الغزيّون على مذبح الفقد… فهل من مُنقذ؟!

غزة، تلك البقعة الصغيرة من الأرض، تواصل نزفها بصمت، حيث ينهشها الحصار، وتبتلعها النيران، ويتجرّع أهلها مرارة الفقد بلا توقف. منذ السابع من أكتوبر، حين اندلعت الحرب الأشد قسوة، يعيش الغزيون تحت وابل القصف والمجازر، حيث تجاوز عدد الشهداء والجرحى عشرات الآلاف، في مشهد يعيد إلى الأذهان نكبات متكررة لا تنتهي. وبعد هدنة لم تصمد طويلًا، استؤنفت الحرب بعد شهرين، لتكمل ما بدأته من دمار وتشريد، وكأن غزة قد كُتب عليها أن تكون ساحة حرب أبدية.
أضحت غزة مدينة بلا ملامح… حياة بلا أمان.. لا شيء أقسى من أن يجد الإنسان نفسه بلا مأوى، بلا عائلة، بلا وطن يحتضنه. في غزة، البيوت ليست مجرد جدران، بل ذاكرة ممتدة، تاريخ يحكي عن حياة لم تكتمل، وأحلام وأدتها القذائف قبل أن ترى النور. ولم يعد الحديث عن المنازل المدمرة كافيًا لوصف حجم الكارثة، فهناك أحياء بأكملها مُسحت من الخارطة، حيث الخراب يطغى على المشهد، والموت يحوم في كل زاوية ومكان.
حياة الغزيين لم تعد تدور حول السعي إلى مستقبل أفضل، بل حول النجاة من يومهم الراهن. تتغير ملامح الموت في كل حرب، لكنه يظل حاضرًا، يقتحم البيوت في لحظة، ويحصد الأرواح بلا تمييز. وفي ظل هذا الواقع، يطرح الفلسطيني تساؤلاته بمرارة: "لماذا يُقتَل أطفالي؟ لماذا يُقصَف بيتي؟ لماذا يُحرَم أبي من علاجه؟" لكن الإجابات تظل مفقودة، غائبة بين صمت العالم وتواطؤ القريب.
وأصبح الموت في كل مكان… والصمت سيد الموقف.. أين العالم مما يحدث؟ هل تحوّلت المذابح إلى مشاهد روتينية لا تستدعي الغضب؟ وهل أصبح الألم الفلسطيني مجرد خبر عابر في نشرات الأخبار؟ إن غزة اليوم ليست بحاجة إلى بيانات الشجب والاستنكار، بل إلى موقف حقيقي، إلى تحرك يوقف هذا النزيف المستمر، إلى منقذ ينقذ ما تبقى قبل أن تصبح غزة ذكرى تُروى للأجيال القادمة عن مدينة كانت يومًا على قيد الحياة.
في كل حرب تشهدها غزة، يتكرر السيناريو ذاته: دمار واسع، آلاف الشهداء، عشرات آلاف الجرحى، ثم يقف العالم ليراقب بصمت. يُسمح للقاتل أن يواصل جرائمه، فيما يُترك الضحية لتدفع الثمن وحدها. أما الدول الكبرى، فتواصل لعبتها المعتادة، تُدين القصف في العلن، لكنها تواصل دعمه في السر. وحتى المؤسسات الإنسانية التي يُفترض بها أن تكون صمام الأمان للمدنيين، أصبحت عاجزة عن تقديم الحد الأدنى من المساعدة، في ظل حصار خانق يمنع حتى دخول الدواء والغذاء.
إن المنقذ الحقيقي لغزة لن يأتي من الخارج فقط، بل يجب أن يكون جزءًا من الداخل الفلسطيني، من وعي جديد يدرك أن مواجهة الاحتلال لا تكون فقط بالسلاح، بل أيضًا بوحدة الموقف، ببناء مؤسسات قوية، بوضع رؤية سياسية واضحة تعيد الاعتبار للقضية على المستوى الدولي.
لكن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أن التغيير الحقيقي يجب أن ينبع أولًا من داخل البيت الفلسطيني، من إرادة حقيقية لتوحيد الصفوف، وإنهاء الانقسامات التي استنزفت القضية أكثر مما فعل الاحتلال. فالقضية الفلسطينية ظُلمت كثيرًا بسبب تشتت المواقف، والخلافات التي استغلها الاحتلال لصالحه، وحان الوقت لمراجعة الحسابات، وإعادة ترتيب البيت الفلسطيني ليكون قادرًا على التصدي لهذا العدوان المستمر. فليس من المنطقي أن يبقى الشعب الفلسطيني وحده في هذه المواجهة، فيما تتصارع قياداته على النفوذ والمصالح.
وحين يصبح الصمود خيارًا وحيدًا..  ويبقى صمود الغزيين أسطوري أمام آلة الحرب. يقول رغم كل شيء: "ما زلنا هنا، لن نرحل، ولن نكسر". لقد أثبتت غزة مرارًا أنها ليست مجرد مدينة، بل حالة استثنائية من الصمود والمقاومة. فبينما يبحث العالم عن حلول سياسية لا تأتي، يواصل أهل غزة حياتهم رغم الموت، يبنون مجددًا رغم الخراب، ويبتسمون رغم الدموع.
لكن السؤال يظل معلقًا في الهواء: إلى متى؟ متى ينتهي هذا الحصار الذي لم يعد مجرد إغلاق للمعابر، بل أصبح سجنًا كبيرًا يضيق على سكانه حتى في أبسط حقوقهم؟ متى يُكتب للغزيين يومٌ بلا خوف، ليل بلا قصف، صباح بلا دموع؟ صباح بلا فقد؟!
ومع ذلك، لا تزال غزة تدفع فاتورة بقائها رغم أن العالم يتجاهل معاناتها، ويتركها وحدها في مواجهة آلة الحرب. فالغزيون لم يعودوا بحاجة فقط إلى الدعم الدولي، بل إلى موقف فلسطيني موحّد، قادر على وضع حد لهذا النزيف المستمر.
لكن هذا الأمل بحاجة إلى دعم حقيقي، إلى موقف عربي ودولي أكثر جدية، إلى تحرك ينهي هذه المأساة المستمرة منذ عقود. فغزة لا تطلب المستحيل، بل تطلب حقها في الحياة، في الأمان، في أن يستيقظ أطفالها صباحًا دون أن يكون أول ما يسمعونه هو صوت الانفجارات، وسماع فقدان أحبتهم.
وإن كان هناك منقذ، فليتحرك الآن، قبل أن تصبح هذه المدينة أسطورة تُروى عن مكان كان يومًا نابضًا بالحياة، قبل أن تلتهمه النيران وتبتلعه الذاكرة.

disqus comments here