حارة جابر في الخليل.. حياة يومية تحت وطأة نظام معقد من الأوامر الإسرائيلية

تقرير مالك نبيل

 يعيش سكّان حارة جابر في مدينة الخليل، جنوب الضفة الغربية تحت وطأة نظام معقد من الأوامر الإسرائيلية، إذ يحتاجون إلى تنسيق مع الإدارة المدنية التابعة للاحتلال  للخروج من بوابات منازلهم، ثمّ آخر للانتقال نحو أرجاء المدينة، وثالث للعودة إلى منازلهم في ساعات محدّدة، ورابع للدخول إلى بيوتهم من جديد.

ما يجري في الحارة يعدّ أمراً غير مسبوق في سياق الحصار المفروض على الفلسطينيين في الضفة الغربية، لكنه يصبح أكثر قساوة حين يرتبط أمر التنسيق بخروج المرضى والشيوخ والأطفال والنساء، ويزيد قتامة حين يُرفض ويحلّ مكانه تنسيق بين المستوطنين وعناصر جيش الاحتلال لتأمين الغطاء لاعتداءاتهم على منازل السكّان.

إزاء هذا الواقع يعيش سكّان حارة جابر في دوّامة يومية من القلق. يقول عبد الحليم إدريس، أحد سكّان الحارة، لـ”العربي الجديد”، إن “ضيق العيش يلازمهم منذ عام 1994، لكنه بات أكثر قسوة خلال العامين الماضيين”. ويتحدث في هذا الصدد عن حالة شقيقته البالغة من العمر 37 عاماً، التي تعاني من مرض مزمن يُعرف بـ”داء الفيل”، حيث تزداد السوائل في جسدها بشكل مفاجئ، ما يرفع وزنها أحياناً إلى أكثر من 200 كيلوغرام، ويتطلب زيارة المستشفى أسبوعياً لمدة يوم أو يومين، غير أنّ هذا العلاج بات خاضعاً لإجراءات قسرية يفرضها الاحتلال، حيث يتوقف خروجها من المنزل أو دخولها إلى المستشفى على موافقة ضابطٍ واحد، وهذا الواقع يصفه إدريس بمرارة بأنه “تحت رحمة ضابط الاحتلال”.

ومع كل محاولة لنقلها إلى المستشفى، تبدأ رحلة التنسيق الطويل التي كثيراً ما تنتهي بتأخير خطير. ففي المرة الأخيرة قبل أسبوعين، تأخر الاحتلال في الردّ على طلب الخروج، الأمر الذي أدى إلى إصابتها بجلطة خلال فترة انتظارها. ويواجه أفراد العائلة صعوبة في إدخال الإسعاف إلى الحارة التي أُغلقت أبواب منازلها باللحام الحديدي بعد الحرب على غزة، ما يجبرهم على تسلّق جدران بيوت الجيران والخروج من أمام مداخلها، وفقاً لتوضيحات إدريس.

يزداد المشهد قسوة أيام الجمعة والسبت، إذ تتوقف استجابات الاحتلال بدعوى “العطلة”، ما يجعل الحالات الطبية الطارئة رهن انتظار طويل حتى يوم الأحد. وفي كثير من الأحيان يمضي اليوم بكامله في محاولات إدخال مركبة إسعاف وإخراج المريضة. يقول إدريس: “إن التنسيق يخضع لسلسلة من الاتصالات تبدأ بالإسعاف واللجنة الدولية للصليب الأحمر، ثم الارتباط الفلسطيني، وصولاً إلى الإدارة المدنية الإسرائيلية، لكن التسويف يصبح جزءاً ثابتاً من المشهد، حيث يأتي رد الاحتلال: الضابط في اجتماع، الضابط غير موجود، الضابط مشغول…”.

ويقول إدريس: “إنّ الحاجيات الأساسية باتت شبه مفقودة من المنزل، والظروف الاقتصادية تزداد صعوبة. الموت صار رحمة”. ويوضح أن العائلة لم تتلق خلال العامين الماضيين من الجهات الرسمية سوى طردين غذائيين ومبلغ 130 دولاراً فقط، اضطرت لاستلامها من خارج الحارة. أما المؤسسات الحقوقية فقد قدم بعضها القليل من الأدوية التي لا تكفي أكثر من عشرة أيام لعلاج شقيقته.

وبالرغم من كثرة الشعارات التي يسمعونها من مؤسسات وجمعيات، بعنوان “دعم صمود المواطن (…) أنتم حائط الصد”، يبقى حضور هذه الجهات شكلياً، إذ تزورهم مرة واحدة من حين لآخر، بما في ذلك المؤسسات الرسمية الفلسطينية. و”لا يكاد الدعم الذي يصل السكّان في حارة جابر يُذكَر أمام حجم الاحتياجات الكبيرة، سواءً من الجهات الرسمية كالحكومة والمحافظة، أو من المؤسسات المختلفة”، وفق ما يقول عارف جابر، أحد سكّان حارة جابر والناشط في تجمّع المدافعين عن حقوق الإنسان.

ويشير جابر في حديث مع “العربي الجديد” إلى أنّ الحارة تضمّ نحو 140 عائلة تعيش داخل 70 بناية، أُغلِق معظمها باللحام الحديدي، ما يجبر السكان على تسلّق الجدران والخروج عبر منازل الجيران. ويقع حيّ حارة جابر بين حارة السلايمة جنوباً وواد الحصين شمالاً، وهي مناطق مغلقة منذ عام 2000.

يوضح أنّ الحارة كانت تمرّ عبرها طرق رئيسية؛ أبرزها شارع عثمان بن عفّان الذي كان يربط شمال الخليل بجنوبها وصولاً إلى الحرم الإبراهيمي، إلى جانب شارع بني نعيم الذي كان يصل القرى الشرقية بالمدينة. ويؤكد جابر أن الشارعين ما زالا مغلقين أمام الفلسطينيين منذ أكثر من عشرين عاماً، فيما يستخدمهما المستوطنون للربط بين مستوطنة “كريات أربع” والبؤر الاستيطانية المحيطة بالحرم، ولا سيما خلال أعيادهم اليهودية.

 

ويشرح جابر أنّ الحارة محاصَرة اليوم بحاجز 160 الذي “يفتح ويغلق على مزاج الجنود”، ويقع جنوب الحيّ، ونتيجة ذلك يضطرّ السكان للمرور عبر الحارة الشمالية، “حارة الجعبري”، والعبور بين منازل الأهالي للوصول إلى خارج البلدة القديمة. ويؤكّد جابر أنّ الخليل، وحارة جابر تحديداً، تحولت إلى ساحة دعائية للمستوطنين المتطرفين في الحكومة الإسرائيلية، إذ يكاد لا يمرّ أسبوع -كما يذكر- من دون أن يقتحم وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، الحرم الإبراهيمي، بعد مروره سيراً على الأقدام من داخل الحارة وسط حماية مشددة.

وتخضع المنطقة لرقابة أمنية كثيفة، إذ تنتشر نقطة عسكرية في وسط الحارة بين المنازل، وأخرى في الجهة الشمالية قرب معسكر واد الحصين، إلى جانب نحو 20 كاميرا حديثة تتحرّك مع حركة المارّة، على مدار الساعة، إضافة إلى دوريات ثابتة لجنود المشاة والمركبات.

أما الحركة والتنقّل، فيوضح جابر أنّها “ممنوعة تماماً” في يومي الجمعة والسبت وأيام الأعياد اليهودية، كما يجري الإغلاق في أي يوم تعتبره سلطات الاحتلال ذا طابع “أمني”، وبعد الساعة الثامنة مساءً تصبح الحركة شبه مستحيلة في الحارة.

ويصف جابر الوضع الاقتصادي لأهالي الحارة بأنّه “منهار”، إذ خسر أكثر من 80% من السكان مصدر رزقهم بعد الحرب على غزة، بعدما كانوا يعتمدون على العمل في الداخل المحتل. أما البقية فكانوا يعملون داخل الخليل، لكن جزءاً منهم فقد عمله نتيجة الأزمة الاقتصادية، والجزء الآخر بسبب قيود الحركة التي تمنع وصولهم المنتظم إلى أعمالهم.

ويلفت جابر إلى أنّ من يتمكّن من الحفاظ على عمله يضطر غالباً للمبيت خارج المنزل يومي الجمعة والسبت، خوفاً من منعه من الدخول. ويؤكد أنّ محاولات الاستيلاء على المنازل في حارة جابر لا تتوقف، إذ تُعرَض على الأهالي مبالغ مالية كبيرة لشراء العقارات، في ظلّ ضائقة اقتصادية خانقة يعيشها السكان. ويختم جابر: “الاحتلال يصنع حالة العوَز، يحاصر الناس ويضيّق عليهم، ثم يعرض عليهم المال لتسليم بيوتهم، في ظل غياب أي حماية فلسطينية في المنطقة”.

disqus comments here