حرب الضمّ الصامتة: إسرائيل تُعيد تشكيل الشرق الأوسط من بوابة الضفة الغربية
بين أزيز الطائرات في سماء قطاع غزة وتصاعد الدخان من جبهات الشمال، تتحرك “إسرائيل” على جبهة ثالثة لا تقل خطورة: الضفة الغربية.
ففي الوقت الذي ينشغل فيه العالم بلهيب الحرب، تدفع سلطات الاحتلال بخطة ضمّ متسارعة تبدو وكأنها الحرب الأكثر حسماً في مستقبل الصراع.
إذ تستثمر الحكومة الإسرائيلية “زمن الانشغال الدولي” لترسيخ سيطرتها على الضفة بهدوءٍ استراتيجي، انطلاقًا من رؤية تعتبر أن اللحظة الراهنة هي “نافذة تاريخية” لتغيير قواعد الصراع.
هذا التغيير لا يهدف إلى الاحتلال فحسب، بل إلى إعادة رسم الجغرافيا السياسية ومنع قيام الدولة الفلسطينية نهائيًا.
البعد الأمني: من الاحتلال إلى هندسة الجغرافيا
منذ لحظة احتلال الضفة الغربية عام 1967، لم يكن الأمن الإسرائيلي مجرد ذريعة عسكرية لاحتلال مؤقت، بل تحوّل إلى المنظور البنيوي الذي تُعاد من خلاله صياغة الجغرافيا والسيادة.
ويؤكد خبير شؤون الاستيطان خليل التفكجي أن “إسرائيل” تسيطر فعليًا اليوم على أكثر من 60% من مساحة الضفة الغربية.
ويشير “التفكجي” في حديثٍ له، إلى أن هذه السيطرة تُدار بآليات أمنية تضمن استمرار الابقاء والاحتلال، وتمنع قيام كيان فلسطيني متصل جغرافيًا أو سياديًا.
بعد حرب 1967، وجدت “إسرائيل” نفسها أمام معضلة جيوستراتيجية حادة: فحدودها قبل الحرب كانت ضيقة، إذ لم يتجاوز عرضها في بعض المناطق 14 كيلومترًا بين البحر المتوسط والضفة الغربية.
ومن هذا المنطلق، تبنّت القيادة العسكرية نظرية “العمق الاستراتيجي”، معتبرةً أن الاحتفاظ بالضفة الغربية يشكل درعًا طبيعيًا ضد أي تهديد قادم من الشرق.
تجسدت هذه الرؤية في خطة “آلون” (1967)، التي دعت إلى إبقاء السيطرة الإسرائيلية على غور الأردن كمنطقة أمنية عازلة، والسماح للفلسطينيين بإدارة جيوب سكانية صغيرة غرب الغور.
ورغم تغيّر الحكومات ظلّت هذه الخطة تمثل الركيزة الثابتة في العقيدة الأمنية الإسرائيلية: لا انسحاب من المناطق ذات القيمة الأمنية والجغرافية العالية مهما كان الثمن.
ويضيف “التفكجي”، أنه في عام 1983، جاء الأمر العسكري رقم 50 ليؤسس شبكة طرق استراتيجية تربط المستوطنات بالمدن الإسرائيلية وتعزل التجمعات الفلسطينية.
بينما جاءت خطة “مشروع شارون” أو ما يعرف بـ”قضية النجوم” في التسيعينات لتوسيع المستوطنات المحيطة بالقدس وإزالة الحدود بين “الخط الأخضر” والمناطق المحتلة.
لم تعد المستوطنات الإسرائيلية مجرد تجسيد لأيديولوجيا “أرض الميعاد”، بل أصبحت خطوط دفاع متقدمة في بنية الأمن القومي الإسرائيلي.
فوفقًا لـ “التفكجي”، عمدت الحكومات المتعاقبة إلى إنشاء مستوطنات ضخمة على المرتفعات الشرقية والغربية للضفة مثل “آريئيل” و”معاليه أدوميم”، لتعمل كـ”حواجز طبيعية” تفصل المدن الفلسطينية عن بعضها البعض.
هذه الاستراتيجية لم تؤد فقط إلى تقطيع أوصال الضفة وتحويلها إلى جزر سكانية محاصرة، بل أسست لمنظومة أمنية ميدانية متكاملة تُغني عن الوجود العسكري المباشر.
وبحسب “التفكجي”: أُقيم نحو 80% من المستوطنات في مواقع طوبوغرافية مرتفعة تمنح “إسرائيل” قدرة مراقبة شاملة لتحركات الفلسطينيين من الشمال إلى الجنوب.
الأمن الديموغرافي والجدار
مع مطلع الألفية الجديدة، تغيّر تعريف “التهديد” داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية؛ فلم يعد الخطر الرئيسي متمثلًا في الجيوش العربية، بل في التحوّل الديموغرافي الفلسطيني الذي قد يُفقد “إسرائيل” تفوقها العددي داخل الأرض الواحدة.
ومن هنا وُلد مفهوم “الأمن الديموغرافي”، الذي يقوم على السيطرة على الأرض دون ضم السكان، أي احتلال الأرض وتحييد الإنسان.
في هذا الإطار، شكّل جدار الفصل العنصري عام 2002 ذروة هذا التحول: جدار يفصل الكتل الاستيطانية الكبرى عن التجمعات الفلسطينية، ويُبقي نحو 85% من المستوطنين داخل ما تسميه إسرائيل “المنطقة الآمنة”.
وكما يؤكد التفكجي فإن الجدار تجاوز غايته الأمنية المعلنة ليصبح أداة سياسية لترسيخ الضمّ الجغرافي الفعلي وفرض واقع حدودي جديد.
مع تصاعد التهديدات من غزة ولبنان، أعادت “إسرائيل” تعريف الضفة الغربية باعتبارها جبهة الأمن الداخلي؛ أي المنطقة التي لا يمكن فقدان السيطرة عليها؛ لأنها تمثل “قلب الدولة” من حيث الجغرافيا والسكان.
من منظور الجيش الإسرائيلي، فإن الانسحاب من الضفة يعني ترك وسط “إسرائيل” مكشوفًا، بل جعل “تل أبيب” نفسها على مرمى نيران قصيرة المدى في المستقبل.
ولذلك، تُصرّ المؤسسة العسكرية على الاحتفاظ بسيطرة كاملة على غور الأردن بوصفه الحزام الأمني الشرقي، وعلى المرتفعات الوسطى كنقاط مراقبة مركزية.
إضافة إلى المعابر والحدود التي تُعد أدوات أساسية للتحكم في الحركة والاقتصاد الفلسطيني.
عسكرة الاستيطان..
في السنوات الأخيرة، ومع تصاعد نفوذ اليمين المتطرف، دخلت خطة الضم مرحلة جديدة تُعرف بـ “عسكرة الاستيطان”، وفقًا لـ “التفكجي”.
وقد سمحت حكومة بنيامين نتنياهو بتسليح المستوطنين وتشكيل ميليشيات محلية تحت إشراف وزارة الأمن القومي التي يقودها المتطرف إيتمار بن غفير.
وهكذا تحولت المستوطنات إلى وحدات دفاعية ميدانية، والمستوطن إلى “جندي مدني” في خدمة المشروع القومي.
هذه السياسة رسّخت مبدأ أن الأمن لا يُدار من الجيش فقط، بل من المجتمع الاستيطاني ذاته، وهو ما يعكس تحولًا جذريًا في العلاقة بين الأمن والهوية داخل “إسرائيل”.
يقول “التفكجي” إن الضمّ قائم فعليًا منذ سنوات، لكن “إسرائيل” تسعى اليوم إلى منحه غطاءً قانونيًا وسياسيًا.
يضيف أن جوهر البعد الأمني في مشروع الضمّ هو الاستمرارية: العالم يرى الاحتلال حالة مؤقتة، بينما تراه إسرائيل حالة أمنية دائمة.
وهكذا فإن كل مستوطنة جديدة، وكل طريق التفافي، وكل نقطة تفتيش، ليست تفصيلًا ميدانيًا، بل جزء من هندسة كبرى تُعيد تعريف معنى الأمن والسيادة في آنٍ واحد، حسبما يقول “التفكجي”.
الأرقام تتحدث..
وفي عام 2025 وحده، ارتفع عدد وحدات البناء المخصصة للتوسع الاستيطاني إلى 2,749 وحدة خلال ستة أسابيع فقط، في مؤشر واضح على أن مشروع “الأمن عبر التوسع” لا يعرف التوقف.
كذلك، كشفت تقارير فلسطينية أن نحو 44.5٪ من مساحة الضفة الغربية باتت تحت السيطرة الإسرائيلية المباشرة أو غير المباشرة.
وتشير بيانات بحثية إلى أن نحو 50 ألف وحدة استيطان ستُعتمد في 2025، وهو رقم يُعدّ أربعة أضعاف العام السابق.
كما تقدّم خطّة وزير المالية الإسرائيلي بتسيئيل سموتريتش (المسؤول عن ملف المستوطنات) اقتراحاً لضمّ نحو 82% من الضفة الغربية، بما يقضي على فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة تقريبًا.
وهكذا، حين تتحدث “إسرائيل” عن الضم، فهي لا تعني مجرد توسيع الحدود، بل تثبيت معادلة وجودية تُلخّص فلسفتها الأمنية منذ 1967: “لا أمن بلا أرض، ولا أرض بلا سيطرة”.
البعد السياسي: من التوسع إلى شرعنة الواقع
منذ عقود، يشكل المشروع الاستيطاني أحد أعمدة السياسة الإسرائيلية، ليس فقط باعتباره نشاطًا عمرانيًا، بل أداة سياسية تهدف إلى فرض وقائع ميدانية تُفرغ مفهوم “حل الدولتين” من مضمونه.
وفي هذا الإطار يرى التفكجي، أن “إسرائيل” تنتهج منذ عقود ما يمكن تسميته بـ”الضم الزاحف” — أي الضم التدريجي الهادئ الذي يُنفذ خطوة بخطوة لتفادي ردود الفعل الدولية.
هذه الاستراتيجية لا تعتمد على إعلانٍ سياسي مباشر، بل على تراكمٍ جغرافي بطيء، يتمثل في توسّع المستوطنات، وتغيير طبيعة المناطق المصنفة “ج”، ودمجها إداريًا ضمن البنية الإسرائيلية.
فعلى سبيل المثال، شكّلت مستوطنة “معاليه أدوميم” التي تمتد حتى تخوم غور الأردن ما يقارب 10% من مساحة الضفة الغربية، ضمن ما يُعرف بـ”مشروع القدس الكبرى” الذي يهدف إلى فصل القدس عن محيطها الفلسطيني ودمجها جغرافيًا في العمق الإسرائيلي.
أما مستوطنة “آريئيل”، وهي الأكبر في شمال الضفة، فقد تحوّلت إلى حاجز استراتيجي يفصل شمال الضفة (جنين ونابلس) عن وسطها (رام الله)، ما جعل التواصل الجغرافي الفلسطيني شبه مستحيل.
الموقف الأمريكي: توافق ضمني
في تموز/ يوليو 2025، صوّت الكنيست الإسرائيلي على قرار رمزي (71 مقابل 13) يطالب بضمّ الأراضي المعروفة إسرائيليًا بـ “يهودا والسامرة” (الضفة الغربية).
وفي شهر أكتوبر/ تشرين أول 2025، أقرّ الكنيست الإسرائيلي، قراءة أولى لمشروع قانون يوسّع سيادة الدولة نحو أكثر من 60٪ من الأرض التي تحكمها سياسة الاحتلال منذ عام 1967.
يعتقد الخبير في الشأن الإسرائيلي محمد هلسة، أن المصادقة على قانون ضم الضفة الغربية بالتزامن مع زيارة نائب الرئيس الأمريكي دي فانس لـ “تل أبيب” لم تكن مصادفة، بل رسالة بأن الضم مشروع “إجماع وطني” مدعوم أمريكيًا.
ويقول “هلسة” في حوار إعلامي : هذه المصادقة خطوة محسوبة تعكس تقاطع المصالح بين الائتلاف الحاكم والمعارضة داخل “إسرائيل”.
وينوه إلى أن هذه التطورات أعادت إلى الواجهة سؤال العلاقة بين واشنطن وتل أبيب: من يقود من؟.
حسب “هلسة” فإن اليمين الإسرائيلي استخدم لحظة الضم لإظهار أن أي اعتراض أمريكي قد يُفسّر كصدام بين “أكبر ديمقراطيتين في العالم”؛ للتأثير على الرأي العام الأمريكي.
ويرى أن الإدارة الأمريكية الحالية لا ترفض الضم من حيث الجوهر، بل من حيث التوقيت، إذ تعتبر أن تأجيل الإعلان يخدم أولوياتها في التهدئة الإقليمية وتهيئة المناخ لـ “لتطبيع الإقليمي الموسع”.
بمعنى آخر، فإن الخلاف بين واشنطن و”تل أبيب” تكتيكي لا استراتيجي: كلا الطرفين يتبنيان الرؤية ذاتها تجاه مستقبل الضفة الغربية، لكنهما يختلفان في التوقيت وطبيعة الإعلان، وفقًا لتقدير”هلسة”.
ويضيف “هلسة” أن “إسرائيل” تدرك تمامًا أن الشرعية الأمريكية بالنسبة لها أثمن من أي شرعية دولية، لذلك تُوازن خطواتها بين التوسع الميداني الصامت والحفاظ على الغطاء السياسي الأمريكي الذي يمنحها حصانة في مواجهة المجتمع الدولي.
التوسع أولاً والتفاوض لاحقًا
في القراءة العميقة، لا يمكن النظر إلى الضم الإسرائيلي باعتباره رد فعل ظرفيًّا أو مناورة انتخابية، بل تحولًا استراتيجيًا طويل المدى يعيد صياغة بنية الصراع.
فمنذ “خطة آلون” عام 1967 وحتى”صفقة القرن” في 2020، حافظت “إسرائيل” على منهجية ثابتة: التوسع أولًا، والتفاوض لاحقًا، وفقًا للخبراء.
ويخلص “هلسة” إلى أن الضمّ بالنسبة لليمين الإسرائيلي هو إعلان وفاة رسمي لفكرة الدولة الفلسطينية.
أما بالنسبة للولايات المتحدة فهو ورقة ضغط إقليمية مؤجلة تُستخدم حين تنضج اللحظة السياسية المناسبة لإعادة صياغة “التسوية النهائية” وفق الرؤية الأمريكية-الإسرائيلية المشتركة.
في جوهره، يعكس البعد السياسي لخطة الضم تحول “إسرائيل” من دولة تبحث عن أمنها إلى دولة تسعى لشرعنة توسعها.
فبينما يُقدَّم الضم بوصفه “استجابة لأمن قومي”، تكشف السياسات الميدانية أنه أداة لإلغاء الكينونة الفلسطينية سياسيًا وجغرافيًا.
وبين الخطاب الأمريكي عن “السلام الإقليمي” والخطاب الإسرائيلي عن “الحق التاريخي”، تتلاشى تدريجيًا فكرة الحل السياسي، لصالح واقعٍ جديد عنوانه: سيادة بلا حدود، واحتلال بلا نهاية.
ورغم انخراط الفلسطينيين في مسار التسوية منذ مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، الذي انبنى على مبدأ “الأرض مقابل السلام”، استمرت “إسرائيل” في توسيع المستوطنات.
وتجاهلت “إسرائيل” كل القرارات الدولية وعلى رأسها؛ قرار مجلس الأمن 242 الذي يرفض الاستيلاء على الأراضي بالقوة.
اليوم، ومع تجاوز عدد المستوطنين في الضفة الغربية حاجز الـ700 ألف، يتبدّى بوضوح أن المشروع الاستيطاني لم يعد عائقًا مؤقتًا، بل تحول إلى سياسة بنيوية.
وهدفت هذه السياسة إلى تقويض أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية متصلة جغرافيًا، وهو ما يهدد بإدامة الصراع ونسف أي أفق لحل سياسي عادل ودائم.
البعد القانوني: شرعنة الاحتلال بالقوة
على امتداد أكثر من خمسة عقود، ظلّ القانون الدولي يشكّل أحد أهم الأسس التي استندت إليها المنظومة الدولية في مقاربة الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي.
وتعدُّ المستوطنات في الضفة الغربية وشرق القدس، بنصّ اتفاقيات جنيف الرابعة، خرقًا صريحًا للقانون الدولي الذي يحظر على دولة الاحتلال نقل سكانها إلى الأراضي المحتلة أو مصادرة مواردها.
ورغم هذا الوضوح القانوني والإجماع الدولي الراسخ، تمضي إسرائيل في فرض واقع ميداني يناقض كل القرارات الدولية، مستخدمة خليطًا من الأدوات القانونية والسياسية لشرعنة احتلالها الزاحف.
هذا التناقض بين الشرعية القانونية ومنطق القوة بات يمثل أحد أبرز مظاهر تآكل النظام الدولي القائم على القانون، ويكشف عن تحوّل في طبيعة الصراع من نزاع على الأرض إلى نزاع على تعريف الشرعية ذاتها.
يؤكد القانون الدولي الإنساني، ولا سيما اتفاقية جنيف الرابعة (1949)، أن الأراضي الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل عام 1967 هي أراضٍ محتلة لا يجوز المساس بوضعها القانوني، ولا يحق لدولة الاحتلال نقل سكانها إليها أو مصادرتها تحت أي ذريعة.
يقول مستشار مركز أبحاث الأراضي جمال العملة إن “كافة قرارات الشرعية الدولية أقرت بتحريم إنشاء المستوطنات الإسرائيلية على الأراضي المحتلة عام 1967”.
ويوضح “العملة” أن هذه القرارات تستند إلى منظومات قانونية متكاملة مثل معاهدة لاهاي واتفاقية جنيف الرابعة، التي تؤكد صراحة أن الاحتلال لا يمنح المعتدي أي حق في تملك الأرض أو تغيير طبيعتها الديموغرافية.
ويضيف “العملة” أن قرار مجلس الأمن رقم (2334) الصادر أواخر عام 2016 جاء ليعيد التأكيد على هذا المبدأ.
ويعتبر الأنشطة الاستيطانية “انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي”، مشددًا على رفض الأمم المتحدة كافة أشكال الضم الإسرائيلي، سواءً في الضفة الغربية أو القدس الشرقية.
لكن “إسرائيل”، كما يوضح خبير الخرائط والاستيطان خليل التفكجي، طوّرت منظومة قانونية هجينة تمكّنها من تجاوز الالتزامات الدولية دون إعلان صريح بذلك.
فهي “تستخدم مزيجًا من القوانين العثمانية والبريطانية والأردنية، إلى جانب أوامرها العسكرية الخاصة، لتبرير السيطرة على الأراضي الفلسطينية”، وفقًا لـلخبير.
تقوم هذه المنظومة على منطق بسيط لكنه فعّال: تحويل القانون إلى أداة استعمارية بدل أن يكون قيدًا على السلطة.
بحسب المراقبين، تعتبر “إسرائيل” أن الضفة الغربية ليست “أراضي محتلة”، بل “أراضي بلا سيادة” أو “في حالة فراغ قانوني”، ما يتيح لها -من منظورها- ممارسة صلاحياتها كـدولة قائمة بإدارة الأرض لا كقوة احتلال.
ويشرح “العملة” أن هذا الخطاب القانوني تطوّر ليصبح جزءًا من السردية الصهيونية الجديدة، التي تصف الضفة بأنها “أرض إسرائيل” التاريخية استُعيدت بعد غياب قسري.
وتشير هذه السردية إلى أن الفلسطينيين سكان طارئون يمكنهم البقاء فقط في مناطق معزولة لا تمتلك مقومات الدولة أو الاستقلال.
في السنوات الأخيرة، انتقلت “إسرائيل” من مرحلة “الالتفاف القانوني” إلى مرحلة فرض الشرعية بالأمر الواقع.
ويشير “العملة” إلى أن الكنيست أقرّ قوانين تمهّد لضم المستوطنات رسميًا، معتبرًا أن أي تشريع يصدر عن الكنيست هو “المرجعية القانونية العليا”، خصوصًا مع الغطاء السياسي الذي توفره الولايات المتحدة.
وفي هذا السياق، كشف رئيس مجلس المستوطنات الأعلى أنه طالب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بإعلان ضمّ المنطقة (ج) فورًا.
حسب “العملة” فإن “نتنياهو” أجابه بأن “الظروف السياسية لم تنضج بعد”، داعيًا إلى الاستيلاء على أكبر مساحة ممكنة بانتظار “اللحظة المناسبة للضم الكامل”.
ويتابع “العملة” أن هذه السياسة تُترجم على الأرض عبر أدوار متكاملة لوزراء الحكومة المتطرفة فسموترتش يشرف على تمويل مشاريع التوسّع الاستيطاني، بينما يعمل “ابن غفير” على تسليح المستوطنين وتوفير الحماية الميدانية لهم.
وتبرز نتائج هذه السياسة في شمال القدس، حيث أقدمت السلطات الإسرائيلية على ضم أراضٍ واسعة من قرى النبي صمويل والجيب وقطنة، بما يشمل المساكن دون سكانها.
إذ يُسمح للفلسطينيين هناك بالوصول إلى بيوتهم فقط، من دون أي حقوق إقامة أو خدمات مدنية، ما يجعلهم عمليًا “سكانًا بلا أرض” داخل منطقة ضُمت قسرًا إلى حدود “القدس الكبرى”.
تكشف التجربة الفلسطينية أن الصراع مع”إسرائيل” لم يعد صراعًا حول الأرض فحسب، بل حول تعريف الشرعية الدولية ذاتها.
فبينما تستند فلسطين إلى النصوص القانونية وقرارات الأمم المتحدة، تعتمد “إسرائيل” على “شرعية القوة” و”قوة الشرعية”، أي قدرتها على فرض تفسيرها الخاص للقانون بدعم سياسي غربي.
ويحذر “العملة” من أن استمرار هذا النهج يهدد منظومة القانون الدولي برمّتها، حيث يصبح الاحتلال مشروعًا إذا كان مدعومًا بالقوة، وتتراجع العدالة حين تفقد أدوات التنفيذ.
وبذلك، لا يعود السؤال حول مستقبل الدولة الفلسطينية فحسب، بل حول مستقبل النظام الدولي ذاته: هل يمكن للقانون أن يظلّ مرجعية في عالم تُعيد فيه “إسرائيل” -ومعها قوى أخرى- تعريف معنى الشرعية وفق مصالحها وموازين القوة؟.
البعد الديني والتاريخي
لا يمكن فهم الضمّ دون إدراك البعد الأيديولوجي الذي يمنحه غطاءً دينيًا، ففي الرواية الصهيونية، ترتبط السيطرة على “يهودا والسامرة” (الاسم التوراتي للضفة) بـ “الحق الإلهي” في الأرض.
ويُستند في ذلك إلى روايات توراتية تعتبر مدنًا مثل القدس والخليل وبيت لحم قلب “أرض الميعاد”، حيث يُصوَّر الوجود الإسرائيلي هناك كاستمرارية تاريخية.
المحلل السياسي سامر عنبتاوي يرى أن “الصهيونية لم تكن منذ نشأتها حركة دينية، بل علمانية ذات أهداف استعمارية واقتصادية”.
لكن “عنبتاوي” يوضح أن الحركة استخدمت الدين في مراحل لاحقة كوسيلة لتبرير السيطرة على الأرض.
ويوضح أنّ “التحول في الخطاب الصهيوني من السياسي إلى الديني تزامن مع صعود نفوذ الأحزاب الدينية داخل “إسرائيل” ومحاولة اليمين كسب تأييد التيارات المسيحية الإنجيلية في الغرب”.
ويضيف أن هذا التداخل بين الدين والسياسة يُنتج خطابًا مزدوجًا: داخليًا، لحشد الشارع الإسرائيلي حول فكرة أن الضم هو تطبيق لإرادة إلهية.
فيما خارجيًا، لتسويق المشروع الصهيوني بوصفه تجسيدًا لنبوءة دينية تتناغم مع معتقدات جمهور المحافظين الغربيين، خصوصًا في الولايات المتحدة.
ويؤكد “عنبتاوي” أن الرواية الدينية تتجاوز كونها موروثًا ثقافيًا إلى كونها أداة تعبئة سياسية؛ فالتيار الديني القومي داخل “إسرائيل” يرى في الضفة أرضًا مقدسة، والسيطرة عليها “واجبًا عقائديًا”.
“هذا التحول في بنية الخطاب جعل الصراع في جوهره وجوديًا لا سياسيًا. فـ “إسرائيل” لم تعد تتحدث عن حدود أو تفاوض أو أمن، بل عن حق تاريخي وديني في الأرض”، وفقا لـ “عنبتاوي”.
وبهذا، يتراجع منطق “حل الدولتين” أمام سردية تتعامل مع الجغرافيا باعتبارها عقيدة لا موضوع تفاوض.
والنتيجة: أن الاحتلال اكتسب غطاءً أيديولوجيًا يصعب تفكيكه بالمفاوضات أو الضغط الدبلوماسي؛ لأن ما يُقدَّم على أنه “أمن قومي” يُعاد إنتاجه في الوعي الإسرائيلي كـ”قدر تاريخي”.
أما في الميدان، تترجم هذه العقيدة إلى خطوات ملموسة: إعادة تسمية المستوطنات بأسماء توراتية، وإنشاء متاحف ومراكز دينية في مناطق حساسة مثل القدس والخليل، لتثبيت الهوية اليهودية على الأرض.
ويشير باحثون إلى أن هذه الممارسات ليست مجرد أدوات رمزية، بل إعادة هندسة للذاكرة المكانية تهدف إلى محو الرواية الفلسطينية واستبدالها بسردية دينية تمنح الوجود الإسرائيلي طابعًا “أبديًا”.
مع مضيّ “إسرائيل” في فرض وقائعها على الأرض، يتبدّى أن الضمّ لم يعد مجرد سياسة توسعية، بل تحوّل إلى إستراتيجية وجودية تُعيد تعريف معنى الدولة والحدود والسيادة في الشرق الأوسط.
نقطة اللاعودة..
ما يجري في الضفة ليس توسعًا جغرافيًا فحسب، بل إعادة هندسة للمنطقة بأكملها تحت لافتة الأمن والتاريخ والدين.
في ظلّ انكفاء الإرادة الدولية، ترسم إسرائيل واقعًا أحاديًا عنوانه: سيادة بلا حدود، واحتلال بلا نهاية.
وبينما تتحدث العواصم عن “حل الدولتين”، تُكرّس “تل أبيب” على الأرض واقعًا يجعل من الضفة نقطة اللاعودة في مسار الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي.