غزة بين العدوان والفيتو الأمريكي: أزمة كيان تبحث عن مخرج...!

لم يعد العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة مجرد جولة عسكرية عابرة، بل بات حرب إبادة ممنهجة تستهدف الشعب الفلسطيني بأكمله، أرضاً وإنساناً وذاكرةً.
إنّ وحشية القصف والتجويع والتهجير، وما خلّفته من آلاف الشهداء والجرحى والمشردين، لم تعد تحتاج إلى برهان لتوصيفها كجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
غير أنّ الأخطر في المشهد، هو الغطاء السياسي والدبلوماسي الذي تحظى به إسرائيل، وعلى رأسه الموقف الأمريكي الذي يوفّر لها الحماية من أي مساءلة أو ضغط دولي.
لقد شهد مجلس الأمن بالأمس / الخميس 18/9/2025مثالاً صارخاً على ذلك، حينما صوّت 14 عضواً لصالح مشروع قرار يدعو إلى وقف إطلاق النار الفوري في غزة، لتفشل الإرادة الدولية بسبب الفيتو الأمريكي الذي أسقط القرار منفرداً.
هذا الموقف لم يكن سوى ضوءٍ أخضر جديد لإسرائيل كي تواصل جرائمها بلا رادع، ورسالة واضحة بأنّ واشنطن ماضية في سياستها المنحازة بشكل مطلق للكيان الصهيوني، حتى لو كان الثمن مزيداً من الدماء الفلسطينية وتفاقم الأوضاع في المنطقة برمتها.
إنّ الفيتو الأمريكي يضاعف الغضب العربي والإسلامي، ويفتح الباب أمام انفجار أوسع قد لا يقتصر على غزة وحدها، بل قد يمتد إلى جبهات أخرى، بما يهدد الأمن والسلم الدوليين.
لكن السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه: هل حرب إسرائيل على غزة قادرة على إنهاء أزمتها الوجودية التي تتعمق يوماً بعد يوم؟
أم أنها تزيدها تعقيداً وتسرّع من انكشاف مأزقها البنيوي؟
الواقع أنّ الكيان الصهيوني يواجه تحدياً ديمغرافيّاً خطيراً منذ سنوات، يتمثل في النمو المتواصل للسكان الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة عام 1948، وكذلك في الضفة الغربية وقطاع غزة.
تشير الإحصاءات إلى أنّ معدلات الولادة والنمو السكاني لدى الفلسطينيين تفوق بمرات معدلاتها لدى اليهود الإسرائيليين، الأمر الذي يهدد معادلة "الدولة اليهودية" التي قامت على مبدأ الأغلبية الديموغرافية المصطنعة عبر التهجير والتطهير العرقي.

ففي الداخل المحتل (مناطق 1948) تجاوز الفلسطينيون نسبة 22% من مجمل السكان، بينما يشكّلون مع سكان الضفة وغزة أغلبية متنامية بين البحر والنهر.
هذا التزايد لا يعني فقط أرقاماً سكانية، بل يعني حضوراً متجذراً وهوية صامدة وذاكرة لا تمحى، وهو ما يضع الكيان أمام سؤال وجودي خطير:
كيف يمكنه أن يبقى "يهودياً نقياً" في ظل أغلبية فلسطينية متوقعة خلال عقدٍ على الأكثر؟
من هنا، تبدو الحرب على غزة محاولة يائسة للهروب إلى الأمام، عبر تدمير البيئة السكانية الفلسطينية وتجويعها ودفعها نحو الهجرة القسرية.
فإسرائيل تدرك أنّ معركتها لم تعد مع بضعة آلاف من المقاتلين، بل هي مع حقيقة ديمغرافية راسخة تتوسع كل يوم.
إنّ استهداف غزة بهذا الشكل الوحشي لا ينفصل عن إدراكها أنّ القطاع يمثل خزّاناً بشرياً وشبابياً لا ينضب، وأنّ استمرار نموه يهدد أمنها الاستراتيجي على المدى الطويل.
لكن هذه السياسات لا تنتج سوى نتائج عكسية؛ فبدلاً من كسر إرادة الفلسطينيين، فإنها تعزز صمودهم وإصرارهم على البقاء فوق أرضهم مهما بلغت التضحيات.
لقد فشلت كل الحروب السابقة في دفع الغزيين إلى الهجرة أو الاستسلام، بل عمّقت روح المقاومة والانتماء، وهذا ما يعترف به قادة الاحتلال أنفسهم حين يتحدثون عن "أزمة الردع" وفقدان القدرة على إخضاع الفلسطينيين رغم التفوق العسكري الساحق.
في المقابل، فإن استمرار الولايات المتحدة في استخدام الفيتو لحماية إسرائيل من أي محاسبة دولية، لا يضعها فقط في مواجهة الشعوب العربية والإسلامية، بل يضعها أيضاً في تناقض صارخ مع القيم التي تزعم الدفاع عنها، من حقوق الإنسان إلى القانون الدولي.
كما أنّ هذا الانحياز الأعمى يفاقم عزلة واشنطن أمام الرأي العام العالمي، حيث تتسع الفجوة بينها وبين حلفائها التقليديين الذين لم يعد بإمكانهم تبرير استمرار العدوان والفظائع.
إنّ الأخطر من كل ذلك، أنّ الفيتو الأمريكي يمنح الاحتلال شعوراً زائفاً بالأمن والحماية، بينما الحقيقة أنّ أزمته الوجودية تتعمق، فالقوة العسكرية لا تستطيع أن تغير حقائق الديموغرافيا، ولا أن تلغي هوية شعب متجذر في أرضه منذ آلاف السنين، وإذا كان الكيان يظن أنّ القتل والتهجير قادران على حلّ أزمته، فإنّ التاريخ أثبت أنّ الشعوب لا تفنى بالقوة، بل تزداد تمسكاً بحقوقها.

ختاماً، يمكن القول إنّ الحرب الإسرائيلية على غزة، مهما بلغت وحشيتها، لن تكون سوى فصل جديد من مأزق الكيان نفسه.
فهي لا تعالج أزمته الديموغرافية ولا تحميه من الانهيار القادم، بل تسرّع خطواته نحو الهاوية عبر استنزافه سياسياً وأخلاقياً وإنسانياً.
أما الفيتو الأمريكي الأخير، فهو حلقة أخرى في سلسلة طويلة من الانحياز المطلق، لكنه لن يغير حقيقة أن غزة ستبقى عصية على الكسر، وأن الشعب الفلسطيني ماضٍ في معركته من أجل الحرية والعدالة، والعودة وتقرير المصير، وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس، ومستمر في نضاله حتى ينهار جدار الاحتلال كما انهارت كل جدران الظلم عبر التاريخ.
د. عبد الرحيم جاموس
الرياض/الجمعة
19/9/2025م
..................................
ا. د. عادل جوده طاب صباحكم
‏جمعة مباركة وطيبة
‏هذا المقال بقلم د. عبد الرحيم جاموس يقدم قراءة تحليلية عميقة ومؤثرة للأزمة في غزة مع التركيز على البعد الديموغرافي للصراع واستخدام الفيتو الأمريكي. إليك تحليل لأبرز النقاط التي تناولها الكاتب:
‏‏١ - توصيف العدوان:
‏✓ يرفض الكاتب اعتبار ما يحدث في غزة مجرد جولة عسكرية عابرة ويصفه بـ"حرب إبادة ممنهجة" تستهدف الشعب الفلسطيني بأكمله (أرضاً، إنساناً، ذاكرة).
‏ ✓يؤكد أن الأدلة على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية أصبحت لا تحتاج إلى برهان.
‏‏ ٢ - الدور الأمريكي:
‏ - يسلط الضوء على الغطاء السياسي والدبلوماسي الأمريكي لإسرائيل معتبراً أن الفيتو الأمريكي في مجلس الأمن (ضد قرار وقف إطلاق النار) هو "ضوء أخضر" لاستمرار الجرائم.
‏- يرى أن هذا الموقف الأمريكي ينطوي على تناقض صارخ مع القيم التي تتبناها واشنطن (حقوق الإنسان، القانون الدولي)، ويزيد من غضب الرأي العام العالمي وعزلة الولايات المتحدة.
‏ ٣ - الأزمة الوجودية للكيان الصهيوني:
‏• يشير إلى أن الحرب على غزة هي محاولة يائسة للهروب من الأزمة الديموغرافية العميقة التي تواجه إسرائيل.
‏• يوضح أن النمو السكاني الفلسطيني (داخل أراضي 48، الضفة، غزة) يتفوق بكثير على النمو السكاني اليهودي، مما يهدد فكرة "الدولة اليهودية" القائمة على أغلبية ديموغرافية مصطنعة
‏ • يشير إلى أن الفلسطينيين يشكلون بالفعل أغلبية بين النهر والبحر، وأن هذه الأغلبية ستتضح بشكل كامل خلال عقد على الأكثر.
‏ ٤ - نتائج عكسية:
‏√ يؤكد أن سياسات القتل والتجويع والتهجير لا تكسر إرادة الفلسطينيين بل تعزز صمودهم وإصرارهم على البقاء.
‏ √ يشير إلى اعتراف قادة الاحتلال بـ"أزمة الردع" وفشلهم في إخضاع الفلسطينيين رغم التفوق العسكري الساحق.
‏ ٥ - رؤية مستقبلية:
‏•• يخلص إلى أن الحرب على غزة -رغم وحشيتها- هي مجرد فصل جديد من مأزق الكيان نفسه وأنها تسرع خطاه نحو الهاوية.
‏•• يؤكد أن الفيتو الأمريكي لن يغير حقيقة أن غزة ستظل صامدة وأن الشعب الفلسطيني سيستمر في نضاله حتى تحقيق الحرية والعدالة والعودة وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس.
‏‏الخاتمة:
‏قدم الكاتب قراءة أدبية رائعة وراقية ومؤثرة جداً، تجمع بين التحليل السياسي العميق والمشاعر الإنسانية الجياشة مع التركيز على البعد الديموغرافي كعامل حاسم في الصراع.
‏ كما سلط الضوء على تناقض الموقف الأمريكي وعزلة واشنطن المتزايدة بسبب انحيازها المطلق لإسرائيل.

disqus comments here