بقلم “محمود كلّم” غزة… صلاةٌ فوق الركام وحياةٌ لا تنطفئ!

عندما تنهار المدن، يفرّ الناس إلى البعيد بحثاً عن الحياة…
لكن في غزة لا مكان للهروب. السماءُ حديد، والأرضُ نار، والبحرُ مُغلَق بالشِّباك والأسلاك. هناك لا يُولد النهار إلا على صوت الانفجار، ولا ينام الليل إلا على شهقة أمٍّ فقدت طفلها، أو بكاء أبٍ يبحث عن طفله بين الركام.

في غزة لم يَبقَ من المدينة إلا ظلُّها، ولا من البيوت إلا الجدرانُ التي تحفظ رائحة الأهل. الأطفال هناك يعرفون أسماء الطائرات كما يعرف أطفالُ العالم أسماء ألعابهم، والنساءُ يحفظنَ طريقَ المستشفى أكثر من طريق السوق. صار الحُلمُ ترفاً، والابتسامةُ مغامرة، والحياةُ مؤقّتةً مثل الكهرباء التي تأتي دقائق وتغيب دهوراً.

وعندما تنهار الدول، كما قال ابن خلدون، يكثر المتكلمون باسم الوطن، والمنظّرون باسم الحرية، والمنتفعون من دماء الأبرياء. وفي غزة اليوم يتكاثر الخطباءُ والمزايدون، وتتزاحم على الشاشات الوجوهُ الباردة التي تتحدث عن “الحلول”، بينما الأطفال تحت الأنقاض يكتبون بدمهم بيان الحقيقة الوحيد: أننا باقون رغم الموت.

في زمن الخراب يتحوّل الحلم إلى جريمة، والأمل إلى وَهم، والسكوت إلى نجاة. في غزة لا يملك الناس ترفَ اليأس، لأنهم وُلِدوا في قلبه، وتعلّموا أن يبتسموا رغم رماد الأيام. هناك تُقام جنازاتُ الفرح في كل بيت، ويُدفن العمرُ مع كل شهيد، ومع ذلك تخرج الأرواح من بين الأنقاض كزهورٍ من الإسمنت.

“لن نرحل… وإن رحلت أجسادُنا، ستبقى أرواحُنا تحرس البحر والسهل والبيت.”

وهناك، بين الركام نفسه، يصلّي رجال غزة صلاةَ يوم الجمعة. يقفون حفاةً فوق ترابٍ ممزوجٍ بالغبار والدم، يفرشون الأرض بالإيمان حين لا تبقى سجادة، ويرفعون أيديهم إلى السماء التي تُظلّهم بالقصف لا بالغيوم. يؤمّهم شيخٌ فقد بيته، ويحرس صفوفَهم شابٌّ فقد صديقه، ويكبرون تكبيرةً تهزّ الحصار كلَّه. لا مئذنة تُنادي، لكن القلوب هي المآذن، ولا مسجد قائم إلا روح الجماعة التي تُصلّي حيثما بقي حجرٌ من وطنٍ يتّسع للركوع والسجود. في غزة حتى الجمعة تُصلَّى على عجل، لكن بحضورٍ لا يشبه إلا حضورَ من يعرف أن الله وحده لا تُغلق أبوابه.

وفي فلسطين يمشي الشعب مثقلاً بالتاريخ، يجرّ وراءه أكثر من سبعة وسبعين عاماً من الألم، ولا يزال يقف على عتبة الوجود متمسكاً بما تبقّى من معنى الوطن. هناك، حيث يموت الأمل، يُخلق أملٌ جديد من تحت الركام. وهناك حيث يصمت العالم، تتكلم الأرض، ويتحدث الحجر، وتنطق الشهادة.

لقد تحوّل الوطن إلى حقيبةٍ في يد لاجئ، والبيوتُ إلى ذكريات، والذكرياتُ إلى حكاياتٍ تُروى على أضواء الشموع في المخيمات. ومع ذلك ما زالوا يقولون: “سنعود.”
كأن العودة ليست وعداً سياسياً، بل عقيدةً في القلب لا تموت.

غزة اليوم ليست مجرد جغرافيا، بل جرحٌ مفتوح في ضمير العالم، مرآةٌ تُظهر قبحَ الصمت، وشاهدةٌ على أن الإنسان يمكن أن يُسحَق ولا ينكسر، أن يُحاصَر ولا يستسلم، أن يُحرَم من كل شيء إلا الكرامة.

وهكذا حين تنهار المدن، وتُسحَق الأحلام، وتضيع الملامح في رماد الموت، تبقى غزة  رغم كل شيء  قصيدةَ حزنٍ لا تنتهي، وصرخةً في وجه العالم تقول:

“ها نحن هنا… نعيش فوق الركام، ونحمل في قلوبنا وطناً لا يُقصف، ولا يُحتل، ولا يُنسى.”

في نهاية الحكاية تبقى غزة ليست مجرد اسمٍ على الخريطة، بل وجعاً نابضاً في قلب كل مَن بقي له ضمير.
تبقى شاهدةً على عصرٍ سقطت فيه القيم، وارتفعت فيه أصوات الطائرات على صوت الإنسان.
هناك، في ركامها الصامت، تنام القصص التي لم تُكتب بعد، وتبكي الجدران على مَن رحلوا ولم يعودوا.
ومع كل فجرٍ جديد، تُطلّ من بين الغبار يدُ طفلٍ صغير، تُمسك بالحياة كما يمسك الغريق بأنفاسه الأخيرة، لتقول للعالم بلغة الدموع:

“ما زلنا هنا… رغم كل شيء، ما زلنا نحلم بوطنٍ لا يحترق.”

disqus comments here