أجنّة غزة تحاصرها المجاعة قبل الحياة

في غزة، لا يحتاج الأطفال إلى الطعام فحسب، بل إلى فرصة عادلة لبدء الحياة؛ إلى رحم يجد ما يغذّيه، إلى حضن لا يخشاه، إلى صرخة لا يُطفئها الجوع، وإلى مستقبل لا يبدأ بالضعف والانهيار. في القطاع المحاصر، لا يحلم الأطفال بلعبة أو حقيبة مدرسية، بل بحياة تبدأ… فقط تبدأ.
لا يعيش الغزيون حربًا واحدة، بل حروبًا متداخلة، والصواريخ ليست وحدها من تهدد وجودهم، فالجوع بات سلاحًا موازيًا في الفتك، لكنه بلا صوت، بلا دوي؛ سلاح صامت يستخدمه الاحتلال في حربه الجماعية ضد سكان غزة، لا يهدد الأحياء فحسب، بل يزحف بصمت نحو الأجنة في بطون أمهاتهم، يخوضون معركة غير مرئية من أجل البقاء، وسط نظام طبي يلفظ أنفاسه الأخيرة، وانهيار كامل لمقومات الحياة، في كارثة إنسانية وصحية غير مسبوقة.
يسلّط هذا التقرير الضوء على جانب خفيّ من الإبادة الجماعية في غزة: حرب التجويع، وآثارها على الأمهات الحوامل والأجنة، في ظل نقص حاد في الغذاء، وانعدام الرعاية الصحية، وغياب أي أفق للحياة الكريمة.
"حملتُ رغمًا عني… والجوع يطارد جنيني"
لمياء (24 عامًا)، واحدة من آلاف النساء في غزة اللواتي فُرض عليهن الحمل في أحلك ظروف الحرب. تزوجت بعد أشهر من اندلاع العدوان، ومع طول أمده، قررت استخدام حبوب منع الحمل خشية أن تُنجب في ظل القصف والتجويع وانعدام الاستقرار. وشاء الله أن تُرزق بحمل لم تخطط له. تقول لمياء لـ"الترا فلسطين": "حملت وأنا بالكاد آكل، لا يوجد خضار، ولا فواكه، وحتى الماء النظيف بشق الأنفس".
ورغم حرصها على ما تبقى لها من صحة، تحاول لمياء قدر استطاعتها أن تؤمّن الحد الأدنى من التغذية، لكنها تؤكد أن القلق لا يفارقها: "أنا مش قادرة أتخيل لحظة الولادة، مش بس لأني نازحة، بس لأني مش عارفة إذا راح أقدر أولد بأمان أو إذا ابني راح يكون بخير".
قصة لمياء تجسد مأساة آلاف الحوامل في غزة، اللواتي يُحمّلن فوق أجسادهن المنهكة أعباء لا تُحتمل، ويكافحن لأجل أطفال لم يُولدوا بعد، في ظروف تنعدم فيها أبسط شروط الحياة.
"حتى الفرح تحوّل إلى كابوس"
في مخيم نزوح جديد أقامه الناس في وسط قطاع غزة، بعد موجة أوامر إخلاء شملت بيت لاهيا والمناطق الحدودية، كانت منى (37 عامًا) تحاول التأقلم مع مكانها الجديد، في خيمة مهترئة أعدتها بعد نزوحها الثالث منذ بدء الحرب.
تزوجت منى منذ سبع سنوات، وخاضت خلالها عدة محاولات زراعة أطفال أنابيب باءت جميعها بالفشل. وبينما كانت تشعر بدوار داخل الخيمة في أحد أيام الصيف اللاهب، ظنّت أنه الإرهاق أو نقص الطعام، لكنها سرعان ما فقدت وعيها، ليتبين لاحقًا، بعد إجراء التحاليل في مشفى ميداني، أنها أخيرًا حامل.
تقول منى بصوت متهدّج: "لست قادرة على وصف شعوري… منذ 7 سنوات وأنا أحلم أن أكون أمًا، وكل محاولة كانت تكسرني، وعندما رزقني الله بالحمل أخيرًا، كان قلبي يتأرجح بين الفرح والخوف".
وتشير منى إلى خيمتها الصغيرة وتهمس: "ابني الجاي — إذا وصل — راح يعيش في الخيمة وتحت القصف. حتى الفرح الغالي صار كابوس".
قصة منى تشهد على حجم الألم الذي تحياه النساء الحوامل في غزة؛ إذ لا يكفي أن يتحدين القصف والنزوح، بل أن يُنجبن حياة جديدة في قلب الموت.
"استُشهد أطفالي أمام عينيّ… وحملي الجديد محاولة للحياة"
لم تكن أريج (33 عامًا) تفكر في الإنجاب مجددًا. كانت حياتها مكتملة بابنتها آية (6 سنوات) وطفلها عمر (4 سنوات)، وزوجها الذي كانت تراه سندها في رحلة النزوح والهروب من الموت. لكن كل شيء تغيّر في لحظة.
تروي أريج قصتها بصوت خافت، وقد خنقها البكاء: "هربنا من بيتنا تحت القصف، لجأنا للجنوب كما طلب جيش الاحتلال وقالوا إنه آمن. لكنهم كذبوا… صاروخ غادر قتل آية وعمر أمام عينيّ، وأنا عاجزة حتى عن حمايتهم. وزوجي أصيب بجروح متوسطة… لكن الجرح الحقيقي يكمن داخلنا".
في أعقاب الفاجعة، شاء الله أن تُفاجأ بخبر حملها الجديد. تقول: "ما توقعت أحمل، بس لما عرفت حسيت إنه يمكن الله بده يعوضنا، يعطينا فرصة جديدة. بس الخوف ما بفارقني… بخاف أفقده زي ما فقدت آية وعمر".
اقرأ أيضًا: أطفال غزة وأزمة النظافة الشخصية.. آثار عميقة نفسيًَا وصحيًا وتربويًا
أريج تعاني من فقر دم حاد، وتحتاج إلى مكملات الحديد والفيتامينات للحفاظ على صحة حملها، وهي أدوية باهظة الثمن في ظل الحرب. زوجها، رغم إصابته وعدم توفر دخل، يشتري لها الحديد من السوق السوداء "ولو اضطر أن يبيع ما تبقى من حاجياته"، كما تقول.
وتضيف أريج: "الحمل مش بس فرحة… هو مسؤولية وخوف في نفس الوقت. بس إحنا ما بنحب نستسلم. بدنا نعيش، ونكمل الحياة، عشان أرواح ولادنا، وعشان ابننا الجاي".
بينما تجلس أمل (28 عامًا) في خيمة ضيقة وسط أحد مراكز الإيواء في دير البلح، تمسك بطنها الذي يبدو أصغر من عمر الحمل، وتقول: "من يوم ما تهدم بيتنا، ما أكلت وجبة محترمة. الرغيف بنقسم على ستة، والخضار حلم، والحديد والفوليك نسيت شكلهم… بحس الجنين ما بتحرك، خايفة يكون ضعيف أو مريض".
بين الخوف وسوء التغذية وانعدام الرعاية الصحية، يخوض الأجنة في أرحام أمهاتهم معركتهم الأولى قبل أن تُكتب لهم الحياة. تصارع الأمهات بصمت، ويُرددن بصوت خافت: "إحنا ما بنموت لحالنا… الجنين بيموت معانا من الجوع".
55 ألف امرأة حامل… بلا غذاء ولا رعاية
وفي ظل هذا الواقع، يؤكد الدكتور منير البرش، مدير عام في وزارة الصحة الفلسطينية، أن النساء الحوامل وأجنتهن يعيشون خطرًا يوميًا حقيقيًا يهدد حياتهم قبل الولادة، مشددًا على أن ما يحدث يمثل جريمة صحية صامتة بحق فئة بالغة الهشاشة.
ويشير د. البرش إلى أن القطاع يضم أكثر من 55 ألف امرأة حامل، جميعهن تقريبًا يعانين من نقص حاد في المكملات الغذائية الضرورية، مثل الحديد والكالسيوم وحمض الفوليك، إلى جانب غياب التغذية المتوازنة.
ويضيف: "فقر الدم الحاد بات سمة عامة لدى معظم الحوامل، وهو ما يؤدي إلى إنهاك أجسادهن، ويعرضهن للنزيف الخطير أثناء الولادة. كما أن نقص حمض الفوليك يهدد الأجنة بتشوهات خلقية خطيرة، خاصة في الجهاز العصبي".
ويحذر من أن الأجنة في غزة يُولدون من أرحام خاوية، محاصرين بالجوع والقلق ونقص الرعاية، في بيئة لا تمنحهم حتى فرصة سليمة للبدء.
ويلفت إلى أن الحرب لم تدمّر فقط المستشفيات والمرافق الطبية، بل شتّتت النساء الحوامل في مراكز الإيواء والمخيمات والبيوت غير المؤهلة صحيًا. ويوجه صرخة إنسانية للمجتمع الدولي ومؤسسات الصحة والإغاثة قائلاً: "أنقذوا أرحام غزة قبل أن تصبح قبورًا"، مطالبًا بتحرك فوري لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من خلال إدخال مكملات الحديد وحمض الفوليك بشكل عاجل، واستئناف برامج رعاية الحوامل والأمهات.
مجاعة صامتة تفتك بالأمهات وأجنّتهن
الدكتور عيادة أبو حصيرة، أخصائي نساء وتوليد في غزة، يؤكد أن "تأثير المجاعة على الحوامل وأجنّتهن كارثي بكل المقاييس"، موضحًا أن المجاعة ترفع بشكل كبير من خطر الإجهاض والولادة المبكرة، وتفاقم من مضاعفات الحمل مثل تسمم الحمل والنزيف، وفي بعض الحالات قد تقود إلى وفاة الأم.
ويبين: "نواجه يوميًا حالات ولادة لأجنة تقل أوزانهم عن 1.5 كغ، بعضهم يحتاج إلى حضانات غير متوفرة أصلًا. الأمهات يصلن إلينا بإعياء شديد، وغالبًا "دون أن يكنّ قد أجرينَ أي فحوصاتٍ دورية أو تلقَّينَ مكملات الحديد وحمض الفوليك.المستشفيات بالكاد تعمل، وكل ولادة أصبحت معركة مع المجهول".
ويشرح أبو حصيرة أن غياب العناصر الغذائية الأساسية لا يعني فقط نقص السعرات الحرارية، بل انعدام المواد الحيوية اللازمة لبناء الجهاز العصبي والدماغي لدى الجنين، ما يهدّد جيلًا كاملًا بالإعاقات أو التأخر التنموي طويل الأمد.
ويؤكد أن تأثير الحرب يتجاوز الغذاء والدواء؛ إذ تتعرض بعض النساء الحوامل للقصف المباشر في منازلهن أو في خيام النزوح، بينما تُصاب أخريات بالاختناق نتيجة استنشاق البارود والغازات، ما يؤدي إلى التهابات خطيرة في ظل غياب الأدوية والمضادات الحيوية. وتزداد الخطورة بعد الولادة، خصوصًا في العمليات القيصرية التي قد تنتهي بمضاعفات خطيرة أو وفاة.
ويضيف: "نسبة دخول النساء الحوامل إلى العناية المركزة تضاعفت منذ بداية الحرب، وارتفعت معها معدلات وفيات الأمهات. كما أن نقص الغذاء أدى إلى تجفيف حليب الأم وندرته، ما يؤثر مباشرة على حياة الطفل بعد الولادة".
ويختتم الدكتور عيادة أبو حصيرة حديثه بنداء إنساني عاجل: "دون تدخل فوري يشمل توفير الغذاء، واستئناف برامج الرعاية الصحية، ودعم الحوامل والأطفال غذائيًا، فنحن لا نواجه فقط أزمة صحية، بل انهيارًا بطيئًا لجيلٍ بأكمله يُولد من أرحام خاوية في زمن الموت والجوع".