كتب بهاء طباسي: شتاء بلا جدران… المخيمات الغزّية في مهب الأمطار

لم يكن المسن جميل الحلاق، البالغ من العمر اثنين وستين عامًا، يتوقع أن يتحول الليل القصير إلى امتحان قاسٍ جديد مع أول خيوط الشتاء. فمنذ أن فقد منزله ومحله التجاري وشاليهه الصغير قبل عامين إثر الغارات الإسرائيلية التي اجتاحت القطاع، وهو يعيش في خيمة بمنطقة المواصي في مدينة خان يونس، لا تقي حرًا ولا بردًا، مهترئة الأطراف، تتسلل منها الرياح والمطر كما لو أنها غير موجودة أصلًا.

يصف جميل تلك اللحظة قائلًا: «استيقظت فجأة على صفعة برد حادة، رأيت الماء يجري تحت جسدي، شعرت كأن الأرض كلها تغرق، وكأن الخيمة لم تكن سوى ورقة بالية تضيع في العاصفة». لم يستطع الوقوف في البداية، فقد تجمدت أطرافه، وتحول المكان من ملاذ إلى مستنقع.
ومع اشتداد المطر، كان جميل يحاول جاهدًا الإمساك بأعمدة الخيمة كي لا تنقلع مرة أخرى كما حدث ليلة سابقة. يقول لـ«القدس العربي»: «الرياح كانت تضرب الخيمة كأنها تريد انتزاع ما تبقى من حياتي. حاولت أن أرفع بعض الأغراض، لكنها كانت أثقل من أن يحملها رجل في مثل سني وسط المياه». لم تكن تلك ليلة عابرة، بل فصلًا جديدًا من حياة طويلة فقد فيها كل شيء، ولم يبق له سوى ذكرى بيت كان يجمع أبناءه قبل أن يتحول إلى ركام.
وبينما كانت الأمطار تزداد غزارة، نظر المسن إلى وجوه أحفاده الذين احتموا بجانبه، ورأى في أعينهم الرعب ذاته الذي عاشه قبل عامين حين بدأ العدوان. «أولادي وأحفادي لا ينامون، يخافون من كل صوت ريح، من كل قطرة ماء. هذا ليس شتاءً، هذه حرب ثانية»، يقول وهو يمسح الدموع التي تختلط بالمطر على خديه. كان يشعر بأن العمر أثقل عليه من أن يكافح وحده ضد موسم لا يرحم.
ومع اتساع دائرة المياه التي غمرت المخيم، بدا المشهد كأنه تكرار مؤلم لسنوات من المعاناة. «غزة كلها خيم»، يضيف جميل، «كلها دمار، والعالم لا يفعل شيئًا. لا نستطيع الاستمرار في هذا الشكل المهين وغير الآدمي. نعيش في خراب، وكل ما حولنا ينهار مع كل موجة مطر».
كان المسن يكرر بألم أن الخيام لم تعد تصلح للعيش، وأن «نصف ساعة فقط من الأمطار كانت كفيلة بتدمير حوالي 80 في المئة من خيام المخيم». وكان يرفع يديه نحو السماء متوسلًا: «نتمنى من الدول العربية أن تلتفت لغزة. صحتنا ضاعت، حياتنا ضاعت، بيوتنا راحت. والآن ذهب المأوى الوحيد المتبقي لنا». ومع كل كلمة، كان يزداد قناعة بأن الشتاء ليس مجرد فصل قاسٍ، بل معركة جديدة يخوضها النازحون بلا معدات ولا حماية.
ويتحدث الرجل عن المعاناة اليومية قائلًا: «نحن شعب غلبان، تدمر كل شيء في حياته. لا بيوت، لا عمل، لا مساعدات، ولا حتى سقف يستر أطفالنا. حتى متى سنظل هكذا؟ من يرى حالنا يعرف أن كثيرًا من أهل غزة الآن لا يجدون مكانًا آمنًا يلوذون إليه». لقد اختُصر مصير آلاف العائلات في خيمة ترتجف أمام أول موجة برد، وتنهار كليًا عند أول عاصفة.
وفي قلب هذا المشهد، تتعاظم الحقيقة القاسية: عشرات الآلاف يعيشون اليوم مواجهة يومية مع المطر والبرد، في ظل منع دخول البيوت المتنقلة والمستلزمات الأساسية لإعادة الإعمار. ومع امتداد الساعات الأولى للعاصفة، لم يكن هناك صوت أعلى من صرخات الأطفال الذين غمرت المياه فراشهم، أو الأمهات اللواتي يحاولن رفع الأغطية المبللة عن أجساد صارت ترتجف بلا توقف.
وهكذا، تتداخل قصة جميل مع واقع أشمل يشمل كل نازح يعيش في خيمة، وكل طفل يبحث عن مكان دافئ، وكل أم تتلو دعاءً واحدًا في كل ليلة: ألّا يحدث ما هو أسوأ.

أمومة تحت المطر

وسط المخيم ذاته، كانت سمر العطار، النازحة الثلاثينية وأمٌ لخمسة أطفال، تحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه بعد أن غمرت الأمطار خيمتها بالكامل. كانت الأم تردد بصوت منكسر: «انظر إلى حالي، لدي أربع بنات وولد، وملابسنا كلها غرقت. نحن مشردون بحق. الله ينتقم ممن أوصلنا لهذا الحال». لم تستطع منع دموعها وهي تشير إلى كومة من الملابس المبللة الملقاة على الأرض، والتي لم تعد تصلح لستر أطفالها.
وتتابع لـ«القدس العربي» وهي تغطي أصغر أطفالها بثوب قديم: «نحن لا نأكل ولا نشرب مثل بقية العالم. جائعون وعطشى. حتى الملابس القديمة التي كانت تسترنا غرقت كلها. أنا امرأة كان من المفترض أن أعيش مع أطفالي في منزل محترم، لكن الأمطار أكلتنا». كانت كلماتها تحمل انكسارًا لا تخطئه العين، كأن كل جملة منها تخرج من عمق جرح كبير.
وتصف سمر كيف انهارت خيمتها قبل ثلاثة أيام من العاصفة الأخيرة: «موتنا البرد، ودُمرت خيمتنا وأغراضنا بالكامل. الآن أقيم في الشارع مع أولادي وما تبقى من حاجياتنا. أتنقل بين الخيام كأنني غريبة في أرضي». ثم توقفت لبرهة قبل أن تهمس: «والله العظيم مقهورين قهر. سأحكي الآن… وبعدما أحكي، ماذا سأستفيد؟ نحكي على الفاضي». ومع كل موجة مطر جديدة، وجدت سمر نفسها مضطرة للقيام بأعمال لم تكن يومًا تتخيل ممارستها، تقول: «أنا الآن أساعد في تنظيف حمامات المخيم من مياه الأمطار، كي يستطيع أولادي الاغتسال وقضاء حاجتهم. تخيّل أن الأم تصبح مسؤولة عن تنظيف حمام عمره سنوات لأنه غرق مثل خيمتها؟». لقد اختزلت الأم حكايتها بجملة واحدة: «هذه ليست حياة».

ليلة الغرق

في زاوية أخرى من المخيم، كان الشاب الثلاثيني حسن أبو شمالة يعيش صدمة الليلة ذاتها. يقول: «الليلة تقريبًا من الساعة الواحدة صباحًا هطلت الأمطار بغزارة حتى غرقنا. كل الخيام امتلأت بالمياه». لم يكن يبالغ في وصفه، فالمخيم بأكمله تحول إلى بحر متصل من الوحل.
ويضيف بصوت يغلبه الغضب: «خيامنا كما يعرف العالم مهترئة بعد عامين من الحرب. لا تنفع صيفا ولا شتاء. الحشرات تتسلل إلينا، والبعوض لا يتركنا. أقسم بالله هذه ليست حياة». ثم يتابع لـ«القدس العربي»: «نريد حلًا من العالم. تعبنا من الوعود التي لا تصل ومن التصريحات التي لا تُترجم إلى شيء».
ويؤكد أن الدفاع المدني لم يستطع الوصول إلى مئات الخيام بسبب تدمير معداته خلال العامين الماضيين. «حتى لو أرادوا مساعدتنا، لا يملكون شيئًا». كان الرجل يرفع يديه في الهواء وهو يقول: «أطفالنا لا يحتملون المزيد. والشتاء بالكاد بدأ».
وتولد هذه الظروف شعورًا عامًا باليأس، إذ لا يرى الشاب طريقًا واضحًا للخروج من المأساة. «المخيم كله يغرق، والناس كلها تعاني. أين العالم؟ أين من يتحدثون عن الإنسانية؟».

خطر الخيام

تشير تقارير المنظمات الإنسانية في قطاع غزة إلى أن الحالة العامة للنازحين وصلت إلى مستوى كارثي. فمعظم الخيام مهترئة أصلًا، والمطر الذي يتسرب منها لا يرحم أحدًا. ومع غياب معدات الدفاع المدني، وغياب أي حلول عاجلة، أصبح كل منخفض جوي يهدد حياة آلاف العائلات، ويحوّل الليل إلى معركة مفتوحة ضد الطبيعة.
كل ذلك يحدث بينما تمنع سلطات الاحتلال إدخال الكرفانات أو البيوت المتنقلة، أو حتى المعدات البسيطة التي يحتاجها السكان لإعادة بناء ما دُمر. وفي ظل غياب أي حماية، تتجدد المأساة مع كل موجة مطر، كأنها قدر مكتوب على سكان القطاع الذين يعيشون موسمًا بعد موسم في مواجهة مأوى هش لا يصمد أمام أول قطرات.
فيما يدرك الدفاع المدني في غزة حجم ما يعيشه الناس، لكنه يقف عاجزًا عن تقديم ما يلزم بسبب الدمار الذي طاله. يقول المتحدث باسمه محمود بصل لـ«القدس العربي»: «المتابعة الميدانية ومناشدات الناس من كل مكان تؤكد أن هذه الخيام لا تصلح مطلقًا للعيش. لا توفر الحد الأدنى من الحياة الآمنة، خاصة في فصل الشتاء».
ويضيف: «الخيام الحالية تتسرب إليها مياه الأمطار، وتفشل في حماية الأطفال والنساء وكبار السن. تفتقر للسلامة والخصوصية. أصبحت مصدر خطر حقيقي على حياة الناس، وليست مجرد مأوى مؤقت». كانت كلماته حاسمة كأنها محاولة أخيرة لوضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته.
ويتابع المتحدث: «دَعونا كل الجهات الإنسانية إلى التحرك العاجل لتوفير كرفانات سكنية آمنة ومجهزة. هذه ليست رفاهية، بل ضرورة لحفظ حياة الناس وكرامتهم إلى حين بدء الإعمار». ويوضح: «بقاء مئات الآلاف في خيام غير صالحة للحياة ليس خيارًا، ولا يمكن القبول باستمراره».
من جهته، يؤكد أمجد الشوا، رئيس شبكة المنظمات الأهلية في غزة، أن الوضع قد يتدهور أكثر. ويقول: «مئات الآلاف تعرضوا لمأساة إنسانية حقيقية، وربما يكون هذا الشتاء هو الأصعب والأقسَى في تاريخ قطاع غزة». ويحذر من أن غياب الآليات والمعدات اللازمة يجعل كل منخفض جوي حدثًا استثنائيًا يهدد حياة الآلاف.
ويشير الشوا إلى مشكلة طبوغرافية حادة قائلا: «الاحتلال يسيطر على 53 في المئة أو أكثر من مساحة القطاع، وهي المناطق الشرقية المرتفعة. المياه تتسرب من الشرق إلى الغرب، ما يؤدي إلى غرق المخيمات المنخفضة بالكامل». وهو ما يفسر غرق المخيمات خلال دقائق من بداية الأمطار.
ويضيف لـ«القدس العربي»: «المنظمات الإنسانية تحاول المساعدة بإمكانياتها البسيطة، لكن العائلات تفتقد إلى الكثير من المستلزمات الأساسية، خاصة الأغطية والأفرشة الشتوية والخيام». ثم يتابع: «تواصلنا مع جهات عربية ودولية للضغط على الاحتلال كي يحترم التزاماته ويدخل المساعدات الأساسية، بما فيها البيوت المتنقلة».
ويختتم الشوا تحذيره بجملة تلخص المأساة: «نحن أمام كارثة قد تتكرر مع كل موجة مطر. النازحون بلا حماية، والعالم مطالب بأن يتحرك قبل أن نفقد المزيد من الأرواح».

disqus comments here