الغارديان”: الهجوم المزدوج على مستشفى ناصر جريمة حرب

أثار الهجوم الإسرائيلي المزدوج على مستشفى ناصر الحكومي في جنوب قطاع غزة، الذي أسفر عن استشهاد أكثر من عشرين شخصًا بينهم خمسة صحفيين يعملون مع وكالات كبرى مثل أسوشيتد برس ورويترز وإن بي سي والجزيرة، موجةً من الإدانات الدولية، مع تحذيرات من أن ما جرى قد يشكل جريمة حرب واضحة على عدة مستويات.

وأبرزت صحيفة الغارديان البريطانية أن الغارة الإسرائيلي الأولى ضربت الطابق الرابع للمستشفى، أعقبها قصف ثانٍ بعد تجمع المسعفين والصحفيين في المكان.

ونبهت الصحيفة إلى أن هذا التكتيك – المعروف بـ”الضربة المزدوجة” – يضاعف عدد الضحايا ويصيب تحديدًا الفئات المحمية بموجب القانون الدولي الإنساني: المدنيين، العاملين في الإنقاذ، والمرضى الذين يتلقون العلاج.

وأكدت الغارديان أنه رغم محاولة جيش الاحتلال تصوير ما جرى على أنه “خطأ مأساوي”، فإن تكرار مثل هذه العمليات يوحي بأنها سياسة متعمدة.

فاستهداف مستشفى عامل، وقتل الصحفيين، وإصابة المصابين مجددًا، كل منها على حدة يمكن أن يُصنَّف كجريمة حرب، فما بالنا حين تجتمع كلها في هجوم واحد.

أصوات غاضبة من الأمم المتحدة

اعتبرت رافينا شامداساني، المتحدثة باسم مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، أن استمرار قتل الصحفيين في غزة “يجب أن يُصدم العالم، لا أن يتركه في صمت مذعور”، مؤكدة أن “الصحفيين ليسوا هدفًا، والمستشفيات ليست هدفًا أيضًا”.

وفي السياق ذاته، شدد مدير منظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبريسوس على أن تكرار قصف المرافق الطبية يفاقم المأساة الإنسانية، قائلاً: “بينما يتضور سكان غزة جوعًا، يزداد تقييد وصولهم إلى الرعاية الصحية بسبب الهجمات المتكررة. أوقفوا الهجمات… أوقفوا إطلاق النار الآن!”.

أما وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي فوصف الحادثة بأنها “مروعة”، فيما ندد رئيس وكالة الأونروا فيليب لازاريني بـ”الصمت المذهل” للمجتمع الدولي، متهمًا الحكومة الإسرائيلية بمحاولة إسكات الأصوات الأخيرة التي توثق موت الأطفال وسط المجاعة.

سياسة الضربات المزدوجة

لم يكن هذا الهجوم استثناءً. فقد كشف تحقيق مشترك أجرته مجلة +972 الإسرائيلية وشبكة لوكال كول في يوليو الماضي أن الجيش الإسرائيلي ينفذ بشكل روتيني هجمات إضافية في مواقع القصف الأولي، مما أدى مرارًا إلى قتل مسعفين ومتطوعين.

وقال مصدر شارك في إحدى غرف تخطيط العمليات العسكرية: “إذا استهدفت الضربة قائدًا كبيرًا، يتم تنفيذ ضربة ثانية لاحقًا لضمان فشل جهود الإنقاذ. المسعفون والمستجيبون الأوائل يُقتلون عمدًا، ثم توجه غارة أخرى فوق رؤوسهم”.

هذه الاستراتيجية وثقت أيضًا في تقارير سابقة، حيث قُتل عشرات من فرق الإنقاذ خلال الأشهر الماضية بعد استهدافهم مباشرة عند وصولهم لمكان القصف الأول.

حرب على الصحافة

تأتي هذه الجريمة في سياق أوسع يتمثل في حرب معلنة على الصحفيين في غزة حيث قتل الاحتلال ما لا يقل عن 225 صحفيا منذ بداية الحرب.

ولم يكن اغتيال مراسل الجزيرة أنس الشريف قبل أسابيع سوى مثال إضافي. فقد زعمت دولة الاحتلال حينها – دون أدلة – أنه عضو في خلية تابعة للمقاومة. لكن لجنة حماية الصحفيين وصفت تلك المزاعم بأنها “ادعاءات لا أساس لها لتبرير عمليات قتل متعمدة”.

وكشفت اللجنة أن المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي كان قد وجّه تهديدات مباشرة للشريف قبل اغتياله، ما دفعها للتحذير علنًا من الخطر الذي يواجهه. وبالفعل، لم يكن الشريف أول صحفي يُستهدف من الجزيرة، إذ قتلت سلطات الاحتلال ستة من صحفييها منذ اندلاع الحرب.

استنتاجات ثقيلة

يرى مسؤولون أمميون أن الهجوم على مستشفى ناصر ليس حادثًا معزولًا، بل جزء من سياسة منظمة هدفها إسكات الشهود على المجاعة والجرائم في غزة. فالصحفيون، الذين وجدوا في المستشفيات ملاذًا مؤقتًا ومصدرًا للكهرباء لمعداتهم، تحولوا إلى أهداف مباشرة.

أما المنظمات الطبية مثل أطباء بلا حدود، فحذرت من أن تدمير المرافق الصحية واغتيال الصحفيين والمسعفين بات نهجًا متعمدًا يضاعف معاناة المدنيين.

وأعرب منسق الطوارئ في غزة جيروم غريمو عن حزنه على استشهاد الصحفية مريم دقة، مؤكدًا أن ما يجري يعكس “محاولة متواصلة لدفن الحقيقة تحت الأنقاض”.

وختمت الغارديان بأن الهجوم على مستشفى ناصر يُظهر بوضوح أن دولة الاحتلال لا تستهدف مواقع عسكرية، بل تستهدف الحق في الحياة والحق في الحقيقة معًا. الضربة المزدوجة لم تقتل المرضى والمسعفين والصحفيين فحسب، بل وجهت رسالة بأن كل شاهد على الجرائم في غزة سيكون بدوره هدفًا مشروعًا.

وبينما يواصل المجتمع الدولي الاكتفاء بالبيانات الدبلوماسية، يبقى السؤال مفتوحًا: متى ستتحول الإدانات إلى مساءلة حقيقية أمام المحاكم الدولية، ومتى سيُكف عن التعامل مع جرائم حرب موثقة باعتبارها “أحداثًا مأساوية”؟.

disqus comments here