فرانشيسكا ألبانيز في مقابلة مطوّلة مع “العربي الجديد”: لو كانت فلسطين مسرح جريمة لحملت بصماتنا جميعاً

لم يكن منصب “المقرّر الخاص المعني بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967″، أمراً سهلاً على أي مقرّر سابق شغل هذا المركز الذي استحدثته الأمم المتحدة عام 1993؛ بهدف مراقبة وتوثيق حالة حقوق الإنسان في فلسطين في ظل الاحتلال، لما قد يواجهه أيّ مقرر من تحديات في العمل تفرضها السلطات الإسرائيلية على الأرض وعلى المقرّر نفسه، من منع لدخول فلسطين أو حملات تحريض. رغم أن عام استحداث المنصب كان عام “اتفاقية أوسلو” التي وعدت بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي وقيام الدولة الفلسطينية، إلّا أن الأمم المتحدة ارتأت في حينه تعيين خبير مستقل لتقديم التقارير الدورية إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة والجمعية العامة.
منذ ذلك الحين وحتى اليوم شغل هذا المنصب ثمانية مقرّرين أمميين، أصدروا العشرات من التقارير والتوصيات، آخرهم فرانشيسكا ألبانيز التي انتخبت في مايو/ أيار 2022. لم ينتهِ الاحتلال، بل تعاظم وأصبح واقعاً يبدّد أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، لكن المقرّرة الحالية فرانشيسكا ألبانيز تعمل في ظروف لم تعشها فلسطين من قبل، وهي حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة التي أودت بحياة عشرات الآلاف وأصابت مئات الآلاف، وجعلت كل الغزيين مهجّرين باستمرار منذ سنةٍ وسبعة أشهر، وتهدّد بتهجيرهم خارج القطاع.
برزت ألبانيز خلال حرب غزة التي بدأت في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، صوتاً أممياً جريئاً في نقل أصوات الفلسطينيين، وصوتاً ناقداً قوياً بحق المتواطئين مع هذه الإبادة، خصوصاً في الدول الغربية، وأصدرت تقارير خاصة هامّة تُستخدم في قضايا محاكمات إسرائيل دولياً، وهو ما عرّضها للعديد من حملات التشهير والتحريض من الحكومة الإسرائيلية ومناصريها، كان آخرها في الشهرين الحالي والماضي، عندما طالبت هذه الجهات بعدم إعطائها الثقة للعمل مقرّرةً أمميةً لثلاث سنوات إضافية.
في أول مقابلة مطولة مع وسيلة إعلام عربية بعد تمديد مجلس حقوق الإنسان، في الرابع من إبريل/ نيسان الحالي، المؤلف من 47 عضواً، مهمّتها حتى عام 2028، تتحدث ألبانيز لـ”العربي الجديد” عن إصرارها على مواصلة العمل الذي تقوم به رغم فداحة الواقع الإنساني، بفعل “القصف الإسرائيلي الجنوني الهادف لتهجير الفلسطينيين”، وتحذّر من نفاد الوقت لإنقاذ الفلسطينيين من التطهير العرقي الممتد أيضاً إلى الضفة الغربية المحتلة، كما تصف حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة بالأكثر ساديّة وعَسكَرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945. تشارك بعضاً من تقريرها الجديد الذي سيصدر قريباً بحقّ الشركات متعدّدة الجنسيات، وتشرح كيف يفشل القانون الدولي، وكذلك الآن مع صعود الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي “يخاف منه جميع القادة”، وتسخر من إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن رغبة باريس في الاعتراف “المتأخّر ثلاثين عاماً” بالدولة الفلسطينية، وتعتبره تشتيتاً عن وقف الإبادة (ذكر ماكرون، الأسبوع الماضي، أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية يمكن أن يحصل في يونيو/حزيران المقبل خلال مؤتمر “التحالف الدولي لتنفيذ حل الدولتَين” الذي سترأسه فرنسا بالاشتراك مع السعودية في مقرّ الأمم المتحدة في نيويورك)، وتهاجم وقاحة الجامعات الألمانية التي دعتها إلى إلقاء محاضرات فيها ثم ألغتها دون إبلاغها، وتصف عصرنا بعصر إسكات الأكاديميين. وتتحدث عن بلدها إيطاليا وصعود اليمين المتطرّف في أوروبا، ورغبتها في زيارة فلسطين وقرى في الضفة الغربية لم تسمّها خوفاً من انتقام وهجمات المستوطنين الإسرائيليين.
* يبدو أن حملات التحريض ضدّك من سياسيين وبعض المنظمات المناصرة لإسرائيل في الدول الغربية لم تنجح في إبعادك عن الأمم المتحدة. هل تعتقدين أنّ الأمم المتحدة لا تزال بمنأى عن مثل هذه الضغوط؟ ماذا تقولين بعد تجديد ولايتك ثلاث سنوات إضافية؟
لذا بطريقة ما نعم؛ لا يزال هناك الكثير في الأمم المتحدة يخدم الغرض الذي قامت لأجله، وأود أن أقول إنّ خبراء الأمم المتحدة المستقلين كانوا الأكثر صراحةً في إدانة الانتهاكات الجسيمة والشنيعة للقانون الدولي التي وقعت في الأراضي الفلسطينية المحتلة على مدى الأشهر الـ16 الماضية، هناك أيضاً لجنة التحقيق التابعة للمفوض العام التي قامت بعمل مذهل في توثيق الأدلة التي يمكن استخدامها في المحاكمات أيضاً، ومكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان (فولكر تورك). بالطبع، نتحرك بوتيرة مختلفة، لكنني أود التأكيد أن ولايتي هي عمل تطوعي، أنا مستقلة ولست على قائمة رواتب الأمم المتحدة، واحتفظت بهذا التفويض الضخم الذي ينطوي على مسؤوليات جسيمة. ومرة أخرى، سأستمر في خدمة مجلس حقوق الإنسان.
* قبل أقل من أسبوعين، شهدنا منع النائبتَين البريطانيتَين عن حزب العمال، يوان يانغ وابتسام محمد، من دخول فلسطين المحتلة بعد احتجازهما في مطار بن غوريون في تل أبيب على يد السلطات الإسرائيلية وترحيلهما إلى لندن. ما رأيك في ما سيحدث إذا ذهبتِ أنت إلى فلسطين؟ هل سيكون هناك ترحيل أيضاً بحقك؟ وهل تخططين لزيارة خلال السنوات الثلاث المقبلة؟
حاولت وحاولت، ولم يُسمح لي. المشكلة هي أنني لا أسافر عبر مطار بن غوريون؛ لأنه لا يوجد لديّ أي سبب للذهاب إلى ما تبقى من فلسطين عبر إسرائيل، لأن إسرائيل أعلنتني شخصاً غير مرغوب به. لذا؛ فالأمر مُدرج في النظام إذا حاولت الذهاب، لكن النقطة المهمة هي أن الحدود مع الأردن ومصر لا ينبغي أن تخضع لسيطرة إسرائيل، هذا هو أهم شيء أود أن يفهمه جمهوركم، وأن يكونوا على دراية به، وأن يطرحوه في النقاش مع الحكومات، ويجب أن يكون هذا تذكيراً دائماً. يُلزم القانون الدولي جميع الدول الأعضاء بعدم الاعتراف بعواقب الاحتلال غير القانوني. يجب أن يزول الاحتلال، بمكوناته العسكرية، والمستوطنات، والسيطرة على الموارد الطبيعية، والمجال الجوي، والحدود، ويجب أن يُسمح للفلسطينيين بالتمتع بحق تقرير المصير، أي الحق في الوجود بوصفهم شعباً. من الخطأ السماح باستمرار إسرائيل بالسيطرة في غزة أو مواصلة الحكم في الضفة الغربية.
* ذكرتِ الشهر الماضي في بيان أنّ ما يحدث في الضفة الغربية هو تطهير عرقي. في أيّ مرحلة نحن الآن من هذا التطهير العرقي في الضفة الغربية، وهل الوقت ينفد حقاً لإنقاذ الشعب الفلسطيني؟
نعم، بالتأكيد. مع كلّ يوم يمرُّ الوقت، ونحن نعلم ذلك؛ لأن الهجوم على الفلسطينيين شامل. لا يوجد فرق إذا كنت فلسطينياً تحت الحكم العسكري الإسرائيلي، فإن حياتك معرضة للخطر، طبعاً في قطاع غزة على نحوٍ أكثر حدة، لكن أيضاً في الضفة الغربية. الأمر واضح للعديد من الفلسطينيين، وبالنسبة لنا في الغرب، فالأمر أقل وضوحاً، لكنني أرى أخيراً أن التطهير العرقي كان سمة ثابتة في حياة الفلسطينيين تحت الحكم الإسرائيلي منذ النكبة (1948) حتى اليوم بأشكال مختلفة، منه ما هو نكبة صامتة.
بعد أسبوع واحد من 7 أكتوبر 2023، عندما بدأ الهجوم الإبادي، قلتُ إن هناك خطراً جدياً من التطهير العرقي. وفي الواقع، يحدث ذلك ويستمر في الحدوث. لذا؛ فإن الإبادة الجماعية هي وسيلة لتحقيق غاية ما، وأصبح تدمير الفلسطينيين أمراً لا مفرّ منه لأن الفلسطينيين لا يريدون أن يَترُكوا (البقاء). من الواضح أنهم لا يغادرون حتّى عندما يُدمر كل شيء من حولهم ويواصلون البقاء في غزة، كان ذلك واضحاً جداً، لهذا السبب تسارعت وتيرة القصف. وبالطبع، يقابل ذلك أيضاً مصلحة شخصية، وأنا مقتنعة بأن هناك مصلحة شخصية كبيرة لرئيس الوزراء الإسرائيلي (بنيامين نتنياهو) في هذا الهجوم الإبادي المشؤوم على غزة. الآن نرى أن الكثيرين في إسرائيل يرفعون أصواتهم ضد هذا الهجوم، لكن ليس بما يكفي لإسقاط نتنياهو.
* في الحديث عن غزة. هل يمكنك إطلاعنا على آخر المستجدات في ما يتعلق بالوضع الإنساني؟
لقد أصبح من الصعب جداً عليّ، بموجب ولايتي، متابعة جميع المعلومات والتحقق منها، والمجازر، وقتل عائلات بأكملها، وتدمير البنية التحتية المتبقية. لقد تأثر كل جزء من البنية التحتية في غزة على مدى الأشهر الـ16 الماضية، هناك تسارع بعد انتهاء الخرق الكامل لهذا الهجوم الإسرائيلي، والآن الوضع هو أن هناك حظراً تاماً على المساعدات الإنسانية. منذ 17 مارس/آذار (2025)، لا يوجد طعام ولا ماء ولا أدوية، لم يدخل الوقود إلى قطاع غزة، والناس يعيشون على القليل جداً، والظروف غير إنسانية.
لا أعتقد أن هناك أي شيء في التاريخ الحديث منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى الآن ساديٌّ إلى هذا الحدّ، ومُعَسكَرٌ مثل هذا الهجوم. بالطبع كانت هناك إبادة جماعية في أماكن أخرى، وكل إبادة جماعية مروعة في حدّ ذاتها، لكن هذه الإبادة مُعسكَرةٌ للغاية. أعني، يُقتل الناس بالعشرات والمئات في غضون ساعات، ولم يتبق شيء. لذا اليوم (الأحد الماضي)، على سبيل المثال، قبل هذه المقابلة، اطلعت على الأخبار ورأيت كنيسة واحدة قُصفت مرة أخرى، الكنيسة والمستشفى المعمداني، ورأيت صور أب ينعى أبناءه الستّة وعائلاتهم التي لا تزال تتعرض للقصف، لأنه أصبح من الأسهل الآن استهداف السكان. إنها مكثفة، عندما يضرب مخيّم يحتمي فيه مئات الأشخاص في الخيام البلاستيكية، بالطبع تحدث مجزرة، وهذا ما يحدث. لذا فإن الوضع يتجاوز الكلمات، لطالما كان كارثياً، والآن تجاوز الأمر ذلك، ويُدفع الناس إلى ما هو أبعد من مجرد البقاء على قيد الحياة. لا أعرف حقاً كيف يتعامل سكان غزة مع الوضع. أُطلق ناقوس الخطر قبل بضعة أيام للتنديد بأن 91% من سكان غزة معرضون لخطر سوء التغذية، وقد وُجد بالفعل 60 ألف طفل معرضون لخطر مشاكل النمو المعرفي بسبب سوء التغذية، إنه ليس أمراً مستقبلياً، بل يحدث تحت أنظارنا.
أقول كثيراً: لو كانت فلسطين مسرح جريمة، لكانت تحمل بصماتنا جميعاً، لأنّ هناك بالطبع قطاعات عديدة مسؤولة بديهياً عن الانتهاكات، ومتواطئة فيها، منها القطاع العسكري، وقطاع المراقبة (الإلكترونية)، فالتكنولوجيا، كما تعلمون، وهي الأدوات التي نستخدمها، والخوادم التي نستخدمها، والشركات الرئيسية المتصلة، أعني الشركات الكبرى، حدّثت جميعها خدماتها وعقودها مع إسرائيل أثناء الإبادة الجماعية، حتى إنّ العديد من الشركات قدّمت نظام الحوسبة السحابية.
هناك أيضاً ما أسميه الشركات المدنية، تلك التي تعمل في البناء والتدمير، لا أريد ذكر الأسماء الآن لأنه سيجري إخطارهم جميعاً. هناك سلاسل التوريد، أولئك الذين يساعدون في استغلال الأعمال الزراعية الفلسطينية لتحقيق الربح للمستوطنات أو غيرها مما أركز عليه، وكذلك النظام المصرفي، ورؤوس الأموال الاستثمارية، والمنظمات غير الربحية، والجمعيات الخيرية، والجامعات، ومراكز الأبحاث.
لا أعتقد أن الموضوع جديد، بمعنى أن العديد من الجهات الفلسطينية الفاعلة، ومنظمات مثل “الحق”، كتبت تقارير عن مشاركة شركات خاصة في الأراضي الفلسطينية، كما أجرت حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) فحصاً دقيقاً للقطاع الخاص. وما أحاول القيام به هو تقديم الصورة الكاملة وتقديمها إلى الأمم المتحدة خلال شهر ونصف الشهر.
* مواقفكِ جنباً إلى مواقف مؤسسات حقوقية دولية عديدة، معروفة وواضحة بالنسبة إلى ما يجب أن يحدث والمطالب المتعلقة بمحاسبة إسرائيل. مع ذلك، هذا لا يحدث، لقد مرّ عام وسبعة أشهر على هذه الإبادة الجماعية، وهناك واقع دولي جديد بعد صعود دونالد ترامب إلى السلطة وتصاعد قوة الأحزاب اليمينية في أوروبا، ما هو مستقبل القانون الدولي والمؤسّسات التي تعمل في إطاره في ضوء هذا الواقع الجديد؟
إنها لحظة حرجة للنظام متعدّد الأطراف بالفعل، لعدة أسباب؛ أولاً ما فائدة النظام إذا لم ينجح في فرض قواعده الأساسية؟ مثل حظر استخدام القوة إلّا في ظروف معينة، أعني أنه لا أحد يتحدى حقاً حقّ إسرائيل في الدفاع عن النفس، وهو أمر غير موجود حالياً. ما تفعله إسرائيل ليس دفاعاً عن النفس، ما تفعله إسرائيل هو تدمير كامل لأغراض سياسية أيديولوجية أو لمجرد مصلحة ذاتية، لكنّها سياسية، ولا توجد ضرورة عسكرية لاستخدام القوة. لذا؛ فإن الأمم المتحدة الآن مجزأة ومشلولة تماماً في قدرتها على العمل بوصفها منظمةً.
الفشل في احترام القانون الدولي، والفشل في ضمان المساعدات الإنسانية، والفشل في بناء مساحة لتعزيز السلام. إنه وقت حرج. كانت هناك أوقات أحدثت فيها الأمم المتحدة فارقاً حقيقياً في التوسّط لحل النزاعات وإحلال السلام. هذا لا يحدث الآن. لعدد من الظروف، ولكن أيضاً بسبب وجود سياسة أكثر عدوانية ضدّ التعددية من بعض الدول مثل الولايات المتحدة، وهذا واضح. الولايات المتحدة تحاول حقاً، تحت إدارة ترامب، تفكيك النظام كما كان، ولكن ليس نظام الأمم المتحدة عموماً فحسب، بل حتى نظام التجارة والتعرِفات الجمركية، كل شيء يمر بمرحلة حرجة. ليس لدي كرة بلورية لأتنبأ بما سيحدث بعد ذلك، أعتقد أن الجميع سيخسرون إذا فشل النظام.
* كثيراً ما تُردَّد مقولة “غزة مقبرة للقانون الدولي”. هل تعتقدين أنه بعد كل ما شهدناه في غزة، ستمتد هذه المقبرة إلى أجزاء أخرى من العالم؟
غزة هي في المقام الأول مقبرة آلاف وآلاف الفلسطينيين الذين لم يحظوا حتى بالوقت الكافي لدفنهم على نحوٍ لائق، وهذا أمر بالغ الأهمية بالنسبة لي، أعني إنّها فكرة مؤلمة. ونعم، أعتقد أنه من الإنصاف إلى حد ما القول إنّ القانون الدولي قد فشل، ولكن ليس بسبب محدودية القانون الدولي نفسه بصفته نظام قواعد، ولكن بسبب آليات التنفيذ غير العاملة. القانون الدولي قوي بقدر إرادة الدول وقدرتها على إنفاذه، والآن هذا يفشل، أليس كذلك؟
* الحكومات الغربية، على الرغم من اختلاف مواقف بعضها، تبدو غير مهتمة باتخاذ خطوات عملية لتغيير واقع الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية المحتلة. في الوقت نفسه، نشهد حراكاً تاريخياً مستمراً للتضامن مع الشعب الفلسطيني حول العالم، والعديد من استطلاعات الرأي في معظم الدول تشير إلى معارضة لهذه الحرب. لماذا تعتقدين أنه لا توجد إجراءات لوقف الاحتلال الإسرائيلي والإبادة الجماعية من هذه الدول؟
* لكنّ الرئيس الفرنسي يقول إنّه يرغب بالاعتراف بالدولة الفلسطينية.
حسناً، بالتأكيد، رائع. هذا توقيت مناسب، بعد 30 عاماً… افعَلْها (تضحك). الفكرة جيدة، لكن هذا مرة أخرى بالنسبة لي، تشتيت لأنه لا يذكر شيئاً عن كيفية وقف الإبادة الجماعية، ولهذا السبب كنت أقول، لا أرى أي تفاعل حقيقي، وأقول إذا كنت تريد إنقاذ الأرواح في غزة، فعليك التوقف عن التجارة مع إسرائيل. أنا لا أطلب الكثير، أنا لا أطلب تدخلاً عسكرياً كما فعلت فرنسا، على سبيل المثال، أو دول أخرى في الماضي. أنا أطلب وقف التجارة مع إسرائيل. الآن، نحن بحاجة إلى أن نكون متّسقين، يجب أن يكون هناك التزام بوقف الإبادة الجماعية، وحظر الأسلحة يعكس هذا الالتزام، لكن العديد من الدول تنتهكه، ناهيك عن برنامج (الطائرات الأميركية) أف- 35، عبر التجارة مع دولة قتلت للتو 18 ألف طفل. من وجهة نظري، ومن وجهة نظر قانونية، يجب إجراء تحقيق والنظر في احتمال التواطؤ مع الأعمال الإجرامية لكل من صانعي السياسات والرؤساء التنفيذيين للشركات.
* حكومة حزب العمال في المملكة المتحدة، قلّصت بعضاً من تجارة السلاح مع إسرائيل. ما رأيك في هذا؟
نعم، 30 ترخيصاً من أصل 330. هذا لا يكفي.
* بالحديث عن حركات التضامن مع الشعب الفلسطيني، ما أهمية هذه الحركة في سياق القانون الدولي؟
أعتقد أن الحركة العالمية تُثبت أنها الحصن المنيع لحماية نظام سيادة القانون. هذا المجتمع المدني الذي أقول عنه غالباً إنّه بمثابة الجسم المضاد للنظام، أعتقد أنه لا يزال من المهم جداً الاحتجاج للتعبير عن معارضتهم لسياسات الحكومات لأسباب عدّة؛ أولاً وغالباً ما أقول إنّه عمل عقلاني من جانب الناس أنفسهم، لأنه أمر بالغ الأهمية وله تأثير هائل على الكثيرين، فكرة أنهم عاجزون ومتواطئون إلى حد ما بوصفهم جزءاً من دولة تدعم أو تُمكّن الإبادة الجماعية. أعني، هذا في عدد من البلدان. لذا فهو عمل عقلاني. وهو مهم أيضاً لأنّ الحكومات تتظاهر بعدم الاستماع، لكنها تستمع. ومرة أخرى، أعتقد أن التطهير العرقي الشامل لغزة كان سيجري أسرع بكثير. والحركة العالمية منحت، وهذا هو ثالث أهم شيء بالنسبة لي، الفلسطينيين شعوراً بأنهم ليسوا وحدهم.
* ما هو الدور الذي يلعبه الإعلام الغربي خلال حرب الإبادة الجماعية على غزة؟ بالطبع، لا يمكننا وضع جميع وسائل الإعلام في سلة واحدة، هناك اختلافات، ولكن هناك أيضاً قواسم مشتركة. كيف ساهمت وسائل الإعلام الغربية في الإبادة الجماعية، وهل بدأنا نشهد تحولات داخل بعض هذه المؤسّسات؟
في وسائل إعلام الدول الغربية السائدة والكثير منها كان الإعلام فيها سيئاً للغاية، صنعت نوعاً من الإجماع على أن الفلسطينيين جلبوا هذه الفوضى لأنفسهم في 7 أكتوبر. الكثير من المعلومات ضُخّمت ولم تكن صحيحة، وكان هناك استخدام للغة غير لائقة وغير دقيقة… كان هناك ميل لتقليد الرواية العسكرية الإسرائيلية بدلاً من التدقيق فيها، واحترام ضئيل للغاية للصحافيين الفلسطينيين الذين قُتلوا، إضافة إلى الاهتمام الضئيل بالسياق العام، والقدرة على تحليل ما يحدث في الضفة الغربية وقطاع غزة.
* كيف تنظرين إلى محاصرة الأكاديميين في العديد من الجامعات الأوروبية عندما يتعلق الأمر بمناقشة حقوق الشعب الفلسطيني والوقوف ضد الإبادة؟ أنتِ شخصياً مُنعتِ في جامعتَين ألمانيتَين. هناك جو عام من الخوف عند الحديث عن فلسطين، هل نحن في عصر إسكات الأكاديميين؟
* كونك مواطنة إيطالية وأوروبية، هل أنت خائفة من صعود اليمين المتطرّف في أوروبا؟
نعم، أنا خائفة. لكنني كنت كذلك على مدى العقود الماضية. أعرف تاريخ بلدي إيطاليا، مررنا بعشرين عاماً من الفاشية البحتة، وكان ذلك قاسياً على الكثيرين. هناك أناس يستطيعون التأقلم والعيش في ظل الديكتاتورية والفاشية، والحصول على وظائفهم. لكنّ هناك أناساً لا يستطيعون العيش دون حرية. أعرف تاريخ بلدي، وأعلم أن وصول الفاشية كان مُهيئاً من خلال التراخي حول بعض الحريات، الآن يوجد نظام لحقوق الإنسان، لدينا حقوق دستورية، والحقوق الدستورية تُنتهك. الدستور مُنتهك، ولا يوجد ما يكفي من الرعاية له. وإيطاليا ليست الدولة الوحيدة التي يحدث فيها ذلك. عندما أعرف، على سبيل المثال، أنّ المحكمة الدستورية في بلدي تدقّ ناقوس الخطر بشأن بعض التراخي في النظام الدستوري، وطريقة وضع القوانين وطريقة إدارة السلطة، لكن يبدو أن السكان لا يكترثون، إذ يمكنهم إيقاف الراديو ويمكنهم إيقاف التلفزيون. يتعاملون وكأنّ هذا ليس من شأنهم، هذه هي المشكلة.
* غالباً ما تنتقدين الدول الغربية أكثر من غيرها في خطاباتك وتصريحاتك. ماذا عن دول مثل الصين وروسيا والهند؟ كما تعلمين، هذه الدول تربطها علاقات جيدة مع إسرائيل وربما أيضاً تجارة سلاح، وأيضاً بعض الدول العربية لها علاقات مع إسرائيل.
أنت محق. مع أني غالباً ما أقول الغرب والباقي، لذا من الظلم أن أقول إنّني أنتقد الدول الغربية فحسب. أعني، أنا أيضاً أنتقد الدول العربية، كان انتقادي الرئيسي موجهاً للدول الغربية لأنها كانت الأكثر صراحةً في دعم حقوق الإنسان وسيادة القانون في مراحل مختلفة من الماضي القريب. إذاً، أين احترام القانون الدولي في فلسطين خلال الأشهر الـ16 الماضية؟ بالنسبة لي، كان الأمر يتعلق بدعوة الدول الأعضاء التي جعلت حقوق الإنسان ركيزة أساسية ليس لسياساتها الداخلية فحسب، ولكن أيضاً لسياساتها الخارجية. لذا كان الأمر مسألة تماسك واتّساق، أعلم أن الدول الأخرى لديها مشاكل ضخمة داخلياً وفي سياستها الخارجية، لكنها ليست الواعظ الصريح كما كان الواعظون في أوروبا على سبيل المثال.
* أنتِ عشتِ وعملتِ في فلسطين. عشتِ في القدس… لو أتيحت لكِ فرصة زيارة فلسطين مرة أخرى؟ ما هي الأماكن التي ترغبين في زيارتها والأنشطة التي ترغبين في المشاركة فيها؟
سأفعل ما كنت أفعله دائماً. سأذهب إلى كل مكان أستطيع، سأذهب إلى الضفة الغربية، من الشمال إلى الجنوب، وإلى نهر الأردن وإلى طولكرم والأماكن الأخرى المحاصرة، وإلى كل المجتمعات المقسّمة بسبب الجدار، مثل نعلين وبلعين. سأذهب إلى الجنوب لتلال الخليل والقدس، بالطبع، القدس. لا أريد أن أذكر أسماء بعض الأماكن التي تربطني بها ذكريات جميلة، أقول ذلك لأنني خائفة، وأخشى أن يسمع بعض الأشخاص ذوي النوايا السيئة هذه المحادثة ويؤثرون على هذه المجتمعات، لكنّ هناك قرى صغيرة في شمال الضفة الغربية، لدي معها أيضاً ذكريات شخصية، أعلم أنها تتعرض لهجوم شرس من المستوطنين والجنود على حد سواء، ولكن بالنسبة لي الآن، الأمر لا يتعلق بالذكريات الشخصية، بل يتعلق بعملي. لذا سأذهب إلى الأماكن التي كانت معظم هجمات المستوطنين فيها أكثر عنفاً، وعدم قدرتي على الذهاب لا يعني عدم تواصلي مع هذه المجتمعات.
سأضطر للذهاب إلى غزة. ولا أعرف إلى أين سأذهب لأنه لم تعد هناك معالم في غزة. غزة مكان قضيت فيه وقتاً أقل بكثير، وأعلم أن معرفتي بمجتمع غزة أقل بكثير، لأنّ تجربتي فيه أقل من المجتمعات الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس، ولكن في كل مرة كنت فيها في غزة، كنت أذهل من طيبة الناس وكرم ضيافتهم، وأيضاً هناك في شعب غزة ما يذكرني كثيراً بمجتمعاتي التي نشأت فيها في جنوب إيطاليا، هذا هو الجزء المتوسطي حقاً. سيتعيّن عليّ الذهاب إلى كل مكان، ولكن أريد أن أقول إنني سأتواصل بعد هذه المقابلة بأطفال من فلسطين، لقد التقيت بالعديد من الأطفال، بما في ذلك أثناء الإبادة الجماعية، والعديد من الأطفال الذين أجريت مقابلات معهم لتقريري الثالث لم يعودوا معنا، ولا يزال هناك أطفال ما زالوا على قيد الحياة، إنّه أمر لا يصدق بالنسبة لي أنهم يريدون التحدث معي، وأنّهم يريدون أن تُسمع أصواتهم، وسأكون دائماً هناك من أجلهم، حتى لو لم أكن حاضرة على الأرض.