بقلم”اسماعيل الريماوي” الصهيونية بوجوه عربية.. عبرت إلى البيوت واعتلت المنابر

اليوم لم تعد الصهيونية جسداً غريباً محصوراً خلف الأسلاك في فلسطين، بل أصبحت فكرة تتجول بيننا، وتتنفس معنا، بل وتصلّي في مساجدنا، بين العرب الذين تربّوا على وجدان القضية ووعدوا أنفسهم بالوقوف مع الحق حتى النهاية، نشأ جيل جديد من المتصهينين العرب، لا يتورع بعضهم عن التطبيع العلني، ولا يخجل آخرون من تقديم الولاء في السر، بينما يتزيّن كثيرون منهم بقشرة الفكر والدين ليُسقطوا عن كاهلهم ثقل الموقف ومسؤولية الانتماء، يبررون الصهيونية، ويمنحون الاحتلال حق الرد، ويهاجمون المقاومة بلا خجل، يكتبون القصائد في مدح “الديمقراطية الإسرائيلية” ويُشيّعون أوهامهم على أنها نموذج للشفافية والمواطنة، هم أولئك الذين يرقصون في أفراحنا ولا يبكون في أحزاننا، لا يوجعهم جرح القدس، ولا يثقل صدورهم حزن غزة، يعيشون بيننا ولا يعيشون معنا.

إن أخطر ما يقع فيه الواهمون هو الاعتقاد بأن الصهيونية مجرد كيان محتل فوق أرض فلسطين، بينما الحقيقة أنها مشروع يتسلل إلى الوعي قبل أن يقتحم الحدود، يغزو البيوت والأحياء والعقول، إذ لم يكن الصراع يوماً صراع أرض، بل صراع وجود، ولهذا لا يمكن أن تُداوى جراحه باتفاقيات ولا تُخمد نيرانه بمعاهدات، لأن الصهيونية ليست دولة فقط، إنما عقيدة قُدّمت على مذبح الدم والقتل والتشريد بوصفها طريقاً مقدساً لتحقيق حلم السيطرة، عقيدة تستبيح كل شيء، تُربي أتباعها على الطاعة العمياء، وعلى اللاعودة في الطريق مهما عظمت الجرائم، وهي بهذا تكشف أنها واحدة من أحط العقائد التي عرفتها البشرية.

والصهيونية، رغم قبحها، ليست فكراً جامداً، بل مشروع شديد المرونة، بدأ حركة تنويرية في أوروبا وروسيا، ثم تحوّل إلى حركة عمالية، ثم إلى منظمة للهجرة اليهودية، قبل أن ينقلب بعد عام 1917 إلى مشروع سياسي وعسكري كامل يشرف على تأسيس العصابات التي شكّلت النواة الدموية الأولى للاحتلال مثل الأرغون والهاجاناه، وهذا التطور يكشف أن الصهيونية حركة لا تتوقف عن إعادة تشكيل نفسها لتكون دائماً الأقدر على إحداث الخراب.

واليوم، حين يروج البعض بأن الصهيونية تلاشت لتحل محلها “الدولة اليهودية”، فإن هذا الادعاء ليس سوى قراءة سطحية، لأن اختفاء العقيدة لا يكون بإخفاء اسمها بل بإسقاط أركانها، وهذا ما لم يحدث، فالدولة الإسرائيلية اليوم أكثر وحشية من أي وقت مضى، أكثر استعداداً للقتل والحرق والتهجير، وأكثر التصاقاً بروح الصهيونية الأولى التي لم تتراجع، بل ازدادت تغولاً، ما يؤكد أن العقيدة لم تختفِ، بل أصبحت هي المتحكمة في مفاصل الدولة، هي روحها وعقلها وسياستها، هي التي تحرك الجيش، وتبرر الإبادة، وتمنح الشرعية للحصار والقتل، وتعيد إنتاج المأساة جيلاً بعد جيل.

إن الصهيونية لم تمت، بل ازدادت حياة، ولم تتراجع، بل زادت توحشاً، وحين ينكر البعض ذلك فهم لا يهربون من الحقيقة فقط، بل يساهمون في تثبيت أخطر فكرة عرفتها المنطقة منذ قرن: أن مشروع الاحتلال ليس مشروع حدود، بل مشروع عقل يريد أن يستبدل الذاكرة والهوية والوجدان، وأن المعركة لم تكن يوماً بين جيشين، بل بين وجودين لا يمكن أن يجتمعا في أرض واحدة أو لحظة واحدة.

والأدهى من كل ذلك أن الصهيونية لم تجد فقط من يبررها بين النخب السياسية أو الثقافية، بل وجدت أيضاً من يتولاها بعمامة الدين ولحيته، أولئك الشيوخ الذين صاروا امتداداً خطابياً لآلة الاحتلال، يتلون على الناس فتاوى مخدّرة، ويستحضرون نصوصاً مبتورة لشرعنة الاستسلام، ويرفعون راية الطاعة المطلقة للسلطان فوق راية الحق والعدل، حتى باتوا شركاء في الجريمة دون أن تمسّ أيديهم بندقية أو يلوث ثيابهم غبار معركة، هؤلاء هم شيوخ السلاطين الذين يمهّدون الطريق لكل خيانة ويهندسون الغطاء الشرعي لكل سقطة، يغسلون وجه الاحتلال بفتوى، ويغسلون عار التطبيع بخطبة، ويجعلون من مقاومة الظلم خروجاً على الجماعة ومن الصمت على الدم عبادة يتقربون بها.

إن الخطر ليس في المتصهين السياسي الذي يعلن خيانته جهاراً، بل في المتصهين الديني الذي يحوّل الخضوع إلى منهج ويخلع على الاحتلال عباءة القدر، ويقنع البسطاء أن فلسطين قدر مكتوب، وأن مواجهة الظلم فوضى، وأن الوقوف إلى جانب المظلوم فتنة يجب اجتنابها، هؤلاء أخطر من كل جندي في جيش الاحتلال لأن رصاص الجندي يُقتل مرة بينما رصاص الفتوى يقتل أجيالاً، هؤلاء من يطفئون جذوة الغضب في القلوب ويصنعون من الشعوب قطعاناً تسير بلا بوصلة ولا وعي، وهم الذين صاروا اليوم رافعة للصهيونية الجديدة التي تتسلل إلى البيوت والعقول تحت ستار الدين والنظام.

وفي زمن الحرب الكبرى على الوعي تتقدم الصهيونية بخطوات مسرعة لأن التربة مهيأة لها على أيدي شيوخٍ تعلّموا كيف يطوّعون النصوص للسلطة، وكيف يستبدلون وجع القدس بمديح القصور، وكيف يخنقون روح المقاومة بدعوة الصبر، وكيف يطفئون نداء الحق بعبارات طاعة ولي الأمر، في هذا المشهد يكتمل خطر الصهيونية لأن الذي يقتل الأرض جندي، بينما الذي يقتل الأمة شيخ، وحين يتحالف الرصاص مع الفتوى يصبح الاحتلال فكرة لا يمكن مقاومتها إلا بإعادة تحرير العقل من كل الذين باعوه بثمن السياسة والجاه.

disqus comments here