محلل أمريكي: انتظار أمريكا والصين تحقيق الفوز الكامل ينسف فرص التقارب

شهدت الأيام الماضية تحركات أمريكية مكثفة لتهدئة التوترات الدبلوماسية والتجارية مع الصين، منذ  اتفاق الرئيسين الأمريكي جو بايدن والصيني شي جين بينغ على إطلاق عملية احتواء التوترات الثنائية خلال لقائهما في منتجع بالي الإندونيسي في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي. وزار وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بكين وبعده زارتها زميلته وزيرة المالية جانيت يلين ثم المبعوث الرئاسي الأمريكي لشؤون المناخ جون كيري، ومن المتوقع أن تزورها وزيرة التجارة جينا رايموندو في وقت لاحق من الشهر الحالي، في حين تلقى وزير الخارجية الصيني وانغ يي دعوة لزيارة واشنطن.

 لكن بول هير الباحث الكبير غير المقيم في مجلس شيكاغو للشؤون العالمية والمسؤول في إدارة شرق آسيا بمجلس الاستخبارات الوطني الأمريكي خلال الفترة من 2007 إلى 2015 يرى في تحليل نشره موقع مجلة ناشونال إنترست الأمريكية أن التقدم المهم نحو تخفيف التوترات الثنائية وتعزيز قوة الدفع الإيجابية في العلاقات بين واشنطن وبكين يعاني من الجمود. فوزير الخارجية الأمريكي وزملاؤه في إدارة الرئيس جو بايدن يؤكدون أن هدف هذه الجهود هو “المحافظة على قنوات الاتصال مفتوحة” و”إدارة التنافس بطريقة عقلانية من خلال تقليل خطر إساءة الفهم وأخطاء الحسابات”. في المقابل يتذرع المسؤولون الصينيون بضرورة المضي قدما وفق عملية بالي، ويؤكدون سعي الصين لإقامة علاقات تستند إلى مبادئ “الاحترام المتبادل والتعايش السلمي  والتعاون المفيد للجانبين”. ويكرر الصينيون كما هو متوقع تماما اعتراضاتهم على السياسة الأمريكية تجاه “مسألة تايوان” التي مازالت “جوهر المصالح الأساسية للصين”.

 ومن العقبات التي تعرقل التقارب الصيني الأمريكي، رفض بكين عقد لقاء بين وزير الدفاع الصيني لي شانجفو ونظيره الأمريكي لويد أوستن مادام الأول مازال خاضعا للعقوبات التي فرضتها عليه واشنطن  في عام 2018 بدعوى دوره السابق في عمليات نقل أسلحة روسية إلى الصين. في المقابل وافق لي في الشهر الماضي على لقاء وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر خلال زيارته لبكين. كما استقبل شي جين بينج نفسه الوزير والمفكر الاستراتيجي المخضرم كيسنجر، في حين لم يستقبل كيري ولا يلين.

وانتقدت الكثير من التعليقات الأمريكية كلا من بكين وكيسنجر بسبب هذه الزيارة. وقال المنتقدون إن الصينيين يختارون المحاورين الأمريكيين الذين يحققون مصالحها، وإن كيسنجر يعمل دائما كقناة لنقل المواقف الصينية. لكن هذه الانتقادات مبالغ فيها. فالصينيون أنفسهم يدركون محدودية نفوذ كيسنجر في واشنطن. كما أن الرئيس الأمريكي لا يستقبل عادة المسؤولين الحكوميين الصينيين الذين يزرون واشنطن، إلى جانب أنهم يعترفون بالدور التاريخي لكيسنجر في تطوير العلاقات الأمريكية الصينية، بحسب بول هير مؤلف كتاب “السيد شي والمحيط الهادئ: جورج إف. كينان والسياسة الأمريكية في شرق آسيا”.

 في الوقت نفسه فإن الاهتمام الذي حظيت به زيارة كيسنجر وبخاصة لقائه مع وزير الدفاع  لي يؤكد أن العلاقات الأمريكية الصينية عالقة في مسار دوار. وقال بلينكن في مقابلة تالية إن العقوبات الأمريكية على لي “لا تمثل عائقا عمليا” أمام لقائه بالمسؤولين الأمريكيين، ولذلك فإن قرار  بكين بشأن لقاءات الوزير هو “قرار سياسي”.

وفي سياق منفصل يقول كروت كامبل المنسق الأمريكي لشؤون منطقة المحيطين الهندي والهادئ إن تجنب الصين للحوار العسكري مع الولايات المتحدة، هو نتيجة ثانوية  للعلاقات المدنية-العسكرية الصينية وغيرها من القضايا الهيكلية، وقد لا ترتبط بشكل مباشر بحالة العلاقات الأمريكية الصينية.

 كما أنه من أسباب عدم تقدم العلاقات الأمريكية الصينية الأمريكية بشكل إيجابي هو تماثل الطريقة التي يتعامل بها الجانبان مع العلاقات. ولا يريد أي منهما الاعتراف بهذا التماثل، وربما لا يستطيعان الاعتراف به. فكل من واشنطن وبكين تؤكدان أهمية استئناف التواصل الجوهري، لكن كلا منهما يسعى إلى أن يظهر الطرف الثاني بمظهر الأحرص على التقارب، في محاولة لكي يدعي الآخر أنه صاحب اليد العليا في العلاقات. باختصار، كل طرف يرغب في بدء عملية التقارب، لكن وفق الشروط  التي تخدم أجندته الخاصة.

 ويقول هير في تحليله بمجلة ناشونال إنترست إن هناك تماثلا في التحركات غير الودية من الجانبين، مما يواصل تقويض احتمال تحقيق تقدم حقيقي في التقارب. فالأنشطة العدائية والاستفزازية التي تقوم بها الصين تمتد من السلوك العسكري العدائي في بحري الصين الجنوبي والصين الشرقي إلى الهجمات السيبرانية والممارسات الاقتصادية غير المقبولة، والدبلوماسية المناوئة للمصالح الأمريكية. في الوقت نفسه تواصل الولايات المتحدة تشديد القيود على الصادرات والاستثمارات الأمريكية والغربية بشكل عام إلى الصين،  كما تنخرط واشنطن في تحركات دبلوماسية ثنائية ومتعددة الأطراف بهدف مواجهة النفوذ الصيني. علاوة على ذلك أعلن البيت الأبيض مؤخرا صفقة سلاح جديدة  لتايوان بقيمة 345 مليون دولار،  في حين من المتوقع السماح لنائب الرئيس الصيني لاي شينج تي بالتوقف في الولايات المتحدة، في طريقه إلى باراجوي في وقت لاحق من الشهر الحالي، وهي تصرفات تغضب الصين بشدة.

لكل هذه الأسباب، من غير الصعب معرفة لماذا لم تحقق الاندفاعة الدبلوماسية الأخيرة  التي جاءت على أعلى مستوى بين الصين والولايات المتحدة انفراجة ملحوظة  نحو علاقة عمل بناءة، ناهيك عن علاقة مفيدة متبادلة، والتي ستكون ضروية للجانبين في نهاية المطاف. كل طرف من الطرفين يعمل بجد للوصول إليها، لكنه ينتظر أن يعترف الطرف لآخر بخطأ طريقته في التعامل، أو على الأقل أن يقدم تنازلا ذا معنى لكي يكسر الجليد بينهما. كما أن كلا الجانبين يؤمنان بقدرتهما على تحمل الوضع العالق بدعوى أن لديهما أرضية أخلاقية جيدة مع توازن النفوذ.  كما أن كل جانب يبالغ في تقدير موقفه ولا يقدر موقف الطرف الآخر حق قدره.

 لذلك على واشنطن وبكين إدراك التماثل في المعادلة، وإدراك أن إنكار وجوده، يؤدي إلى مزيد من سوء الفهم وانعدام الثقة، وربما إلى الانزلاق الحتمي نحو الصراع. ولن يضمن أي طرف استسلام الطرف الآخر ولا حتى التفوق عليه بصورة دائمة. إنما الطريقة الوحيدة المجدية  للخروج من دائرة التوتر هي الدبلوماسية التي تستهدف منع التصعيد والفهم المتبادل والاهتمام المتزايد بالمخاوف الأساسية لكل طرف.  كما ينبغي استكمال هذا بالتصميم على أن يكون الجهد المبذول لصياغة مجالات للتعاون بنفس قدر الجهد المبذول لإدارة مجالات المنافسة الحتمية بين الجانبين.

 أخيرا على واشنطن البحث عن سبل جذب بكين إلى السعي الجاد من أجل التعايش السلمي التعاوني والتنافسي في الوقت نفسه، بدلا من الإصرار على لعبة إلقاء الاتهامات والسعي إلى التفوق المطلق. أما إذا ظل التوافق الحزبي في واشطن على “معاداة الصين” فستظل العلاقات الصينية الأمريكية تتجه نحو مزيد من العداء المتبادل وربما العدوانية.

disqus comments here