اختفاء قسري وتعذيب.. شهادات صادمة عن مطاردة الاحتلال للطواقم الطبية بغزة

تعكس تجربة الفلسطينيين العاملين في المجال الطبي في غزة منذ بدء حرب الإبادة الإسرائيلية في أكتوبر/تشرين الأول 2023 مأساة إنسانية غير مسبوقة، تكشف الانتهاكات الممنهجة التي يتعرضون لها من سلطات الاحتلال الإسرائيلي.

وأبرز موقع “ذا إنترسبت” الأمريكي أنه بينما كانت عائلاتهم تتوقع لحظات فرح بعودة أحبائهم، مثلما حدث مع أنيس الأسطل، مدير خدمات الإسعاف في جنوب غزة، صدمتهم الحقيقة المريرة، حيث لا يزال العديد من هؤلاء المختفين قسريًا رهن الاحتجاز دون تهمة أو محاكمة، وسط غموض كامل يحيط بمصيرهم.

وفي ليلة الثاني عشر من أكتوبر/تشرين الأول، شعرت مها وافي بسعادة مؤقتة، إذ اعتقدت أن زوجها أنيس الأسطل سيُفرج عنه ضمن صفقة إطلاق سراح شملت آلاف الفلسطينيين بعد اتفاق وقف إطلاق النار.

وقد كانت الأسرة تخطط لاستقباله، وتحضير الطعام وشراء الملابس، بعد أكثر من عامين من الحرمان والقلق.

لكن عند الإعلان عن الإفراج عن المعتقلين في اليوم التالي، جاء الاتصال المروّع من زملائه: لم يكن الأسطل موجودًا، وبدلاً من ذلك بقي مختفيًا في سجون الاحتلال، ليترك الأسرة في حالة صدمة وحزن عميق.

اعتقال مئات الأطباء والممرضين

وفقًا لمنظمة “مراقبة العاملين في مجال الرعاية الصحية”، فإن أكثر من 400 عامل طبي فلسطيني اعتقلوا منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، بينهم 95 طبيبًا وعاملًا صحيًا من غزة، 80 منهم لا يزالون محتجزين دون تهمة.

من بينهم الدكتور حسام أبو صفية، مدير مستشفى كمال عدوان، الذي اعتقل بعد هجوم وحشي على المستشفى في ديسمبر/كانون الأول 2024.

وتؤكد المنظمة أن معظم هؤلاء المعتقلين أُخذوا أثناء محاولتهم إنقاذ المرضى، بما في ذلك من سيارات الإسعاف والمستشفيات، رغم أن القانون الإنساني الدولي يمنحهم حماية خاصة كعاملين في المجال الطبي.

ويحتجز الفلسطينيون في إطار “قانون احتجاز المقاتلين غير الشرعيين” الإسرائيلي، الذي يسمح بالاحتجاز دون تهمة ولأجل غير محدد، مع تقييد حقهم في التمثيل القانوني لفترات طويلة. وقد اعتبرت منظمة العفو الدولية أن القانون يُستخدم بشكل تعسفي لاحتجاز المدنيين الفلسطينيين.

ومن جراء ذلك، تعيش العائلات في حالة من القلق المستمر، غير قادرة على الحصول على معلومات مؤكدة عن أحبائها، كما هو الحال مع وافي وأطفالها الذين لم يعرفوا مصير الأسطل طوال فترة الاعتقال.

ظروف احتجاز قاسية

عانى المعتقلون الذين أفرج عنهم لاحقًا من ظروف احتجاز قاسية، تشمل التعذيب الجسدي والنفسي، الحرمان من الرعاية الطبية، والمعاملة المهينة.

على سبيل المثال، أفاد الدكتور أحمد مهنا، المدير السابق لمستشفى العودة، أنه فقد نحو 30 كيلوغرامًا خلال 22 شهرًا من الاحتجاز في سجون سدي تيمان وكتسيعوت، حيث تعرض للاحتجاز في غرف ضيقة، والحرمان من الاستحمام، والعزل، وضرب المعتقلين، بالإضافة إلى المعاملة المهينة والتحقير المستمر.

كما أشار إلى استشهاد عدة معتقلين بسبب الإهمال الطبي وسوء الرعاية، رغم إمكانية علاجهم بسهولة لو أُتيحت لهم الرعاية المناسبة.

وتمس الانتهاكات الإسرائيلية أيضًا الحياة العملية والطبية في غزة. فقد أدت الاعتقالات المستمرة لمئات العاملين في المجال الطبي إلى نقص حاد في الأطباء والممرضين، مما يزيد العبء على نظام الرعاية الصحية المتدهور، خصوصًا بعد الهجمات المتكررة على المستشفيات والمراكز الطبية، والتي وصفتها الأمم المتحدة بأنها تدمير متعمد للبنية التحتية الصحية.

وتبرز تجربة عائلة الأسطل ومثلها عائلات عديدة أخرى التأثير النفسي العميق للاختفاء القسري، حيث يعيش الأطفال والزوجات حالة من الفراغ المروع، وعدم القدرة على الشعور بالفرحة أو الأمان.

تقول وافي: “فرحة ناقصة، مُحطّمة بطريقة غير واقعية. بعض الأشياء لا تُعبّر عنها الكلمات”. هذا الواقع يعكس قسوة الاحتجاز التعسفي وأثره على النسيج الاجتماعي في غزة، حيث يصبح فقدان الدعم الأسري والقدرة على التواصل مع أحبائهم جزءًا من معاناة الحياة اليومية.

ويُظهر الواقع المأساوي في غزة أن انتهاكات الاحتلال لا تتوقف عند الدمار المادي أو القصف المباشر، بل تمتد لتشمل الحقوق الإنسانية الأساسية، وتهدف إلى خلق حالة من الخوف والعزلة بين السكان.

فالاعتقالات التعسفية للعاملين في المجال الطبي، والإخفاء القسري، وسوء المعاملة داخل السجون، بالإضافة إلى الحملات الإعلامية المضادة، كلها أدوات منسقة لإضعاف المجتمع الفلسطيني، وتدمير مؤسساته الصحية والاجتماعية، وحرمان السكان من الدعم الطبي والإنساني الحيوي.

ويبقى العاملون الطبيون، مثل أنيس الأسطل وأحمد مهنا، رمزًا للصمود والالتزام الإنساني، رغم المعاناة الجسدية والنفسية. إن الإفراج عنهم واستعادة حقوقهم الإنسانية الأساسية يمثل تحديًا دوليًا ملحًا، ويجب أن يصاحبه مساءلة واضحة للاحتلال الإسرائيلي وفق القوانين الدولية، لضمان حماية العاملين الطبيين والحد من الانتهاكات التي تهدد حياة المدنيين في غزة بشكل مباشر.

disqus comments here