الضفة الغربية: مذبحة صامتة.. كيف يُصفّي الاحتلال قضيَّتها تحت غطاء غزة؟

بينما تصرخ غزة تحت ركام القذائف، ويُعاد رسم خريطتها بالدم والدمار، تتسرب مأساة أشد خبثًا، وأكثر هدوءًا، في الضفة الغربية. هناك، حيث تتجه الأنظار نحو سراب الاستقرار المزعوم، تُحاك مؤامرة كبرى: حرب إبادة بصيغة أخرى، لا تُشعلها القنابل، بل تُنفّذها معاول الهدم، وجرافات الاستيطان، ومطرقة الخنق الاقتصادي، لتكون ضربةً قاصمةً للوجود الفلسطيني برمته. إنَّ ما يُقدّم للعالم على أنه “استقرار” أو “هدوء” في الضفة، ليس في حقيقته سوى ستار دخاني مُتعمّد يُخفي وراءه عملية ابتلاع شاملة تتجاوز كل التصورات، وتُجسد الأغراض الحقيقية للاحتلال في قلب الصراع. هذه الأغراض تُبنى على استراتيجيات إسرائيلية ممنهجة تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية بشكل كامل، وتُنفذ الآن بوقاحة غير مسبوقة، مستغلةً حالة الوهن الدولي وتصدّع الضمير العالمي.

وهم “الاستقرار”: معركة الهدم المستعرة وتجسيد لـ”الابتلاع والضم”

إنَّ الحديث عن “هدوء” في الضفة الغربية يُعدُّ مغالطة فادحة وادعاءً باطلًا. فالواقع يفرض تصعيدًا غير مسبوق في سياسة الهدم الممنهج للمنازل والمنشآت الفلسطينية، في تجسيد واضح لاستراتيجية الابتلاع والضم التدريجي (De Facto Annexation). تهدف هذه الاستراتيجية، التي تُعدّ انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف، إلى الاستيلاء الكلي على الأرض وتغيير ديموغرافيتها وجغرافيتها بشكل لا رجعة فيه، بما يُنهي أي إمكانية لإقامة دولة فلسطينية متصلة جغرافيًا. منذ السابع من أكتوبر 2023 وحتى يوليو 2025، تشير تقديرات منظمات حقوقية موثوقة إلى أنَّ الاحتلال قد هدم ما يقرب من 2400 إلى 2500 منشأة فلسطينية في الضفة الغربية والقدس المحتلة. هذا الارتفاع المذهل في وتيرة الهدم، الذي يتجاوز بكثير نظيره في فترات زمنية مماثلة قبل الحرب، هو دليل قاطع على استغلال فاضح للظرف الدولي، وشهادة لا تقبل الجدل على سياسة متعمدة لتهجير العائلات وتحويلها إلى نازحين قسريًا على أرضهم.

السياسة الأكثر خبثًا تتجلى في استخدام ذريعة “عدم الترخيص” لهدم منازل الفلسطينيين، خاصة في المنطقة “ج” والقدس الشرقية. هذه الذريعة ليست إجراءات قانونية، بل هي أداة محورية في استراتيجية الاحتلال لتقليص الوجود الفلسطيني وتهجير السكان الأصليين قسرًا. إنها تُشكل سابقة خطيرة في القانون الدولي، حيث يُحرم السكان الأصليون من حقهم في البناء على أرضهم التاريخية. فكيف يمكن لمواطن فلسطيني أن يحصل على ترخيص للبناء في مناطق يخطط الاحتلال لضمّها أو توسيع مستوطناتها؟ إنها معادلة مستحيلة تُفضي حتمًا إلى هدم المنازل. أما مخيمات اللاجئين في شمال الضفة، كجنين وطولكرم ونور شمس، فقد باتت مسرحًا لتطهير عرقي صامت وممنهج، حيث أُفيدَ عن هدم أكثر من ألف منزل في هذه المخيمات وحدها منذ يناير 2025، لتُلقي بآلاف العائلات في العراء، في ظل عمليات عسكرية لا تتوقف عن تمزيق نسيج الحياة وتغيير جغرافية المكان بشكل لا رجعة فيه، كل ذلك يخدم هدف إرساء الوجود الاستيطاني كأمر واقع مفروض بالقوة، في تحدٍّ صريح للمجتمع الدولي.

الابتلاع الاستيطاني: قفزة نوعية نحو التفتيت والضم الشامل وتأكيد على “الابتلاع والضم”

بالتوازي مع الهدم، تتسارع وتيرة الابتلاع الاستيطاني في الضفة الغربية بشكل لم يسبق له مثيل، مُستغلة حالة التعتيم الإعلامي الدولي وانشغال العالم بدمار غزة. هذا التوسع ليس عشوائيًا؛ إنه مشروع استعماري إجرامي واستراتيجية إسرائيلية مُحكَمة لـتدمير ممنهج لأي أفق سياسي عادل قائم على أساس الدولتين، ولفرض سيطرة كاملة على الأرض تُنهي أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية ذات سيادة. هذه هي صميم استراتيجية الابتلاع والضم التدريجي. ففي عام واحد فقط (أكتوبر 2023 – أكتوبر 2024)، شهدنا إنشاء 43 بؤرة استيطانية جديدةفي الضفة الغربية، معظمها بؤر زراعية ورعوية تمتد لتمزيق أراضينا وتشتيت مجتمعاتنا الرعوية. هذه القفزة الهائلة في إنشاء البؤر، مقارنة بالمتوسط السنوي السابق، تُشير إلى تسارع غير مسبوق في أجندة الاحتلال، ما يؤكد التصميم الإسرائيلي على فرض حقائق على الأرض يتعذر تجاوزها مستقبلاً.

 

ولم يتوقف الأمر عند البؤر؛ فالحكومة الإسرائيلية المتطرفة صادقت على أكثر من 41 ألفًا و709 وحدات سكنية استيطانية في الضفة الغربية منذ توليها السلطة في أواخر 2022 وحتى يوليو 2025. هذا الرقم، الذي يفوق ما صُودِقَ عليه في السنوات الست التي سبقتها مُجتمعةً، يؤكد أنَّ عملية المصادقة لم تتوقف، بل تسارعت بشكل مهول في فترة ما بعد 7 أكتوبر. إنَّ كل بؤرة جديدة، وكل وحدة استيطانية مضافة، وكل طريق استيطاني يُشَقّ، هو طوق خنق حول رقبة الدولة الفلسطينية المنشودة. المستوطنون، بحماية كاملة من جيش الاحتلال، يُمارسون إرهابهم اليومي على القرى والمزارعين والرعاة الفلسطينيين، لترهيبهم وإبعادهم عن أراضيهم، تمهيدًا لضمّها لاحقًا للمستوطنات القائمة. إنها سياسة ممنهجة لـتجزئة الضفة الغربية إلى كانتونات معزولة، تُقتل فيها الحياة، ويُدفن فيها الأمل في أي تواصل جغرافي فلسطيني، وذلك لتحقيق الغاية الاستراتيجية لـالتهام الأراضي الفلسطينية وتغيير ديموغرافيتها وجغرافيتها قسريًا لا رجعة فيه، ما يدفع نحو إقامة نظام فصل عنصري غير قابل للحياة.

الخنق الاقتصادي: تدمير سبل العيش بدم بارد وتجسيد لـ”العقاب الجماعي”

إنَّ “الهدوء” المزعوم في الضفة الغربية يُخفي وراءه كارثة اقتصادية لا تقل فتكًا عن قذائف غزة. إنها حرب اقتصادية إبادة تُشنّ بِدمٍ باردٍ، تتجلى غايتها في تجويع المجتمع الفلسطيني وإفقاره لكسر صموده ودفعه نحو اليأس. هذه هي استراتيجية الخنق الاقتصادي والعقاب الجماعي (Economic Strangulation & Collective Punishment)، التي تُصنّف كـجريمة حرب بموجب القانون الدولي. فبقرار تعسفي يُشكل عقابًا جماعيًا صريحًا، حُرم ما يقرب من 160 ألف عامل فلسطيني من الضفة من مصدر رزقهم في إسرائيل والمستوطنات منذ السابع من أكتوبر 2023. هؤلاء العمال، الذين كانوا يُعيلونَ آلاف العائلات ويُساهمون بثلاثة مليارات دولار سنويًا في الاقتصاد الفلسطيني، باتوا اليوم جزءًا من طوابير البطالة، التي قفزت من حوالي 13% قبل الحرب إلى نحو 31% على مستوى الضفة، لتلامس في بعض المحافظات مثل جنين نسبة الـ60%. إنها ليست مجرد أرقام، بل هي ملايين الأرواح التي تُدفع نحو الجوع والفقر المدقع، وكرامة تُنتهك كل لحظة.

الأثر الاقتصادي يتجاوز حدود فقدان الوظائف ليشمل الاقتصاد الفلسطيني بأكمله. فقد انكمش الناتج المحلي الإجمالي للضفة الغربية بنسبة 22% في الربع الأخير من 2023 وحده، وخسر اقتصادها ما يقرب من 30% من طاقته الإنتاجية. أما قطاع السياحة، الذي كان يمثل شريان حياة لآلاف الأسر في مدن مثل بيت لحم وأريحا والقدس، فقد تكبّد خسائر فاقت المليار دولار منذ بداية العدوان وحتى نهاية عام 2024، وتراجع عدد العاملين فيه بنحو 40%. الفنادق باتت خاوية، والمطاعم والمحلات تُغلق أبوابها، وشريان حياة كامل يلفظ أنفاسه الأخيرة في احتضار اقتصادي مخطط له. هذا الانهيار الاقتصادي، الذي تفاقم بسبب استمرار الاحتلال في حجب أموال المقاصة وسرقة أموال الشعب الفلسطيني وتضييق الخناق على حركة التجارة، يُلقي بظلاله القاتمة على كافة مناحي الحياة، ويزيد من حدة الأزمة الإنسانية، ويدفع المواطن الفلسطيني إلى حافة الهاوية. الهدف الأسمى هنا هو هندسة الفقر لتجويع المجتمع، وزيادة اعتماده على الاحتلال، ودفعه إلى اليأس، بما يُفضي إلى تقويض صموده ودفعه نحو الهجرة القسرية، في محاولة لفرض معادلة البقاء مقابل التنازل عن الحقوق.

الضفة تختنق: تضييق يومي يقتل الروح والأمل ويعكس “تفتيت الوجود والضغط النفسي”

لا تكتفي آلة الاحتلال بالهدم والابتلاع والخنق الاقتصادي؛ بل تُمارس تضييقًا يوميًا يُصيب الروح بالشلل ويُنهي بصيص الأمل في كل تفاصيل حياة الفلسطينيين، بهدف كسر روح الصمود وإحكام القبضة على كافة مناحي الحياة. هذا يخدم استراتيجية تفتيت الوجود والضغط النفسي (Fragmentation & Psychological Erosion). فالحواجز العسكرية، التي تضاعفت أعدادها بشكل غير مسبوق، وأغلقت طرقًا حيوية، قد حوّلت الضفة إلى سجون مفتوحة. تُقطّع أوصال المدن والقرى، وتُعاق حركة الأفراد والبضائع، مما يُعيق أبسط مقومات الحياة الكريمة. كما تصاعدت وتيرة حملات الاعتقال الجماعية الممنهجة والاقتحامات الليلية لمنازل الفلسطينيين ومخيماتهم، لتصبح الضفة الغربية ساحة لعمليات عسكرية مستمرة تهدف إلى كسر الإرادة، ونزع الأمل، وإخضاع الشعب لواقع لا يُطاق.

هذا التضييق المنهجي يُخلّف صدمة جماعية متواصلة وجروحًا نفسية عميقة لا تُرى بالعين المجردة، ويُفكّك النسيج الاجتماعي للمجتمع الفلسطيني. الخوف الدائم، والقلق على المستقبل المجهول، واليأس من أي حل سياسي عادل، باتا عنوانًا للحياة اليومية في الضفة. أطفالنا وشبابنا يدفعون ثمن هذا القمع الممنهج نفسيًا واجتماعيًا، في ظل رد فعل دولي ضعيف جدًا وغير فعال، يعكس أولويات دولية مشوهة، ويُفقد الثقة بأي عدالة عالمية أو التزام إنساني. إنها حرب نفسية لا تتوقف، تُغذّيها وتُبرّرها أجواء الحرب الكبرى على غزة، وتُرهق الروح الفلسطينية في محاولة لإطفاء شعلة الصمود، وذلك لتحقيق الغاية الأسمى لـتدمير الروح الوطنية للشعب الفلسطيني، وتفكيك نسيجه الاجتماعي، وخلق شعور دائم باليأس والإحباط، بما يُقوّض إرادة المقاومة والصمود، ويدفع نحو قبول الأمر الواقع كحل وحيد.

فلسطين: استشراف مستقبل على صفيح ساخن… هل تُصفّى القضية أم يندلع الانفجار؟

إنَّ ما يحدث في الضفة الغربية ليس صدى بعيدًا لحرب غزة، بل هو قلب استراتيجية التصفية الكبرى التي يتخفى الاحتلال وراء دخان القنابل ليُنجزها بصمت مُريب. هذه السياسات، التي تدعمها استجابة دولية خجولة لا ترقى لمستوى التحدي، وتُظهر عجزًا أو ربما تواطؤًا ضمنيًا، تدفع المنطقة حتمًا نحو خيارين قاسيين، لا ثالث لهما، يُلقيان بظلالهما على مستقبل المنطقة بأسرها:

أولًا: انفجار شامل لا يمكن التنبؤ به: إنَّ استمرار هذا القمع الممنهج، وتدمير سبل العيش، وابتلاع الأرض، وخنق الحياة، سيقود حتمًا إلى تصعيد واسع النطاق تتضاءل القدرة على احتوائه. سيُشعل هذا الواقع ثورة وجود لا مفر منها بأشكال قد تكون أكثر يأسًا واندفاعًا، فالشعب الذي يُحاصر ويُقمع ويُسرَق مستقبله لن يقف مكتوف الأيدي، بل سيتفجر غضبًا في وجه الظلم. هذا الوضع لا يمكن أن يدوم، وعواقبه ستتجاوز حدود فلسطين لتزعزع استقرار المنطقة بأسرها، مما يهدد الأمن الإقليمي والدولي بأكمله.

 

ثانيًا: تصفية فعلية للقضية الفلسطينية: إذا استمر التردد الدولي المريب، وتمكن الاحتلال من فرض واقعه الجديد على الأرض في الضفة الغربية عبر سياسات الضم الممنهج والتهجير الصامت، فإنَّ ذلك سيقضي على أي أمل في حل سياسي عادل قائم على الدولتين، وينهي إمكانية قيام دولة فلسطينية ذات سيادة، مما يعني اغتيالًا كاملًا للقضية الفلسطينية وحرمان شعب من حقه في الوجود والسيادة على أرضه. حينها، لن يتبقَّى سوى واقع نظام الفصل العنصري (الأبارتهايد) المعزز الذي سيعيش تحت تهديد الانفجار الدائم، وستُصبح القضية الفلسطينية ملفًا تاريخيًا مفتوحًا، بلا حل، بلا أفق، وبلا عدالة، مما يضع مبادئ العدالة الدولية وحقوق الإنسان على المحك.

إنَّ الضفة الغربية ليست صامتة، بل تصرخ من تحت ركام سياسات التصفية.

حربها الخفية تدق ناقوس الخطر، وتستدعي يقظة عالمية حقيقية تتجاوز بيانات الإدانة الشكلية إلى تحرك فعال ومُلزم يضع حدًا لهذا العدوان الشامل. إن مسؤولية العالم تكمن في كسر حاجز الصمت والتخاذل؛ فالتصدي لهذا التدمير الممنهج ليس مجرد واجب أخلاقي، بل هو ضرورة سياسية لمنع انفجار إقليمي شامل، ولإعادة الاعتبار لمبادئ العدل والسيادة قبل أن يُدفن الأمل الأخير في حل عادل وشامل. على المجتمع الدولي أن يدرك أن صمت اليوم هو ثمن باهظ سيدفع غداً، وأن أمنه واستقراره لا يمكن فصلهما عن حقوق الشعب الفلسطيني.

disqus comments here