غزة تحت الحصار والنار: اقتصاد على حافة الانهيار وإعمار مؤجل

منذ أكتوبر 2023، يواجه قطاع غزة ليس فقط حربًا عسكرية هي الأشد والأوسع نطاقًا في تاريخه، بل حربًا مركبة تستهدف بُنية المجتمع الفلسطيني، وتضرب في عمق اقتصاده المحلي، وتُعيد تشكيل الخريطة الديمغرافية على نحو يخدم أهدافًا استراتيجية إسرائيلية قديمة جديدة، تعود جذورها إلى ما يُعرف إعلاميًا بـ"صفقة القرن" أو "خطة ترامب"، وتستكمل فصولها اليوم بغطاء من الصمت الدولي.

إن الواقع الاقتصادي في قطاع غزة اليوم لا يمكن فهمه بمعزل عن هذه السياسات، التي لا تهدف إلى "الردع" أو "الأمن"، كما يروج الخطاب الإسرائيلي، بل إلى تفكيك مقومات الوجود الفلسطيني، ودفع السكان قسرًا نحو النزوح، وإعادة تشكيل الجغرافيا الديموغرافية بما يخدم مشروعًا استعماريًا طويل المدى.

اقتصاد مُدّمر وناتج محلي يتلاشى

أكثر من 53000 شهيدًا، 115 ألف جريح وآلاف المفقودين ، ومليونا نازح داخلي، هذا ليس مجرد عدوان، بل مخطط تهجيري موسّع مدعوم بأدوات التدمير الاقتصادي. تشير الوقائع الميدانية إلى أن الاحتلال الإسرائيلي لم يكتفِ بتدمير الأبراج السكنية والبنية التحتية، بل استهدف أيضًا الأسواق المركزية، المصانع، المزارع، محطات الطاقة، المعابر التجارية، والطرق الحيوية، في سياق واضح يهدف إلى إغلاق كل نوافذ الحياة في غزة.

في الوقت الذي يتحدث فيه العالم عن أزمات تضخم وانكماش اقتصادي، تسجّل غزة تراجعًا قاسيًا يتجاوز حدود المؤشرات الاقتصادية المعتادة. فالناتج المحلي الإجمالي في القطاع انكمش بنسبة تفوق 82% خلال عام 2024، ليعكس انهيارًا شبه كامل في الأنشطة الاقتصادية، من الزراعة إلى الصناعة، ومن الخدمات إلى التجارة. وتشير تقديراتنا إلى أن العدوان تسبب بخسائر مباشرة تتجاوز 12 مليار دولار، إضافة إلى أضرار غير مباشرة تُقدر بمليارات أخرى.

قطاع الإنشاءات، الذي كان يشكّل رافعة للتشغيل والتنمية، انهار بنسبة 98%. قطاع الزراعة، الذي يؤمّن الغذاء لمئات الآلاف من الأسر، فقد 41% من أراضيه نتيجة القصف والتجريف، بينما توقفت عجلة الصناعة تمامًا في ظل الحصار ومنع المواد الخام. الاقتصاد الغزي اليوم لا يئن فحسب، بل ينزف على مرأى من العالم، في ظل غياب أي تحرك دولي جاد لوقف العدوان أو كسر الحصار.

بطالة جماعية وفقر شامل

البطالة، التي لطالما كانت سمة من سمات اقتصاد غزة المحاصر، تضاعفت لتبلغ 80%، بينما ارتفعت معدلات الفقر إلى أكثر من 91%، وفق أرقام الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني. هذه الأرقام لا تعكس مجرد خلل اقتصادي، بل كارثة اجتماعية متكاملة الأركان. إذ يعاني أكثر من مليوني فلسطيني في القطاع من انعدام حاد للأمن الغذائي، وسط انهيار المنظومة الصحية والتعليمية وندرة المواد الأساسية.

لقد باتت غزة نموذجًا حزينًا لانهيار مركّب: بنية تحتية مدمّرة، قوى عاملة معطّلة، وواقع معيشة يتجاوز الفقر إلى مستويات من الجوع والمجاعة. وترافق ذلك مع شلل في النظام المصرفي، وتوقف عمل البنوك، وانعدام السيولة، ما فاقم من ضعف القوة الشرائية وارتفاع أسعار السلع بنسبة تجاوزت 227%.

إعمار مُعلّق بين الركام والسياسة

إعادة إعمار غزة ليست مسألة فنية أو هندسية، بل قضية سياسية بامتياز. فما زال الاحتلال يتحكم في المعابر، ويمنع دخول مواد البناء، ويقيّد حركة المنظمات الدولية، ويستخدم الحصار أداة للابتزاز الجماعي. ورغم مرور أكثر من عام ونصف على بدء العدوان، لا تزال الاستجابة الدولية قاصرة. إذ لم تُنفّذ سوى 30% من تعهدات إعادة الإعمار بعد حرب 2014، فكيف سيكون الحال في ظل دمار يقدّر بـ54 مليار دولار وفق سيناريو التعافي الكامل؟

تكمن خطورة المشهد في أن الإعمار دون مقاربة سياسية عادلة لن يفضي إلا إلى إعادة إنتاج الأزمة. لا يمكن الحديث عن تعافٍ اقتصادي في ظل الحصار، ولا عن تنمية مستدامة دون سيادة وطنية حقيقية. ولأن العدوان الأخير طال 437 ألف وحدة سكنية، فإن مجرد إزالة الركام – المقدر بـ55 مليون طن – تحتاج إلى عامين على الأقل، ما يعني أن الإعمار سيبقى رهينة لتعقيدات سياسية وأمنية عابرة للحدود.

خطة "ترامب" تهجيرية بثوب اقتصادي

إن ما نشهده اليوم ليس إلا التطبيق الفعلي لما تنبأنا به منذ إعلان "صفقة القرن" عام 2020، التي نصّت صراحة على أن "حل مشكلة غزة يجب أن يراعي الجوانب الأمنية لإسرائيل، ويمكن أن يتم عبر دعم تنموي في مناطق خارج القطاع". أي بمعنى آخر، تصدير الأزمة خارج الحدود، وتفريغ غزة من سكانها.

فالخطة التي تروّج لها دوائر صنع القرار الإسرائيلي، وبدعم غير معلن من أطراف دولية، تتلخص في التالي:

خلق بيئة معيشية طاردة عبر التدمير الكامل للبنية الاقتصادية والصحية والتعليمية.

دفع السكان نحو النزوح الداخلي والفقر المدقع، ثم تحفيز موجات هجرة خارجية "اختيارية".

ربط الإعمار بالحل السياسي الأمريكي الإسرائيلي، الذي يشترط "التطبيع الكامل" و"التنصل من المقاومة".

بهذا المعنى، يصبح الاقتصاد الفلسطيني في غزة ضحية مباشرة لمخطط سياسي يتجاوز منطق الحروب التقليدية، ليتحول إبادة جماعية وأداة للإخضاع والإخلاء. فنجد أن الاحتلال يستهدف تدمير كل روافع الاقتصاد: الزراعة، الصناعة، التجارة، النقل، الاتصالات. مصانع كاملة جُرفت، أكثر من 3,130 كيلومتر من شبكات الكهرباء دُمرت، 330 ألف متر من أنابيب المياه والصرف الصحي خرجت عن الخدمة. القطاع الصحي دُمّر بنسبة تفوق 90%، والتعليم توقّف لنحو 785 ألف طالب.

كل هذا يجري في إطار جعل الحياة اليومية عبئًا لا يُطاق، والبحث عن بدائل خارج غزة مخرجًا منطقيًا للسكان الذين يُتركون عمدًا في عراء إنساني تام.

نحو رؤية متكاملة للتعافي

أمام هذا الواقع، تبدو الحاجة ملحة لتبني خطة وطنية شاملة لإعادة الإعمار، لا تقتصر على إصلاح المباني، بل تمتد إلى إعادة بناء الإنسان الفلسطيني وتمكينه من الصمود. وتستند هذه الرؤية إلى ثلاث مراحل:

المرحلة الإغاثية الطارئة: تشمل توفير الغذاء والمأوى والخدمات الصحية العاجلة، وتقدّر تكلفتها بـ11.4 مليار دولار.

مرحلة التعافي الاقتصادي والاجتماعي: تمتد لأربع سنوات، وتشمل إصلاح البنية التحتية، ودعم القطاعات الحيوية كالصحة والتعليم والزراعة، بتكلفة تُقدّر بـ23.7 مليار دولار.

مرحلة الإعمار السكني الكامل: وهي الأكثر تكلفة (18 مليار دولار)، وتشمل بناء وحدات سكنية جديدة وتعويض المتضررين، وقد تمتد لثماني سنوات إذا ما تم إشراك شركات دولية وإقليمية إلى جانب المحلية.

التوصيات: من المأساة إلى الأمل

رفع الحصار فورًا، وفتح جميع المعابر بشكل دائم لتدفق السلع والمساعدات والعمالة.

إنشاء صندوق دولي مستقل لإعادة الإعمار، بإشراف أممي وفلسطيني، يضمن الشفافية والعدالة في التوزيع.

إعادة تأهيل الاقتصاد المحلي من خلال دعم المشاريع الصغيرة، وتحفيز الإنتاج المحلي، واستعادة سلاسل التوريد.

الاستثمار في البنية البشرية، لا سيما التعليم والصحة، لضمان تعافٍ مستدام.

تعزيز الحوكمة والمساءلة كشرط أساسي لاستمرار الدعم الدولي، وتحقيق العدالة في توزيع الموارد.

خاتمة

ليس المطلوب من العالم أن يتعاطف مع غزة، بل أن يتحمل مسؤولياته القانونية والإنسانية. فالمأساة ليست فقط في الدمار، بل في استمرار تجاهل حق الفلسطيني في الحياة والكرامة والسيادة. وبينما ينهار الاقتصاد، ويحاصر الإنسان، تظل غزة، برغم الجراح، تحمل بذور الأمل، وتطالب العالم ألا يكتفي بالمشاهدة.

disqus comments here