د. فرسخ في حوار مع عرب 48 : الحرب على غزة أنهت عملية أوسلو ووهم الدولة الفلسطينية الذي خلقته طيلة 30 عاما

قالت د. فرسخ إن طوفان الأقصى، والحرب على غزة، شكلا نهاية لمشروع أوسلو، الذي اعتقدت إسرائيل أنها تستطيع من خلاله مواصلة حكم وإدارة الفلسطينيين دون منحهم حقوقا سياسية وتحرراً وطنياً، وهدم لهيكلية أوسلو التي سعت إلى تحقيق الأمن للإسرائيليين…
المسار : وصفت الباحثة في سياسات الشرق الأوسط، والصراع العربي الإسرائيلي في جامعة ماساتشوستس الأميركية، د. ليلى فرسخ، الحرب على غزة بأنها نكبة أشد فظاعة من نكبة 48 من حيث حجم الدمار والقتل، لكنها، في الوقت الذي ترجمت فيه منطق الإبادة الاستعماري الصهيوني، فإنها أكدت أن الفلسطينيين شعب يرفض أن يموت، وأنهم راسخون في وطنهم، ولن يذهبوا إلى أي مكان، مشيرة إلى أن مقاومة غزة وصمودها في حرب الإبادة هما تتويج لصمود الشعب الفلسطيني ومقاومته التي تمتد لأكثر من مئة عام.
وفي حوار أجريناه معها، على خلفية الورقة/ المداخلة التي قدمتها مؤخرا في “منتدى فلسطين” تحت عنوان “التحرر السياسي الفلسطيني بعد الحرب على غزة”، قالت د. فرسخ إن طوفان الأقصى، والحرب على غزة، شكلا نهاية لمشروع أوسلو، الذي اعتقدت إسرائيل أنها تستطيع من خلاله مواصلة حكم وإدارة الفلسطينيين دون منحهم حقوقا سياسية وتحرراً وطنياً، وهدم لهيكلية أوسلو التي سعت إلى تحقيق الأمن للإسرائيليين على حساب الفلسطينيين.
وقالت إن طوفان الأقصى أكد أن الفلسطينيين سيقاومون استبدادهم بكل الطرق، ومهما كان الثمن باهظاً، وأن الملايين السبعة الذين ما زالوا يعيشون في أرض فلسطين التاريخية لن يقبلوا العيش تحت وطأة نظام أبرتهايد صهيوني، وسينتزعون حقوقهم السياسية والوطنية، بعد أن أصبحوا يجيدون التعامل مع العقلية الصهيونية، ويعرفون كيفية مخاطبة العالم، وأن ما مر في الـ48 لن يمر اليوم.
وأضافت فرسخ أن الحرب وضعتنا في محور تاريخي، يستدعي أهمية الوحدة الفلسطينية، وإحياء منظمة التحرير، وإعادة الحياة إلى البرنامج التحرري الفلسطيني، بعد فشل مشروع أوسلو، ووصول حل الدولتين إلى طريق مسدود، وبعد أن تأكدت حقيقة الصهيونية كمشروع استبدادي وإبادي، ليس له استدامة بشكله الحالي، منوّهة إلى ضرورة إعادة صياغة مشروعنا الديمقراطي، بما يشمل حقوقنا الكاملة، المتمثلة بحق العودة، والمواطنة المتساوية، في إطار الدولة الواحدة في فلسطين التاريخية.
“عرب 48”: يبدو أن الحرب على غزة قد أعادتنا إلى نقطة البداية؛ نكبة، وإبادة، وتهجير، وتنكر كامل لحقوق الفلسطينيين، تصل إلى حد عدم الاعتراف بنا كبشر؟
د. فرسخ: ما حاولت أن أقوله في الورقة التي أشرتُ إليها، إن الحرب على غزة أحدثت مستجدات مهمة جدا، وجلبتنا إلى نقطة تحول مفصلية، تفوق بأهميتها محطة الـ67، وتكاد تصل إلى أهمية الـ48، ويمكن القول فعلا إنها أعادتنا إلى نقطة البداية.
يأتي ذلك، بعد أن خلقت لدينا عملية أوسلو نوعا من الوهم بإمكانية التعايش مع الصهيونية، وتطبيق حل الدولتين، بعد أن قطعنا وصولاً إليها مساراً تاريخياً طويلاً، بدأ عام 1988 بقرارات المجلس الوطني في الجزائر، وإعلان الاستقلال، الذي بُني على مفهوم الدولة الفلسطينية المستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وعاصمتها القدس الشرقية، التي تقوم على أساس قرار الأمم المتحدة 242، الذي اعتبر احتلال إسرائيل للأراضي العربية التي احتلتها خلال حرب 67، بما يشمل الأراضي الفلسطينية سالفة الذكر، غير قانوني، وشكل قاعدة لعملية السلام التي انطلقت لاحقا.
عملية أوسلو أشاعت أجواء مضللة بأن الدولة الفلسطينية قائمة أو شبه قائمة، ولكن ما حصل بعد 30 سنة من هذه العملية، والتي تُعتبر المرحلة الأطول في التاريخ الفلسطيني، الذي تمرحل في دورات عشرينية، من نكبة 48 إلى نكسة 67، ومن نكسة 67 إلى الانتفاضة الأولى 87، ما حصل خلال حقبة أوسلو أن إسرائيل، خلال 30 سنة، أبقت على نفس المنهجية، وهي منهجية إدارة الصراع مع الفلسطينيين، ومنحتهم وهم الاستقلال، مقابل إبقائهم (السلطة الفلسطينية) في امتحان إثبات القدرة على حماية أمن إسرائيل، بينما قامت، في غضون ذلك، بزيادة الاستيطان بثلاثة أضعاف، حيث ازداد عدد المستوطنين في القدس والضفة الغربية من 250 ألفًا إلى 750 ألف مستوطن، وذلك إلى جانب تجزئة الفلسطينيين، وحشرهم في “بانتستونات”، لا يستطيعون الخروج منها إلا بإذن جندي الاحتلال، وهو ما يمكن أن يُطلق عليه بحق واقع أبرتهايد.
“عرب 48”: ما تقولينه إن إسرائيل اعتقدت جازمة أنها ثبتت هذه الهيكلية كإطار دائم لإدارة الصراع، عوضًا عن حله؟
د. فرسخ: لو كنتَ سألتني في أيلول 2023 هل هذه الهيكلية التي خلقتها إسرائيل من الممكن أن تهتز، لقلت إنه من غير الممكن، لأن إسرائيل فعلت ما تريد، حيث همّشت الفلسطينيين في الـ48، الذين يتمتعون بوضع قانوني أفضل من الـ67، وخلقت نوعًا من الحكم المحلي، ولكن بتسمية دولة في الضفة الغربية.
الدولة الفلسطينية المفترضة معترف بها من 143 دولة، لكنها لا تتمتع بالسيادة الجغرافية، ولا حتى الديمغرافية، ففي الخليل مثلًا لا يوجد لها نفس النفوذ الموجود في رام الله ونابلس، وفي منطقة جنين، سلطتها على الناس أقل أيضًا، وهو ما يشير إلى تفكك جغرافي–سياسي. هذا في حين تعاني غزة المعزولة من حصار منذ 17 سنة، والتعامل معها كان يقوم على مواصلة حصارها، ثم شن حرب عليها كل بضع سنوات، وهكذا دواليك.
هذا الوضع، الذي خلقته إسرائيل، كان مستقرًا حتى جاءت عملية طوفان الأقصى، وأنهت هذه الهيكلية السياسية لإدارة الشعب الفلسطيني، وأكدت أنه يكفي 20 – 30 سنة من العيش في ظل هكذا وضع. فحل الدولتين فشل، لأن إسرائيل ترفض تطبيقه، وقامت بتوسيع المستوطنات، وحاصرت الفلسطينيين في ثكنات سكنية معزولة عن بعضها البعض.
طوفان الأقصى برهن أن حل الدولتين لم يُطبّق، لأن إسرائيل غير مهتمة به، وأن الفلسطينيين يرفضون سياسة التجزئة والتهميش السياسي والجغرافي، وأعادتنا إلى نقطة الـ48، بمعنى أنه إذا لم يُطبّق حل الدولتين، وإسرائيل ليست فقط دولة صهيونية، بل إنها، مثل أي دولة قومية، تصل إلى مستويات فاشية، ومارست الإبادة الجماعية، (لأن أي دولة قومية فيها بذور إباديّة، وهي تسعى لإبادة الآخر عندما يصطدم مع أولويتها، ومع الناس الذين ينتمون لقوميتها). وبإعلان نهاية حل الدولتين، لم يبقَ أمامنا سوى حل الدولة الواحدة، لأنه، في الواقع، هناك دولة واحدة، ولكنها دولة أبرتهايد.
“عرب 48”: هذا يعني عودة إلى نقطة البداية، وإلى التعريف الأصلي للصراع بأنه صراع وجود؟
د. فرسخ: لا تنسَ أن منظمة التحرير كانت قد عرضت مشروع الدولة الديمقراطية عام 1971، حيث كان برنامجها تحرير فلسطين من الاستعمار الصهيوني، وإنشاء دولة فلسطينية ديمقراطية، يعيش فيها المسلمون والمسيحيون واليهود بالتساوي.
المنظمة استغنت عن هذا البرنامج، لأن الجميع قالوا لها بأنها يجب أن تكون واقعية، وتبنت حل الدولتين، لأن إسرائيل حاولت، في حرب لبنان 82، القضاء على المنظمة وعلى الفلسطينيين، حيث واجه الفلسطينيون حربًا شرسة، قُتل فيها 15 فلسطينيًا، وكنا كفلسطينيين نعتبر لبنان، قبل غزة، هي الحرب الأفظع، ولذلك نستطيع أن نقول إننا جربنا حل الدولتين، وإسرائيل أفشلته.
“عرب 48”: بمعنى أن الحرب على غزة وضعت نهاية لهذا المشروع أو الوهم؟
د. فرسخ: من ناحية إسرائيل، كان إفشال هذا الحل ضربًا من الغباء.
“عرب 48”: رفض إسرائيل اليوم بأن تتولى السلطة الفلسطينية إدارة قطاع غزة هو دليل على إصرارها على رفض حل الدولتين.
د. فرسخ: بالضبط، يصبح السؤال: ما هو الحل التحرري الذي يجب أن نطرحه اليوم، بعد 77 سنة على النكبة الأولى، وبعد نكبة غزة، وفي ظل حقيقة وجود دولة اسمها إسرائيل، معترف بها من قبل 162 دولة، ودولة فلسطينية مفترضة، معترف بها من قبل 142 دولة، تمنع إسرائيل قيامها، ولدينا 7 ملايين يهودي إسرائيلي، و7 ملايين فلسطيني يعيشون بين النهر والبحر، وواقع أن هناك دولة واحدة، هي دولة استعمارية تقيم نظام أبرتهايد، حيث تُعطي حقوقًا للمواطنين الإسرائيليين، في حين أنها قامت بتجزئة السكان الفلسطينيين قانونيًا، وجغرافيًا، وسياسيًا.
هذا الوضع لم يعد قابلًا للاستمرار، وما تحاول إسرائيل القيام به، بحرب الإبادة على غزة، وتوسيعها إلى الضفة الغربية، هو محاولة فرض استمراره بالعنف، وباعتقادي، إنها لن تنجح بذلك. من هنا، ينشأ السؤال حول ما يترتب علينا القيام به كفلسطينيين، من ضرورة عرض برنامج تحرري.
لذلك، أنا أقول إنه يتوجب علينا إعادة صياغة مشروعنا الوطني الفلسطيني، من سنة 1971، وأن نُقِر بأن مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة قد أدى دوره التاريخي، ودوره التاريخي لم يكن التحرر، كما كنا نتوقع، وإنما التأكيد على الوجود السياسي الفلسطيني، الذي كان ممحيًا في الـ67، وحاولت إسرائيل محوه مرة ثانية في الـ82.
شعار الدولة الفلسطينية المستقلة ثبت وجودنا السياسي دوليًا، وإقليميًا، وحتى إسرائيليًا، لكنه غير قابل للتطبيق.
“عرب 48”: أنتِ طبعًا لا تقصدين الدولة الواحدة بشكلها الذي طُرح في الـ71؟
د. فرسخ: الدولة الديمقراطية الواحدة من الممكن أن تأخذ أشكالًا مختلفة، كونفدرالية، أو فدرالية، أو غيرها، بمعنى أنك تستطيع أن تتخلص من الصهيونية، ولكن ليس من اليهود الإسرائيليين. عليك أن تتقبل شيئًا اسمه “إسرائيلي”، هو اليهودي الذي يسكن في هذه الأرض منذ أربعة أو خمسة أجيال، يتحدث العبرية، ولا يريد أن يتحدث العربية. فأنت لا تريد العودة إلى دولة عربية، كما تخيلناها في الـ71.
الحديث يجب أن يكون عن دولة ديمقراطية متعددة الإثنية، وليس عن دولة إثنية، وهناك أفكار وصيغ مختلفة. فعندك، على سبيل المثال، مبادرة “وطن واحد لشعبين”، التي تقول إن حق العودة هو حق مصان، وفي نفس الوقت، يعيش المستوطنون في الضفة بسواسية مع الفلسطينيين.
دولة واحدة، نسميها دولة ديمقراطية، ولا يتمتع الفلسطينيون فيها فقط بحق تقرير المصير. ومع الاحترام للادعاء الذي يقول إن الصهاينة والإسرائيليين مستعمرون، والمستعمرون لا ينطبق عليهم حق تقرير المصير، حتى لو عاشوا عقودًا طويلة في فلسطين، يجب إيجاد الصيغة التي توفّق بين العملي، والواقعي، والأخلاقي، وهي المشكلة الأساسية في أي نقاش.
“عرب 48”: هناك مشكلة أيضًا في واقعية هذا الطرح، في ظل الضعف الفلسطيني والعربي، وتغوّل إسرائيل الذي تبدى في الحرب على غزة؟
د. فرسخ: ما أحاول قوله، إنه لأجل أن تكون واقعيًا، يجب أن تبني على ما بنيته، وليس أن تمحو ما بنيته، ويجب أن نميز بين اليهودي، والصهيوني، والإسرائيلي، فالصهيوني هو من خلق الإسرائيلي، ولكن الإسرائيلي يمكن أن يعيد صياغة هويته، لأن الصهيونية أثبتت أنها هوية عنصرية، على غرار جنوب إفريقيا. السؤال المطروح على الإسرائيليين: هل هم مستعدون لصياغة هويتهم بشكل يستغنون فيه عن الصهيونية؟
“عرب 48”: إذا كنا نتحدث في فترة أوسلو الأولى عن “ما بعد الصهيونية”، فنحن اليوم إزاء صهيونية أكثر تشددًا، هي “الصهيونية الدينية”، التي هي في طريقها إلى الهيمنة على المجتمع الإسرائيلي؟
د. فرسخ: هذه الحرب أثبتت أنه لا تعايش مع الصهيونية، ومن الواضح أن إسرائيل أكثر تصلبًا مع صهيونيتها اليمينية من السابق، ولكن علينا أن ننتظر لنرى إن كانت ستنفجر من الداخل، أو أن التغيير سيأتي من الخارج. ولكن، أنا أقول إنه عند الحديث عن برنامج تحرري فلسطيني، يجب أن نتحدث عن موضوع الدولة الواحدة، ونفسّر فيما إذا كانت دولة “ثنائية القومية”، أو دولة فلسطينية بحتة، يتمتع فيها اليهود بحقوق فردية وثقافية، وأنا ما أراه حلًّا عمليًا وحيدًا، هو طرح دولة كونفدرالية.
وبالنسبة لملاحظتك حول واقعية هذا الطرح، هل كنت تتخيل أن تجلس إسرائيل مع منظمة التحرير الفلسطينية، وتوقّع معها اتفاق (أوسلو)، بعد خمس سنوات فقط من حرب الـ82، التي سعت فيها إلى القضاء على منظمة التحرير، وعلى الشعب الفلسطيني؟
د. ليلى فرسخ: باحثة فلسطينية في مجال الاقتصاد السياسي. تعمل كبروفيسور في العلوم السياسية بجامعة “ماساتشوستس” في بوسطن، وهي متخصصة في مجالات سياسات الشرق الأوسط، والسياسة المقارنة، والسياسة في الصراع العربي الإسرائيلي، ونشرت العديد من الكتب والمقالات في مجالها.