جوزيف بوريل : السياسة الأوروبية تُدار بالمصالح
يجلس جوزيب بوريل (1947)، رئيس مركز سيدوبا (CIDOB)، والممثل الأعلى السابق للسياسة الخارجية والأمنية في الاتحاد الأوروبي، ووزير الخارجية والاتحاد الأوروبي والتعاون الإسباني سابقاً، ونائب رئيس المفوضية الأوروبية سابقاً، في الصف الأول من يمين القاعة في مقرّ المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في باريس (CAREP)، حيث عُقدت يومَي 13 و14 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي جلسات مؤتمر “فلسطين وأوروبا: ثقل الماضي والديناميات المعاصرة”، بعد قرار “كوليج دو فرانس” في باريس إلغاء استضافة المؤتمر فيها. كان اسم بوريل مدرجاً على قائمة المشاركين، ورغم التعقيدات التي أثارتها “كوليج دو فرانس” ووزير التعليم العالي الفرنسي فيليب باتيست لمحاولة منع المؤتمر، أصرّ على الحضور والمشاركة.
عُرف بوريل بمواقف أثارت جدلاً واسعاً في الأوساط الأوروبية. فهو بالنسبة لبعضهم، لم يفعل ما يجب فعله تجاه القضية الفلسطينية، إذ كان يُنتظر منه موقف أكثر مساندة، لا سيما أنه قادم من الحزب الاشتراكي العمّالي في إسبانيا. انتقد حركة حماس بشدة خلال الأسابيع الأولى من حرب الإبادة، بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وناصر إسرائيل، لكن موقفه تغير لاحقاً، وأصبح شديد الانتقاد لدولة الاحتلال، وقال إنها ترتكب إبادة في غزة. ولهذا وصفه بعضهم بأنه “الرجل الذي يصل متأخراً”، خصوصاً في نقده الاتحاد الأوروبي. وهناك آخرون يرونه ناقداً لاذعاً لسياسات الاتحاد الأوروبي في فلسطين. وقد انتقد مراراً، وبشدة، موقف المفوضية الأوروبية ورئيستها أورسولا فون ديرلاين، من حرب الإبادة، واتهم فون ديرلاين بالانحياز التام لإسرائيل، وقال إنها تحرّكت متأخرة، وكان نتيجة ذلك موت عشرات آلاف الفلسطينيين.
جوزيب بوريل: أمور لا تحصل في إسبانيا
يرى بوريل أن أوروبا لم تُظهر إرادة سياسية حقيقية في التعامل مع حرب غزة، وأن الموقف الأوروبي اتسم باللامبالاة والعجز الأخلاقي أمام ما يحدث. ورداً على سؤال سريع لـ”العربي الجديد”، من باريس، كما طلب، حول ما إذا كانت هذه اللامبالاة وهذا العجز الأخلاقي هما سبب إقدام مؤسسة عريقة مثل كوليج دو فرانس على إلغاء المؤتمر بهذه الطريقة، أم إن هناك أسباباً سياسية أو غيرها، يقول مفوض السياسة الخارجية السابق في الاتحاد إن القرار فاجأه كثيراً، لا سيما أنه صادر عن مؤسّسة أكاديمية عريقة. وبرأيه، فإن لا شك في أن الأمر مرتبط بالترددات التي تحصل في مواقع التواصل والمنابر الإعلامية، إذ يقول أحدهم شيئاً، فيكرر الآخرون من دون التحقق. ويضيف: “هكذا تبدأ العواصف الإعلامية، وهذا ما حدث. نُشرت مقالات غير صحيحة عن المؤتمر (أبرزها في صحيفة لو بوان الفرنسية)، وتبنّاها بعضهم من دون التأكد، وعلى أساسها اتُّخذت قرارات، وهكذا بدأت القصة. وهذا لا يحدث في إسبانيا مثلاً. لو أصدر وزير الجامعات قراراً مماثلاً، فإن الجامعات لا تلتزم بما يقوله ولن تكترث له”.
وبشأن المدى الذي يتركه تأثير مثل هذه القرارات على حرية التعبير في فرنسا وعلى أوروبا عموماً، يعرب بوريل عن اعتقاده، في حديثه لـ”العربي الجديد”، بأن الأمر “مرتبط أكثر بالحرية الأكاديمية”، موضحاً أنه “في الحقيقة، فإن المؤتمر أكاديمي بامتياز، والمشاركون فيه يتمتعون برصانة واضحة، مع أن هناك من يعتبر أن الجلسة الأخيرة، التي أشارك فيها مع رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق دومينيك دو فيلبان، داعمة لفلسطين، وأن لدينا نحن الاثنين مواقف واضحة داعمة لها”.
كان بوريل واقفاً خارج المبنى، ويبدو أنه لم ينتبه إلى الكتابات. وقد أجاب حين سألته عنها: “أي كتابات؟”. أشرت إلى الأرض، ليقول: “يا لها من مفاجأة. يا للهول!”، ويقول لي كذلك بعدما أخرج هاتفه والتقط صوراً للخربشات: “لحسن الحظ أنهم لم يذكروني”. ومتمسكاً بموقفه بعدما أبديت تعجباً، يضيف: “نعم، لأنهم لم يتركوا شيئاً إلا وقالوه عني!”.
رهينة التاريخ
أما عن كلّ ما يحدث في أوروبا، فيختزل جوزيب بوريل الموقف بأن القارة “رهينة تاريخها”. ويضيف: “أنت تعرف أن هناك عقدة تاريخية لم تتخلص منها أوروبا بعد: الهولوكوست وطرد اليهود وما إلى ذلك. هناك لوبيات تمارس ضغطاً كبيراً في أوروبا، وخصوصاً في فرنسا. هذه اللوبيات هي التي ضغطت على وزير التعليم الفرنسي ونجحت. إنه ثقل التاريخ على الراهن وعلى السياسة”. أما عن إمكانية أن تتحرر أوروبا من عقدتها التاريخية، فيجيب بأن “الأمر معقد، فأوروبا ترى في إسرائيل تمثيلاً لها في تلك المنطقة التي تعتبرها تارةً سلفية وتارةً جهادية، وهذا مزيج لا تفهمه أوروبا نفسها. هناك جهل، لذلك تعتبر أن أي مسّ بإسرائيل مسّ بنظامها الديمقراطي في الغرب، فإسرائيل بالنسبة إليها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”.
هذه النظرة الاستعمارية والتي تعكس ازدواجية معايير واضحة، يراها بوريل كذلك، وهي بنظره “ستبقى كذلك طالما هناك مصالح استراتيجية وسياسية واقتصادية (أوروبية) مع إسرائيل”. ويضيف: “كما قلت لك، أوروبا العميقة، التي تتحكم فيها لوبيات، تدير علاقاتها المصلحية مع إسرائيل. البعد الأخلاقي غير مهم، المهم هو البعد الاستراتيجي والسياسي والاقتصادي، وإسرائيل تجسّد ذلك بالنسبة إلى أوروبا”. يأخذ جوزيب بوريل هاتفه مجدداً، يفتح تطبيق الكاميرا ويلتقط صوراً جديدة للخربشات المسيئة ويرسلها إلى رقم على قائمة اتصالاته. ينظر إليّ ويقول: “هذا غير معقول. لا أصدّق أن هذا يحدث! هذا فظيع. يا للهول! يا للفظاعة!”.