الشعب الفلسطيني وروح النكتة
Mon 08 September 2025

جلساتنا العائلية لا تخلو من المزاح والنكات، وقصص طريفة يسردها أحد أفراد العائلة أو صديق العائلة.
كبرتُ وأنا أعشق القصص الطريفة، وحتى صرتُ أحبّ القراءة لهذا السبب، أجمع من الكتب الطرائف والنكات، حتى بتُّ موسوعة صغيرة تحفظ الآف النكات والقصص.
كلّما زارنا أحد أصدقاء أبي كان يحكي لنا قصصاً وحكايات، وكنت أجلس دائماً في إحدى الزوايا أستمع له. بعض النّكات لم أكُن أفهمها ولكنهم كانوا يضحكون، هي نكات لها دلالات لا يفهمها الأطفال.
إحدى النكت التي كانوا يضحكون عليها هي قصة شابٍ بسيط زوّجوه، فجاء لأمّه يسألها:"هل ستنام عندنا العروس؟" فتجيبه أمّه "هذه مرتك يا حبيبي." ولكنها حينما تُحكى باللهجة العاميّة تكون مضحكة أكثر.
نكتة أخرى حول تزفيت أحد شوارع المخيم، حيث ركض أحد الأطفال لأمّه وأخبرها بتزفيت الشارع، لتقول له غداً نبيع "الشحطات".
أمّا أكثر النكات التي أجدها مضحكة هي "فتاة دخلت إلى محل لبيع أدوات التجميل و"الماكياج" وقالت البائع "بدّي شي يبيّضلي وجّي" فأجاب "عمامي".
ليس سهلاً أن تُضحك مجموعة، ولكن أحد الأشياء التي يتفنّن الفلسطيني بها هي عملية التقليد، فتراهُ يقلّد أستاذه ثمّ جاره ثمّ أحد أهله. هي موهبة تختصّ ببعض الأشخاص، ويكون لديهم "الكاريزما" لذلك.
نحن بحاجة لروح النكتة في حياتنا، حيث تحوّلت حياتنا إلى مآتم للحزن، غُمّة لا تنزاح، بكاء مستمر، ألم في الصدر لا ينجلي، دموع لا تنضب. رغم كلّ هذا ترانا نفرح، نشارك بعضنا البعض مشاعر نجاح أبنائنا وبناتنا، ننتظر مولوداً أو مولودة من نسلنا، نحمّلهم القضية وهمومها منذ الصّغر، نزرع فيهم القيم والمبادىء ونغرس في نفوسهم رائحة التراب وعشق الأرض.
بسبب الحروب في لبنان، وخاصة في فترة الثمانينات، لم تُقفل مدارس الأنروا أبوابها، وكان الطلاب يأتون للمدارس ويمرّون بجانب الدبابات خلال الاجتياح الاسر ا ئي لي، وبعدها بفترة كان المقاتل يدخل الصفّ وعلى كتفه سلاحه، فيُطلب منه ترك سلاحه ودخول الصف. كان الطلاب أكبر حجماً من مقاعد المدرسة، وبعضهم حينما كان يقف كانت "الطبقة" ترتفع معه. كان المعلّم أو المعلمة يبذلون جهوداً مضاعفة لضبط الصفوف، فالطلاب أكبر عمراً من تواجدهم في الصفوف وأكبر حجماً من المعتاد.
كانوا يقومون بالمقالب، ويحاولون أن يغيّروا من روتين الدراسة، ويرسمون على الحيطان كلمات بعضها مقبول، مثلاً "ثورة حتى النّصر"، "إسرا ئيل شرّ مُطلق"، والبعض الآخر غير مقبول ويحمل ألفاظاً نابية.
أنا لا أذكر من هذه الفترة الزمنية إلا القليل، ولكن ذاكرتي الصُّوَريّة تحمل كثيراً من الذكريات. خلال وجودنا في منطقة الزهراني خلال الاجتياح الاسرا ئيلي، كانت الغرف التي سكناها بلا سقف، فاعتدناها، ولكن الذي لم نعتده هو وجود ماس كهربائي في أحد الحيطان. وهذا جعل والدي وإخوتي يلهون بهذا الأمر، فكان أخي يضع يده على الحائط، ثمّ يقوم أبي وإخوتي بعمل سلسلة بشرية، فكان آخر واحد من هذه السلسلة إذا لمس أحدهم يتعرّض لماس كهربائي، وهكذا كانوا يمزحون مع الزائر من أصدقاء أبي، مزاح من وحي المعاناة.
خلال فترة تواجدنا في الزهراني، عمل إخوتي (كانت أعمارهم تتراوح بين ١٤ إلى ١٧ سنة)، في العتالة خاصة تفريغ شاحنات البطيخ، وفي معامل صبّ الباطون، وصيد السمك هذا إلى جانب كونهم في المدارس، حيث أنّ المدارس لم تقفل أبوابها خلال الحرب كما ذكرت.
ما يهمّ من هذا الأمر هو نهفة تفريغ شاحنة البطيخ، حيث أخبر التاجر أبي بأن أُجرته هي البطيخ المكسور أو غير الصالح للبيع.
بعد أن أنهى إخوتي تفريغ الشاحنة الضخمة من البطيخ، لم تكُن هناك أي بطيخة مكسورة أو تالفة، كل بطيخ الشاحنة كان بحالة سليمة بشكلٍ لا يصدّق. فبدأ إخوتي بتكسير بعض البطيخات كأجرة لهم. في طريق العودة كنّا نضحك ضحكاتٍ لا أنساها، ضحكة طفولة بريئة في زمن الحرب، صحيح أنّ الحرب كانت أكثر الأشياء بشاعةً مررنا بها، ولكنّني أفتقدُ لإخوتي في تلك الفترة الزمنية.
"المُضحك المُبكي" هو ما يصف هذا الشعب معظم الأمور، فمن جهة نضحك ومن جهة أخرى نبكي على ما نعيشه من وضع اقتصادي صعب، من قتل وتدمير وإبادة، من ظروف لجوء محرومين فيها من حقوقنا الإنسانية. كنتُ ولا زلتُ أردّد بأن وضعنا في لبنان كمَن يعلّمك السباحة ثمّ يمنعك أن تسبح وتصطاد. محرومون نحن من أن نكون أطباء، مهندسين، محامين، صيدلانيين، أو أي وظيفة فيها نقابة. هذه الأمور تجعلك في موقف صعب، كيف تعيش بكرامة؟
لا أقول بأننا كلنا نريد أن نصبح أطباء ومهندسين ومحامين ولكن خلق فُرص العمل تعزّز من حياة اللاجيء ليصبح منتجاً قادراً على عيش عيشة كريمة، لا أن يُصبح عبئاً على المجتمع دون وظيفة ودون حقوق ودون مستقبلٍ واضح.
لن أترككم دون آخر نهفات خالي الذي جاء لمنزلنا يوماً وهو يُخبرنا أنّ بإستطاعته خياطة الطنجرة المليئة بالماء بسقف الغرفة، وصعد السّلم وحمل الطنجرة ليخيطها، ولكنّه أراد من أبي أن يقترب ليعطيه الإبرة، فعرف والدي بأنّه مقلب،
ملّ خالي من الانتظار فما كان منه إلا أن رشق والدي بالماء.
لم تكُن هذه المرة الأولى، فكلّ ليلة كان هناك مقلب أو مزاح على هذه الشاكلة.