قضية فلسطين تعود لجذورها.. ملحمة بطولية ومخاض نحو التحرير

ملحمة بطولية ومخاض صعب يخوضه الشعب الفلسطيني في معركة سيف القدس. وتحولات إستراتيجية تعيشها فلسطين المحتلة من شمالها لجنوبها، ومن بحرها لنهرها. فلهيبُ الغضب والنار تشتعل في وجه الكيان المحتل الصهيوني في كل مكان، بعد تماديه في الغطرسة والعربدة وإصراره على طرد الفلسطينيين من بيوتهم في القدس وحي الشيخ جراح على مرأى ومسمع العالم أجمع، بل وعلى الهواء مباشرة!
لم يتوقع المحتل في خضم ابتهاجاته الهزلية بوهم تطبيع الأنظمة، أن عنجهيته بالاستفراد بأهالي القدس ستنقلب عليه جحيما في كل مكان، عندما قالت المقاومة كلمتها وفرضت قواعدها، وكسرت أنف المحتل، وحوّلت مسيرة المستوطنين المحتلين في القدس نحو الملاجئ مخذولين. بعد أن أمطرتها بصواريخ المقاومة التي أعادت وحدة فلسطين أرضًا وشعبًا من جديد.
يألمون كما نألم.. ونرجو وطنًا حرًّا
لا شك أن الخسائر كبيرة، ووجه المحتل الوحشي وإجرامه يتضح جليا في كل مواجهة يخوضها مع الشعب الفلسطيني، والشواهد على ذلك لا تعد ولا تحصى، آخرها مجزرة مخيم الشاطئ فجر اليوم حين استهدفت طائرات المحتل الإجرامية الجبانة منزلا سكنيا، قتلت فيه بوحشية 8 أطفال وامرأتين. ليرتفع عدد الشهداء حتى اللحظة إلى 139 شهيدا منهم 39 طفلا و22 امرأة، هذا بالإضافة إلى 11 شهيدا بالضفة المحتلة ومئات الجرحى والمعتقلين في القدس والأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948.
ورغم كل الآلام تتوالى المواقف العظيمة لشعبنا، والتي يقهر فيها عدوه بصموده. وفي الوقت الذي ترى فيه الذعر على وجوه المحتلين الغرباء، يتمنّون الهرب من حيث جاؤوا محتلين لهذه البلاد، تلاقي شجاعة منقطعة النظير عند أبناء شعبنا تحت القصف، وفي داخل البيوت المعرضة للاستهداف، يرفضون إجلاءها. وحين يتحدث العدو عن استهداف قادة المقاومة، يسخرون منه قائلين: "سنعيدهم قريبا على شكل صواريخ تدك حصونكم".
وشاهد العالم بأسره أمهات الشهداء وأهاليهم يزفون أبناءهم إلى العلياء بثبات واعتزاز على طرق الحرية والتحرير، وفداء للمسجد الأقصى المبارك.
أم محمد العابد خنساء فلسطين ظهرت بشموخ وعزة وهي ترثي ابنها الشهيد الثالث فداء للأقصى قائلة: "الشباب بتتعوض بس الأقصى ما بيتعوض"، أما زوجته الصابرة المحتسبة فوعدته في وداعه أن تربي أولاده الأربعة على الطريق ذاتها.
وجنبا إلى جنب مع حاضنتهم الشعبية، دكت المقاومة الفلسطينية الباسلة الكيان المحتل بأكثر من 2500 صاروخ حتى اليوم، وأدخلت المحتلين إلى الملاجئ وأغلقت مطاراتهم ومصانعهم ومحالهم التجارية ومدارسهم، بعدما طال صاروخ العياش بمدى 250 كيلومترًا مطار رامون جنوب فلسطين المحتلة. كما قتل 9 صهاينة محتلين، وأصيب أكثر من 500، حسب اعترافات العدو.
فلسطين توحدها المقاومة
الكيان المحتل بات يعيش حالة رعب وهلع إضافية بعدما انتشر الغضب الفلسطيني في المدن الفلسطينية بالداخل المحتل، حتى وصف وزير الحرب الصهيوني مظاهرات فلسطينيي 1948 بأنها "لا تقل خطورة عن صواريخ حماس"، حسب وكالة رويترز.
وتواصلت احتجاجات فلسطينيي الداخل المحتل في عدّة مدن وبلدات تواليًا، بالتوازي مع فعاليات مماثلة في حيّ الشيخ جراح بالقدس، كما اشتعلت مدن الضفة الغربية المحتلة، والحدود الفلسطينية مع الأردن ولبنان؛ في مشهد فلسطيني جامع توحَّد خلف راية المقاومة والانتفاضة في وجه المحتل.
يقول الباحث الفلسطيني ساري عرابي، في مقال له: ".. إن الطريق الصحيحة (المقاومة) وحدها التي توحّد الفلسطينيين، وتلفهم، وتجمعهم، تماما كما كانت أبدا. وفي هذا الإطار ظهر الاندماج الملحمي بين القدس وغزّة، وبينهما فلسطين المحتلة عام 1948، والضفّة الغربية. فالمواجهة وحدها المجدّدة للروح الوطنية، والرافعة لمعنويات الفلسطينيين، والمحطّمة لسياسات الأسرلة والدمج والهندسة الاجتماعية والتفريق القهري ومحو الذاكرة النضالية".
وأضاف عرابي أن الأصل في سلاح المقاومة أنّه سلاح فلسطيني، وليس سلاحا جهويّا أو مناطقيًّا، والمقاومة في غزّة من جهةٍ امتدادٌ للإرث الكفاحي للفلسطينيين، ومن جهة مباشرة استمرارٌ طبيعيّ لمقاومة الانتفاضة الأولى، ومراكمة عضوية لـمقاومة الانتفاضة الثانية؛ فهي في الأصل جزء من حالة فلسطينية شاملة، انحصرت في غزّة بسبب السياسات المتباينة بين الساحات الجغرافية، وسياسات التمييز في الظروف التي يفرضها الاحتلال.
العالم ينبذ "إسرائيل"
وفي تواصل المواجهة، وتتالي الإجرام الصهيوني. انتفض -اليوم السبت- مئات آلاف البريطانيين في شوارع وسط لندن؛ تضامنا مع الشعب الفلسطيني، واستنكارا للعدوان الصهيوني، في حين بدأت التظاهرة وسط العاصمة، وزحفت باتجاه سفارة الاحتلال وسط هتافات غاضبة ضد الاحتلال. وعدّ المشاركون في المسيرة أن "هذه أكبر تظاهرة في تاريخ بريطانيا للتضامن مع الشعب الفلسطيني".
كما عبر عشرات المشاهير والمؤثرين حول العالم عن تضامنهم الشديد مع الشعب الفلسطيني وقضيته، ونشر المطرب البريطاني الشهير روجر ووترز، عضو فرقة "بينك فلويد"، مقطع فيديو على حسابه في "تويتر"، تضامن فيه مع فلسطين، وهاجم دعم الإدارة الأمريكية والرئيس جو بايدن للاحتلال الإسرائيلي. وخاطب الرئيس الأمريكي قائلا: "كيف تحب ذلك جو بايدن؟ أن تكون جالسا في منزلك حيث عاشت عائلتك مئات الأعوام ويأتي أحمق ليقول لك هذا البيت لي"!
وكان المفكر اليهودي المناهض للصهيونية نعوم تشومسكي، علق على ما يحدث في فلسطين، قائلا: "أخذتَ مياهي، وحرقتَ أشجار زيتوني، ودمرتَ بيتي، وأخذتَ عملي، وسرقتَ أرضي، وسجنتَ أبي، وقتلتَ أمي، وهدمتَ وطني، وجوَّعتنا وأذللتنا جميعا، وتلومني أن أرد صاروخا إليكم". وانتقد تشومسكي الإدارة الأمريكية بشدة قائلا: "لولا المساعدات الأميركية لما قتلت إسرائيل الفلسطينيين جماعيًّا".
وفي هذه المواجهة تحديدا، خسر الصهاينة كثيرا من تأثيرهم الإعلامي، وفقدت روايتهم الثقة عالميًّا، في ظل الانتشار الواسع لوسائل التواصل الاجتماعي حول العالم، وفقدان الإعلام التقليدي سيطرته التقليدية على الرواية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية. فوصلت رسالة الشعب الفلسطيني إلى الملايين من شعوب العالم من خلال هذه الوسائل، ونشط أحرار العالم من كل الشعوب والديانات ينبذون أفعال الصهاينة القذرة بحق أرض فلسطين وشعبها.
فلسطين جوهر الصراع
كما أعادت هذه المواجهة المفتوحة الاعتبار للقضية الفلسطينية؛ لكونها جوهر الصراع في المنطقة وأساس استقرارها، كما أكد ذلك خبير الدراسات المستقبلية والاستشرافية، البروفيسور وليد عبد الحي، في مقال له ، موضحا أن المواجهة أحيت فكرة أن جوهر الصراع في المنطقة هو الموضوع الفلسطيني، وأن حل هذا الصراع هو أمر جوهريّ، وهو ما يعني أن محاولة تهميش الموضوع الفلسطيني أمر ليس بالبساطة التي حاولت جهات مختلفة الترويج لها.
وأضاف أن عدَّ القدس عاصمةً موحدةً لـ"إسرائيل" أصابه بعض التشكيك، فهذه الاشتباكات داخل القدس، ووصول الصواريخ الفلسطينية إلى مدينة القدس ذاتها مترافقة مع التوجه لاحتفالات "إسرائيل" بذكرى استكمال احتلالها للقدس عام 1967 تجعل من اعتبار القدس عاصمة موحدة لـ"إسرائيل" أمرا حوله جدل كبير، ولم يتم التعامل معه كمسلَّمة سياسية في إطار الصراع العربي الصهيوني.
وتابع عبد الحي: "تدل المواجهة أن قدرة المقاومة من الناحية العسكرية تحسنت بقدر واضح"، لكن ذلك لا ينفي أن ثمن المواجهة لن يكون هيّنًا، بيد أنّ متابعة الإعلام الصهيوني يدل بوضوح أنّ هناك نوعًا من "الإنهاك النفسي" للمجتمع الإسرائيلي الذي يشعر بأنه يعرف اشتباكا يوميًّا هنا وهناك منذ أكثر من 54 سنة، بخاصة مع تزايد تراجع تأييد الرأي العام الدولي لـ"إسرائيل" حتى في بعض الدول المؤيدة تقليديا لها.
وتدل تقارير وزارة الصحة الإسرائيلية أن أعلى معدل انتحار في "إسرائيل" هو في مستوطنات "غلاف غزة"، ويقول عبد الحي: لا أظن أن ذلك جاء مصادفة؛ بل هو –كما يؤكد علماء النفس الإسرائيليون-نتيجة الإنهاك النفسي والقلق النفسي الشديد والمتواصل، ولعل معارك غزة ووصول الصواريخ للقدس وتل أبيب يعمم هذا الإنهاك من مستوطنات "الغلاف" إلى لبّ الكيان الإسرائيلي نفسه.
الكيان إلى زوال قريب
وبالحديث عن المعطيات السابقة ازداد التفاؤل العام بقرب زوال الكيان المحتل وغطرسته، وفي حين يرى بعضٌ أنه من المبكر الحديث عن الزوال الكامل، يرى آخرون أن إشارات كبيرة تدل على اقتراب هذا الوعد.
المفكر المصري الراحل عبد الوهاب المسيري قضى نحو ربع قرن في كتابة موسوعته "اليهود واليهودية والصهيونية"، وفي شهور عمره الأخيرة –قبل وفاته عام 2008- تحدث المسيري بوضوح عن توقعاته لـ"نهاية قريبة" لـ"إسرائيل"، ربما خلال خمسين عاما، كما قال في حوار مع وكالة رويترز.
يقول المسيري: إن هذه الدولة ستواصل التقهقر، وإن المقاومة الفلسطينية ستنهكها إلى أقصى حد حتى وإن لم تتمكن من هزيمتها، ما سيجعلها مرشحة للانهيار خلال بضعة عقود؛ لأن "الدورات التاريخية أصبحت الآن أكثر سرعة مما مضى".
ويوضح قائلا: "في حروب التحرير لا يمكن هزيمة العدو، وإنما إرهاقه حتى يُسلم بالأمر الواقع"، مضيفا أن المقاومة في فيتنام لم تهزم الجيش الأميركي، وإنما أرهقته لدرجة اليأس من تحقيق المخططات الأميركية وهو ما فعله المجاهدون الجزائريون على مدى ثماني سنوات في حرب تحرير بلدهم من الاستعمار الفرنسي.
ويرى المسيري أن الفكر الإستراتيجي الإسرائيلي خلص إلى استحالة حل مشكلة "المقاومة"، وأنه يحاول فقط التقليل من تأثيرها.
ليس المسيري فحسب من توقع قرب زوال "إسرائيل"؛ بل سبقه لذلك المؤرخ الصهيوني المتطرف بيني موريس الذي رسم صورة قاتمة لنهاية "إسرائيل"، يقول موريس في حوار أجرته معه صحيفة هآرتس الصهيونية: "لا أرى لنا مخرجا"، وذلك في معرض حديثه عن فرص إسرائيل في البقاء كـ"دولة يهودية".
وتقاطع معه في الرأي أفراهام بورغ، السياسي الصهيوني المخضرم، والذي تقلد رئاسة الكنيست لأربع سنوات، ورئاسة "الوكالة اليهودية من أجل إسرائيل"، و"المنظمة الصهيونية العالمية".
في عام 2007، أثار بورغ عاصفة حين نشر كتابه "هزيمة هتلر" الذي يشبّه فيه حال "إسرائيل" بحال ألمانيا النازية قبيل هزيمتها. ولا يزال بورغ ينشر هذه الفكرة التي يلخصها بالقول: إن "إسرائيل غيتو صهيوني يحمل أسباب زواله في ذاته". وقال في العديد من حواراته الصحفية: "اسأل أصدقاءك إن كانوا على يقين من أن أبناءهم سيعيشون هنا، كم منهم سيقول: نعم؟ 50% على أقصى تقدير. بعبارة أخرى، النخبة الإسرائيلية انفصلت عن هذا المكان، ولا أمة دون نخبة". ويفخر بورغ بأنه يحمل جواز سفر فرنسيا اكتسبه لزواجه من امرأة فرنسية المولد، وحين سئل إن كان يوصي الإسرائيليين بالحصول على جواز ثانٍ، قال: إنّ كل من يستطيع عليه أن يفعل ذلك.
حلم التحرير.. الفطرة السليمة
أستاذ العلوم السياسية بجامعة الخليل، بلال الشوبكي يقول في منشور له على صفحته على فيسبوك: أتابع منذ أيّام عشرات المنشورات التي تعبّر عن أملٍ ينمو كلّ ساعة بإمكانية التحرير، وما من سويّ الفطرة إلّا وداعبه هذا الأمل الجميل.
ب الأيام لهو ضغط غير مقصود على المقاومة، وقد يعود بنتائجَ عكسية على المجتمع عنوانها الإحباط، خصوصاً حين نعود إلى تهدئة محتملة في أيام قادمة".
ويؤكد الشوبكي أنّ أهمّية الخطاب الإعلامي في هذه اللحظة لا تقلّ عن أهمّية الفعل الميداني، مشددا على أنه "ما يجب أن يركّز عليه أنّ مسيرة التحرير طويلة، وهذه إحدى مراحلها. كما أنّ النضال الفلسطيني في غزة والقدس والمدن المحتلة عام 48 والضفة الغربية قد أنجز ما ينبغي أن ينجزه في هذه المرحلة".