استراتيجية الأمن القومي الأميركي وعقيدة ترامب

دائماً ما تكون استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية موضع اهتمام بالغ، وتحليل دقيق للمحللين السياسيين باعتبار أن الولايات المتحدة الدولة العظمى الأولى والأقوى في العالم، وسياستها مؤثرة بشدة في الحالة الدولية، بالنسبة للرئيس الجديد يعتبر إصدار هذه الاستراتيجية المهمة الأساسية عقب انتخابه، بل خلال حملته الانتخابية، وبالرغم من أن نقاط ضعف هذه الوثيقة يكمن في قصر عمرها على مدى 4 إلى 8 سنوات بحد أقصى، خاضعة لدورة انتخاب الرئيس الأمريكي، حيث كل إدارة جديدة تصدر استراتيجيتها الخاصة، ويُلاحظ من جهة ثانية أن الاستراتيجيات دائماً ما تكون بحاجة لتفسير وتفاصيل وتوضيح، وتكون ذات لغة خطابية مرتكزة على الوعيد والتهديد، وفتح أبواب الجحيم، والعقوبات الاقتصادية القاسية المؤلمة، وتصنيف كل من يخالف الولايات المتحدة ويتحدى سياستها على لائحة «الإرهاب» الأميركية، لابتزاز الحركات الوطنية، والدول «المارقة» باعتبارها داعمة لـ«لإرهاب» أو توفر مأوى آمن لهم. وعلى النقيض من استراتيجيات الرؤساء السابقين الذين يتبجحون بشعار الدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية بينما يعملون وفق سياسة براغماتية تخدم مصلحة الولايات المتحدة، يرى ترامب أن الولايات المتحدة لن تفرض قيمها على الآخرين، ولم تتضمن استراتيجية الرئيس ترامب أي تعهد أمريكي لتعزيز العملية الديمقراطية في العالم، أو الدفاع عن حقوق الإنسان. كما يصعب تحديد أي منطقة ستحتل الأولوية في استراتيجية الأمن القومي، في ظل واقع سياسي واقتصادي متحرك غير مستقر مرشح للتغيرات واحتمال اندلاع النزاعات في أي مكان من العالم المضطرب، وللولايات المتحدة دور في هذه الفوضى العالمية، كما ورد على لسان كوندليزا رايس بنشر الفوضى الخلاقة في الشرق الأوسط.
في ١٨ كانون الأول للعام ٢٠١٧ أعلنت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب استراتيجية الأمن القومي الأميركي، التي حملت شعار حملة ترامب الانتخابية «أميركا أولاً»، فالشعب الأمريكي انتخبه لجعل أمريكا عظيمة من جديد. وأن تضع إدارته أمن ومصالح ورفاهية مواطنيه في المقام الأول. وتعهد بأن ينعش الاقتصاد الأمريكي، ويعيد بناء الجيش، ويدافع عن الحدود، ويحمي سيادة الولايات المتحدة. يقول ترامب: «نحن نعطي الأولوية لمصالح مواطنينا ونحمي حقوقنا السيادية كأمة. أمريكا تستعيد مكانتها الرائدة على الساحة العالمية. نحن لا نخفي التحديات التي نواجهها، بل نواجهها وجهاً لوجه، ونسعى لاغتنام الفرص لتعزيز أمن وازدهار جميع الأمريكيين».
تحدد هذه الاستراتيجية مصادر التهديد للولايات المتحدة وحلفائها التي تأتي من ثلاثة جهات: الأولى: «القوى المنافسة» (روسيا والصين)، والثانية: «الدول المارقة» (إيران وكوريا الشمالية)، والثالثة: «التنظيمات الجهادية الإرهابية» (وأغلبها فلسطينية وعربية)، وخدمة لإسرائيل المعيار الثابت في مختلف وثائق الاستراتيجيات هو ضمان أمن إسرائيل وضمان تفوقها العسكري على كل الدول العربية مجتمعة.
خلال فترة ولايته الأولى في عام 2017، قدم ترامب سياسة «لا منتفعين بالمجان»، وانتقد باستمرار ممارسات الاتحاد الأوروبي التجارية، في وجود حواجز كبيرة في أوروبا تواجه تجارة السيارات والمنتجات الزراعية الأمريكية، في حين يتم بيع ملايين السيارات الأوروبية في الولايات المتحدة، وأعلن أن الاتحاد الأوروبي سيضطر إلى دفع ثمن باهظ لمثل هذه الاختلالات التجارية. وعن هذه الاختلالات جاء في الاستراتيجية:
« أضعفت ممارسات التجارة غير العادلة اقتصادنا وصدّرت وظائفنا إلى الخارج. أدى تقاسم الأعباء غير العادل مع حلفائنا، وعدم كفاية الاستثمار في دفاعنا، إلى جلب الخطر من أولئك الذين يتمنون لنا الأذى. فقد الكثير من الأمريكيين ثقتهم بحكومتنا، وإيمانهم بمستقبلنا، وقيمنا».
يعتقد ترامب أن التعريفات الجمركية سوف تعزز سياسته الاقتصادية «أمريكا أولاً » من خلال خفض العجز التجاري للبلاد مع تحسين القدرة التنافسية للمصنعين الأمريكيين، ليدخل الولايات المتحدة فيما يسميه «عصر ذهبي جديد لأميركا»، حيث نقل عن ترامب قوله «أجمل كلمة في القاموس هي التعرفة الجمركية، وهي كلمتي المفضلة. إنها أجمل من الحب. إنها أجمل من أي شيء آخر». طارحاً شعار الله الوطن الحب التعرفة الجمركية، مثيراً حرباً تجارية كونية ضد الجميع تحت شعار أميركا أولاً، ووصف الواردات الأجنبية بأنها تهديد للأمن القومي، ولا يتم تنشيط الاقتصاد الأميركي وسداد الديون المتراكمة إلا بفرض رسوم جمركية على الواردات إلى أميركا.
وتأثرت أولويات الأمن القومي الأميركي خلال فترة ترامب الثانية بسياسات ولايته الأولى، أبدى عدم رضاه عن أوروبا، وهدد بتقليص التزامات الولايات المتحدة المكلفة تجاه الأمن الأوروبي من خلال تسوية الصراع في أوكرانيا، مؤكداً قدرته على إنهاء حرب أوكرانيا من خلال التفاوض مع بوتين، وصرح بأن دول الناتو ستدفع للولايات المتحدة أيضاً، منتقداً المساعدات الأمريكية المقدمة لحلف الناتو في الحرب ضد روسيا، وأبدى استعداداً للسماح لروسيا بالتحرك بحرية تجاه أي عضو في الناتو لم يلتزم بواجباته المالية تجاه التحالف الدفاعي محاولاً أن يجبر حلفاءه في الناتو على زيادة إنفاقهم الدفاعي، مؤكداً على أهمية المسؤولية المشتركة داخل التحالف، وأشارت الاستراتيجية إلى مسألة التحالفات الدولية مع الولايات المتحدة، حيث أرادت الاستراتيجية الجديدة عدم دخول الولايات المتحدة في تحالفات دولية لا يتقاسم فيه الحلفاء أعباء التحالف، وتدل سياسة ترامب أن أوروبا لم تعد في مركز الاستراتيجية الأميركية، في حين يركز على مناطق أخرى أصبحت أكثر أهمية، بما فيها منطقة المحيطين الهندي والهادي.
في المجال الاقتصادي تتجه رؤية ترامب نحو العلاقات التجارية، التي يراها غير منصفة للولايات المتحدة، ويريد أن يعدلها وفق الشعار «أميركا أولاً»، دون اهتمام إلى ما تؤدي إليه سياسته التجارية بنشوب حرب تجارية تضر بمختلف اقتصاديات العالم. وركزت إدارة ترامب على استراتيجيتها للتعريفة الجمركية حول القضاء على العجز التجاري، والسعي إلى المعاملة بالمثل لإعادة بناء الاقتصاد واستعادة الأمن القومي والاقتصادي، وقد أعلن الرئيس دونالد ترامب: «أن التجارة الخارجية والممارسات الاقتصادية خلقت حالة طوارئ وطنية، ويفرض أمره تعريفات جمركية متجاوبة لتعزيز المكانة الاقتصادية الدولية للولايات المتحدة وحماية العمال الأميركيين».
خلال فترة ولاية ترامب الأولى، كانت الصين المستهدف الأول من حربه التجارية في عام 2018، حيث فرض تعريفات جمركية على سلع صينية، وفي فترة ولايته الثانية كانت الصين أيضاً المستهدف الرئيسي، لكن لم يستثنى من حملة رسومه الجمركية أقرب حلفائه المقربين، حين فرضت واشنطن التعريفات على مختلف الشركاء التجاريين في محاولة لفرض قواعد جديدة قبل توجههما للتفاوض على ترتيبات تجارية جديدة ولتعزيز الهيمنة الأميركية على النظام الاقتصادي العالمي، والإبقاء على سيطرة الدولار الأميركي على التجارة العالمية، والتحكم المطلق بنظام السويفت في التعاملات المالية.
وتعيين مايكل والتز مستشاراً للأمن القومي الأميركي المعروف بآرائه المناهضة للصين ودعمه القوي لإسرائيل يشير إلى أولويات ترامب، وهو يدعو إلى تشريعات تهدف إلى حصار الصين، من خلال تعزيز علاقات واشنطن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ لمنع الهيمنة الصينية في المنطقة. وفي مقابلة مع قناة «فوكس نيوز» عام 2020، وصف والتز الصين بأنها تهديد وجودي للولايات المتحدة. وحدد داليب سينغ، نائب مستشار الأمن القومي الأمريكي للاقتصاد الدولي، رؤيته للعقوبات في خطاب ألقاه في 16/1/2025 بعنوان «مبادئ الولايات المتحدة في إدارة الدولة الاقتصادية». يدعو فيها إلى زيادة كبيرة في استخدام العقوبات، واستخدام النفوذ الاقتصادي والتدابير الصارمة لفرض سيطرة الاقتصاد الأمريكي واستخدام شعار الحفاظ على السلام، واستعادة السلام في أوروبا والشرق الأوسط، بمبادرات تمثلت بادعاء ترامب بقدرته على وقف الحرب في غزة وأوكرانيا، وتمثلت في ربط السلام بالازدهار الاقتصادي، مؤكداً على شعار «السلام من خلال القوة» قوة الإمكانات الاقتصادية والتهديد بالقوة العسكرية، وهو ما تجلى في استراتيجية الأمن القومي لعام 2017 ومبدأ «أمريكا أولاً».
في الشأن الإيراني، تبنت إدارة الرئيس ترامب استراتيجية أن إيران مصدر تأجيج الاضطرابات لأنها تريد تدمير إسرائيل، وأن تقديم التنازلات لإيران يؤدي إلى زعزعة استقرار منطقة الشرق الأوسط، وربطت إدارة ترامب الملف النووي بالملفات الأخرى بما في ذلك الأزمة السورية، وحزب الله، واليمن، وعلى هذا الأساس ألغى ترامب الاتفاق حول الملف النووي الإيراني، وتسعى الآن إلى عقد اتفاق جديد، فما زالت الولايات المتحدة تريد أن تبقى المنطقة مصدراً مستقراً لتدفق النفط والغاز بإعادة توجيه الجهود نحو احتواء نفوذ إيران في المنطقة، استناداً إلى مبدأ «السلام من خلال القوة»، ينوي ترامب الاستمرار في سياسة الضغط القصوى من خلال العقوبات الاقتصادية الصارمة للوصول بالمفاوضات إلى اتفاق بشأن الملف النووي. ستقوم الولايات المتحدة باختيار الدبلوماسية كأداة مفضلة عندها لمنع إيران من امتلاك قنبلة نووية. وتؤكد الولايات المتحدة أنها مستعدة لاستخدام وسائل أخرى في حال فشلت الدبلوماسية، وستعمل مع الحلفاء لردع أنشطة إيران المزعزعة للاستقرار في المنطقة وستتصدى لها.
دعمت استراتيجية الرئيس ترامب الجديدة للأمن القومي إسرائيل بنحو مطلق، وتميزت سياسة ترامب لعام ٢٠١٨ بالسعي إلى حل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني وفق الشروط الإسرائيلية، وتصفية القضية الفلسطينية، وتخلت عن التعهدات الأمريكية السابقة في الشأن الفلسطيني بما يخص حل الدولتين، فاعترف ترامب بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، ونقل سفارة بلاده إليها مما زاد في تعقيد مشكلات المنطقة.
ترى الإدارة الأمريكية أن ما يحدث في منطقة الشرق الأوسط أمر حيوي بالنسبة للمصالح الأمنية الأمريكية. وتعتبر منطقة مهمة وأساسية في استراتيجية الأمن القومي (2024-2028) حيث تحول التركيز في السياسة الخارجية الأمريكية من أوروبا وحلف الناتو نحو الشرق الأوسط، واعداً أثناء حملته الانتخابية بأن ينهي الحرب التي اندلعت في 7 أكتوبر.
وتقوم كل استراتيجيات الأمن القومي على معيار تلتزم به الولايات المتحدة تجاه إسرائيل بأن تضمن لها تفوقها العسكري النوعي والكمي في المنطقة. وتتلخص رؤية الولايات المتحدة إلى شرق أوسط بثلاث محاور: سعيها ألا يكون ملاذاً آمناً أو حاضنة لـ«لإرهابيين» الجهاديين، ولا تخضع لهيمنة أي قوة معادية لها، ويساهم في استقرار سوق الطاقة العالمي.
خلال ولايته الأولى، عمل ترامب حسب شعار السلام من أجل الازدهار، تحولت بموجبه الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني إلى مجرد قضية معيشية يتم تحسينها ومعالجتها بمشاريع اقتصادية وتنموية، تحت سقف أمن إسرائيل، وتصفية القضية الفلسطينية بإقامة حكم إداري ذاتي محدود على الشعب دون الأرض، في ظل الهيمنة الإسرائيلية الكاملة، مقابل سلسلة من المشاريع التي لو نفذت تسهم في رفع المستوى المعيشي للفلسطينيين. كانت أولوية السياسة الأميركية لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية، لكن المملكة العربية السعودية أصرت على أن إحراز تقدم نحو حل الدولتين لحل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني بمثابة شرط أساسي للتطبيع. ومع ذلك، فإن الحرب في غزة شكلت عائقاً كبيراً أمام تحقيق اتفاق بين الولايات المتحدة والسعودية وإسرائيل على غرار اتفاقيات أبراهام 2020.
أما خطة السيطرة على قطاع غزة وتملكها، وفكرة نقل الفلسطينيين إلى خارج قطاع غزة، والتي تأتي في إطار استراتيجية تصفية القضية الفلسطينية، فيقول مسؤولون في إدارة ترامب أنها تشكلت مؤخراً وعرضها على مساعديه من الدائرة المقربة قبيل لقائه رئيس وزراء إسرائيل في زيارته الأولى يوم الثلاثاء 5/2/2025 بعد أيام من تولي ترامب منصبه وتفاجأ نتنياهو بها.