التهجير الصامت: أخطر ما يُهدّد غزة اليوم
لا تبدو موجة الخروج المتزايدة من قطاع غزة مجرد نزوح عابر أو ردّ فعل طبيعي على الظروف القاسية التي يعيشها السكان بفعل الإبادة الجماعية. ما يجري اليوم يتجاوز حدود الأزمة الإنسانية، ليقترب من أخطر سيناريو يمكن أن يواجهه الشعب الفلسطيني: التهجير الصامت، أو إعادة تشكيل غزة ديموغرافيًا دون ضجيج أو إعلان.
فقد تحوّلت حياة أكثر من مليوني فلسطيني داخل القطاع إلى سلسلة لا تنتهي من المعاناة اليومية: حصار مطبق يلتهم كل مقومات الحياة، دمار يطال الحجر والبشر، وبنى تحتية لا تكاد تقوى على العمل ليوم إضافي. ومع كل ذلك، تتسع رقعة الحديث — محليًا ودوليًا — عن آلاف العائلات التي تغادر القطاع بحثًا عن ملاذ آمن أو فرصة حياة أقل قسوة.
الخطر هنا لا يكمن في الهجرة بحدّ ذاتها، بل في تراكمها وتحوّلها إلى مسار جماعي يهدد بثقب ديموغرافي واسع قد يُفرغ غزة من سكانها خلال عامين، وفق تقديرات عديدة. هذه ليست أرقامًا للاستهلاك الإعلامي، بل إشارات حمراء تومض بقوة، وتكشف أن ما كان يُخشى حدوثه بدأ بالفعل: تهجيرٌ من دون حرب معلنة، وسكانٌ يُدفعون دفعًا نحو المجهول، تحت وطأة واقع لا إنساني يُفقدهم القدرة على الصمود.
إن ما يواجهه أهل غزة اليوم ليس خيارًا بين البقاء والرحيل، بل معركة وجود. فكل عائلة تُغادر تُشكّل حجرًا يُنتزع من جدار الصمود الوطني، وكل شاب ينزح بحثًا عن مستقبل آخر يُضاف إلى نزيف بشري يضعف قدرة المجتمع على النهوض. ومن الخطأ النظر إلى هذه الهجرة باعتبارها قرارًا فرديًا؛ فهي نتاج منظومة طويلة من الضغوط: حصار، ودمار، وبطالة، وانعدام أفق سياسي، وفقدان متواصل للأمل.
الأخطر من ذلك، أن هذا التهجير الصامت يجري بينما يقف المجتمع الدولي موقف المتفرّج، أو في أحسن الحالات، يكتفي بالتعبير عن “القلق”. وهذا التراخي الدولي يمنح الضوء الأخضر لاستمرار تفريغ غزة، وتحويل المعاناة الإنسانية إلى أداة لتغيير الواقع السكاني، في مخالفة صريحة لكل القوانين والمواثيق الدولية.
إن بقاء غزة بما تمثّله من ثقل وطني وسياسي وجغرافي هو خط الدفاع الأول عن القضية الفلسطينية. والتفريط بهذا الوجود السكاني — بقصد أو بصمت — هو تفريط بتاريخ ومستقبل، وفتح الباب أمام مشاريع خطيرة لطالما سعت إلى تقويض الحق الفلسطيني في الأرض والعودة والسيادة.
من هنا، فإن المسؤولية الوطنية تستدعي مواجهة هذا المسار بكل قوة:
عبر دعم صمود السكان وتوفير مقومات الحياة لهم،
وعبر رفع الصوت عاليًا في كل المحافل الدولية لكشف خطورة ما يجري،
وعبر وضع حدّ للمخططات التي تحاول تحويل غزة إلى مساحة بلا بشر.
لقد دفع الفلسطينيون أثمانًا باهظة دفاعًا عن وجودهم، ولا يجوز أن يكون صمت العالم شريكًا في دفعهم إلى هجرة قسرية متواصلة تُفرض تحت ستار “الأزمة الإنسانية”.
غزة ليست أرضًا للطرد ولا ساحة للفراغ؛ إنها عنوان للثبات والصمود. والمسؤولية اليوم أن نحمي هذا العنوان من أن يمحوه التهجير الصامت.