غزة بين هدنة الضرورة ومعركة المصير: نحو وقف نار حقيقي ينهي الحرب ويكسر الحصار

لم يعد وقف إطلاق النار في قطاع غزة مجرّد مطلب تفاوضي أو ضرورة إنسانية، بل تحوّل إلى حقّ وجودي لشعب يُحاصر بالموت، ويكابد الجوع والدمار، في ظل حرب إبادة غير مسبوقة في تاريخ المنطقة.
في مواجهة هذا الجحيم المستمر منذ أشهر، تبرز مقترحات وقف إطلاق نار مؤقت لمدة 60 يومًا، كنافذة لاستعادة الأنفاس، وتجريب صدق النوايا السياسية. غير أن هذه الهدنة، على أهميتها، لا تمثّل نهاية للحرب ما لم تُقرن بمطالب واضحة توقف العدوان وتمنع تكراره.
فأي تهدئة لا تتجاوز حدود “الاستراحة الميدانية” ستتحول إلى فرصة جديدة للاحتلال لإعادة تموضعه وتعزيز ترسانته العسكرية، تمهيدًا لعدوان أشد. ولذا، فإن الحد الأدنى لنجاح أي اتفاق يجب أن يقوم على شروط واضحة، أبرزها:
فتح فوري وغير مشروط لجميع المعابر؛
إدخال المساعدات الإنسانية دون عوائق أو تقليص؛
انسحاب الاحتلال إلى ما قبل خطوط 19 يناير 2025؛
تسهيل نقل المرضى والمصابين لتلقي العلاج في الخارج؛
توفير مأوى كريم للنازحين داخل القطاع، لا فوق أنقاض منازلهم.
لكن الأخطر من استمرار الحرب، هو ما يُخطط لغزة بعد توقف القتال، تحت عناوين مثل "الإدارة الإنسانية"، التي تُطرح كبدائل عن الحل السياسي، وتُفرغ القضية الفلسطينية من مضمونها التحرري، وتحوّل القطاع إلى كيان هشّ خاضع للتمويل المشروط والابتزاز الدولي.
في هذا السياق، يرى مراقبون أن ما يسمى بـ"خطة اليوم التالي" التي يروّج لها الاحتلال، تستهدف تثبيت واقع التقسيم، وتفكيك وحدة الأرض والشعب الفلسطيني، والإبقاء على غزة كمنطقة منكوبة تُدار بأكياس المساعدات، بدلًا من أن تكون جزءًا من مشروع وطني تحرري.
وفي مواجهة هذا المسار، تكثفت المشاورات الفلسطينية في القاهرة بين فصائل فاعلة، بينها حركتا حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، في محاولة لتوحيد الموقف الوطني وصياغة رؤية موحدة تضمن صون حقوق الشعب الفلسطيني ورفض مشاريع التفتيت.
وشددت هذه القوى على أن الضمانة الحقيقية لأي اتفاق هي وجود رقابة دولية صارمة وآليات تنفيذ شفافة، تحول دون التفاف الاحتلال على بنود الاتفاق، كما فعل في محطات سابقة.
أما "معركة اليوم التالي"، فلن تُربح بالوثائق والمبادرات الدولية وحدها، بل بوحدة الموقف الفلسطيني، باعتبارها الدرع الحقيقي في وجه محاولات التفتيت والتبعية. فغزة ليست "ملفًا إنسانيًا" تملكه مؤسسات التمويل، بل جزءٌ لا يتجزأ من الوطن، يقاوم من أجل الحرية والاستقلال، لا من أجل فتات المعونات.
إن وقف إطلاق النار الحقيقي، هو ذاك الذي يمهّد الطريق نحو إنهاء الاحتلال، وكسر الحصار، وإعادة إعمار غزة في إطار رؤية وطنية شاملة، لا مقاربات إنسانية مبتورة.
ومن يريد مستقبلًا لغزة يليق بتضحياتها، عليه أن يحسم خياره: إما هدنة مؤقتة تُدار بشروط الخارج وتهديدات الاحتلال، أو مسار وطني يُبنى على الكرامة ووحدة الصف والهدف، نحو حرية لا تقبل القسمة ولا الابتزاز.