة، أنتجت السينما المصرية فيلماً آخر عن قبَّعة مسحورة تُخفي من يرتديها. وعلى ما في الدراما من خيال جامح، سعى العلماء بالفعل في هذا الاتجاه، وجرت محاولات جادّة لذلك، أحرز بعضها تقدّماً، خاصةً في ألمانيا الشرقية وقتئذٍ (منتصف القرن العشرين). لكن فكرة تمكين البشر من الاختفاء عن الأعين، ظهرت مجدّداً مع التقدّم الرهيب في بحوث النانو والبيوفيزياء. فقبل عام، توصّل علماء بريطانيون إلى اختراع مواد يمكن تشكيلها في صورة ستار أو حاجز يحول دون رؤية من يقف خلفه، بتقنية “ثني الضوء”، وهو ما يختلف جذرياً عن فكرة إخفاء الجسم البشري نفسه وجعله شفافاً، لكن النتيجة واحدة: أن يكون غير مرئي.

وطوال العقود الماضية، لم يُثَر الجانب الأخلاقي والتداعيات المحتملة لاختراعات كهذه أو تلك. فاختفاء البشر معناه تسهيل ارتكاب الجرائم وممارسة الانحرافات من دون دليل أو إدانة. بينما لا ضرورة لاختفاء أحد، اللهم إلّا لتجنّب رؤية بعض ثقيلي الظلِّ والدم المفروضين علينا في العمل والمجتمع، وربّما في المنزل. لكن ما سيُسعد المرءَ أن يختفي هؤلاء من الحياة عموماً، وليس من مرأى العين فقط.

القضية أبعد من تلك الجوانب الفردية والشخصية، فتداعيات التقدّم العلمي والابتكارات الحديثة أمر يثير القلق على مستقبل البشرية، من منظور القيم العليا والمبادئ الحاكمة لسلوك الإنسان، بوصفه كائناً يعيش في بيئة اجتماعية ويتفاعل معها. فمعظم الاختراعات الحديثة، إن لم تكن جميعها، لم تخلُ من سلبيات ونواقص. مفهوم ومقبول أن يكون لكل جديد أو متقدّم تكلفة لا بدَّ من تحمّلها في مقابل ميّزاته وفوائده. لكنّ بعض ذلك الجديد ليس ضرورياً أصلاً. مثال ذلك “الروبوت” الذي بدأ اختراعاً عبقرياً يعمل في بيئات صعبة، ويؤدّي مهامَّ يعجز عنها البشر، ووصل إلى أن يحلَّ في مكان العمالة البشرية في وظائف عادية وبسيطة، توفيراً للمال والوقت، ولمضاعفة مكاسب الشركات وأصحاب الأعمال، لتُغلَق أمام البشر ملايين الوظائف في أعمال التخزين والشحن والنظافة والسكرتارية وغيرها، ويُحال من كانوا يتعيّشون منها عاطلين.

ذلك كلّه قبل الذكاء الاصطناعي، أما معه فالأمر مرعب وخطير، فقد اقتحمت تلك التكنولوجيا الحواجز الفاصلة بين الواقع والخيال، وبدأت تجتاح أعمالاً ووظائفَ تتطلَّب موهبةً ومهاراتٍ خاصةً، مثل البرمجة والتصوير والتصميم الهندسي والديكور والترجمة.

وفضلاً عمّا سيستتبعه ذلك الاختراق من توسيع نطاق البطالة وامتدادها إلى مجالات تتطلَّب ميّزاتٍ خاصةً، فإن الأخطر أن تقنية الذكاء الاصطناعي تفتح باباً على عالم آخر غير واقعي ولا حقيقي. فبفضل تلك التقنية، سنصبح قريباً أمام عالم زائف يحتوي على أعمال أدبية مصطنعة غير إنسانية، وأفلام وتسجيلات مرئية (هولوغرام) لأشخاص ماتوا من عقود. ليصبح تمييز الحقيقي من الافتراضي، أمراً مستحيلاً.

حتى الاختراعات المفيدة للإنسانية لها وجهها الآخر الذي لا يمكن التهوين من مخاطره، فأخيراً، اختُرِع روبوت حجمه نحو مليمتر واحد، بسمك شعرة واحدة، ويستطيع حمل جرعات نانوية (متناهية الصغر) من الأدوية أو المواد العلاجية، وتوصيلها مباشرة إلى الخلية المصابة حصراً أو العضو المريض في الجسم دون غيره. إن هذا الاختراع المذهل الذي يضمن فعالية العلاج وتقليص أضراره الجانبية، قابل للاستخدام السيّئ، سواء بحقن الجسم بفيروسات وميكروبات تُمرضه، أو حتى بقتله من دون أثر أو إمكانية للتتبع والاستدلال.

البشرية بصدد قفزة إلى المجهول، على وقع اختراعات تجتاز حواجز القيم والأخلاق، بإمكانها تحويل العالم غابةً بالمعنى الحرفي، وليس المجازي.

disqus comments here