هدنة مرتقبة وأمعاء خاوية: كيف ينتظر أبناء شعبنا الهدنة في قطاع غزة

وسط الدمار المتصاعد وتحت قصف لا يتوقف، يقف أبناء غزة على مفترق تاريخي بين الحياة والموت، وبين أمل ضعيف يُدعى "هدنة" وجوع يفتك بالأجساد قبل الأرواح. فحين تصبح الهدنة حلمًا، يتحول انتظارها إلى طقس جماعي من الصبر، والألم، والرجاء المتأجج.
منذ بداية حرب الإبادة والتهجير، عانت غزة من شلل تام في كافة المرافق الحيوية: المستشفيات تعج بالجرحى وتفتقر للمواد الأساسية، محطات الكهرباء متوقفة، والمياه شحيحة إن لم تكن ملوثة. الأسواق خاوية، والمخابز تعمل بشكل متقطع إن وجدت الوقود. ومع تواصل الحصار الخانق والاغلاق المستمر للمعابر، أصبح الغذاء دواءً، والماء أمنية، والهدنة خشبة خلاص مؤقتة.
في ظل هذه الظروف القاسية، تحوّل الانتظار إلى معاناة جماعية. عشرات الآلاف من العائلات المهجرة يبيتون في المدارس والخيام أو بين أنقاض بيوتهم، يتبادلون الأمل والخوف، ويراقبون الأخبار بشغف مشوب بالقلق.
ما معنى "هدنة" لأطفال غزة؟
بالنسبة للطفل الغزّي، تعني كلمة "هدنة" فرصة للنجاة. هدنة تعني أن يخرج ليلعب في الشارع، أن يشرب ماءً دون خوف، أن يرى السماء من دون دخان. أما بالنسبة لأمه، فتعني لحظة لالتقاط الأنفاس، وربما محاولة إعداد وجبة بسيطة مما تبقّى لديها.
ولكن، هل تكون الهدنة فعلًا هدنة؟ كثيرون في غزة فقدوا الثقة بالوعود الدولية والمفاوضات الطويلة، لأن كل هدنة سابقة كانت قصيرة كأنفاسهم، مشروطة، وقابلة للانفجار في أي لحظة.
انتظار ثقيل بالأمل والخذلان
في أزقة المخيمات، ترى وجوهًا أنهكها الحزن والتعب، لكنها لا تزال تنتظر. رجل في السبعين من عمره يهمس: "نحن ننتظر الهدنة لا لأننا نثق، بل لأننا لا نملك خيارًا آخر."
الشباب الذين كان من المفترض أن يعيشوا أجمل سنوات عمرهم، يقضون أوقاتهم في محاولة توفير الطعام لعائلاتهم أو دفن أحبائهم. رغم كل ذلك، لا يغيب الأمل. الأمل العنيد هو ما يجعل الغزيين يصمدون، ويبنون خيامًا من الشراشف، ويخبزون خبزًا على نار الخشب.
الإعلام... بين التغطية والتجاهل
وفي خضم هذا الواقع، تنقسم عدسات الإعلام بين من ينقل المعاناة بصدق ومن يتجاهلها عمدًا أو يقلب السردية. وفي الوقت الذي يلهث فيه العالم خلف أخبار "الاتفاقات" و"الضغوط الدولية"، تظل معاناة الناس في غزة مجرد خلفية للأحداث السياسية.
الهدنة لا تعني شيئًا للمُحلِّلين إن لم تُوقَّع، لكنها تعني كل شيء للغزي البسيط الذي ينتظرها ليحصل على القليل من الخبز أو الدواء، أو ليدفن أحبّاءه بكرامة.
الإضراب عن الطعام... خيار قسري لا نضالي
في غزة، لا يحتاج الناس إلى إعلان إضراب عن الطعام. فالمجاعة القسرية واقع يعيشه مئات الآلاف، لا نتيجة موقف سياسي، بل نتيجة للظروف التي فرضت عليهم. الأطفال ينامون على بطون خاوية، والنساء يبدعن في طرق الطهي من لا شيء، بينما الرجال يخفون دموعهم خلف أقنعة الصمود.
ورغم شح الموارد، تنتشر حملات التكافل الشعبي، حيث يشارك الجيران ما لديهم من ماء أو فتات خبز. وهنا يظهر وجه غزة الحقيقي: وجه الكرامة في زمن الانكسار، والرحمة وسط الخراب.
بين صمت العالم وصوت المقاومة
ينتظر الغزيون من المجتمع الدولي أن يتحرك ليس فقط من أجل هدنة، بل من أجل حل جذري وعادل يُنهي سنوات من الحصار والاحتلال والعقاب الجماعي. ولكن الصمت الدولي، أو بيانات "القلق العميق"، لا يشبع جائعًا ولا يحيي شهيدًا.
في المقابل، تتمسك المقاومة بحق الرد والدفاع، معتبرة أن الهدنة يجب أن تكون مشروطة بتحسين الأوضاع ووقف العدوان، لا مجرد توقف مؤقت لإعادة ترتيب الضربات.
ما بعد الهدنة: هل من أفق؟
الهدنة، إن جاءت، ستحمل راحة مؤقتة، لكنها لن تُنهي مأساة ممتدة منذ عقود. سيُعاد فتح المعابر لبعض الوقت، وستُدخل مساعدات غذائية وطبية، وقد يُسمح لبعض العالقين بالسفر. لكن، ما لم تُحل الأسباب الجذرية، فكل هدنة هي فاصل مؤقت بين موجتين من الألم.
الغزيون لا ينتظرون الهدنة فقط، بل ينتظرون كرامة، حياةً طبيعية، مستقبلًا لأبنائهم خارج ثقافة القتل والدمار.