الفتنة النائمة التي أيقظها نتنياهو هل للفلسطينيين مصلحة في مواجهتها؟

تعيش إسرائيل منذ قيامها كدولة في مايو 1948 من دون دستور. وعندما وضع الكنيست عددا من القوانين الأساسية، فإن هذه القوانين استندت إلى مفاهيم «الديمقراطية الليبرالية» التي تقوم على مبادئ الفصل بين السلطات، واستقلال القضاء، واحترام الحريات الفردية، والمساواة بين الأفراد في الحقوق والواجبات. بنيامين نتنياهو يريد الآن الإطاحة بهذه المبادئ، تحت شعار «إصلاح النظام القضائي»، بغرض وضع النظام تحت رحمة الأغلبية الحاكمة في الكنيست، حتى لو كانت بصوت واحد، فيكون تعيين قضاة المحكمة العليا بواسطة لجنة تختار الكنيست أغلبيتهم، ويمكن نقض أحكامها بواسطة الكنيست، وتقرر الكنيست لها ما تقبله تحت ولايتها وما لا تقبله. محاولة انقلاب نتنياهو القضائي، تمثل تجسيدا عمليا لإقامة «نظام حكم أوتوقراطي»، تحت لافتة ديمقراطية شكلية.

خطورة تسييس القضاء

إذا نجحت محاولة نتنياهو، فإنها ستنقل العلاقات بين الحكومة الإسرائيلية والداخل بمكوناته الاجتماعية المختلفة من الحيز السياسي إلى الحيز الديني، ما يعني أن تلك الصراعات يمكن أن تستمر إلى الأبد. الذين يدركون خطورة ما يحاوله نتنياهو متحالفا مع قوى اليمين الصهيوني المتطرفة، يخرجون ضده بعشرات الآلاف كل أسبوع، في مسيرات حاشدة في أهم مدن إسرائيل تقريبا، رافضين خطة تخريب القضاء، مطالبين بتأكيد «استقلال القضاء» وعدم تسييسه، أو تهويده بالمعنى المتشدد للكلمة. الصهيونية الدينية المتطرفة، الحليف الأساسي لنتنياهو، هي تيار يمثل أحد روافد ثقافة تقوم على التمييز والقهر، وترسيخ عدم المساواة، سواء بين الرجل والمرأة، أو بين الأغلبية والأقلية، وغيرها من الصور. ويقع في وهم كبير من يعتقد أنه يستطيع النجاة من التمييز، لأن الأفراد على تنوعهم معرضون له من جانب المتشددين، فإذا كنت فلسطينيا فسيكون التمييز ضدك لأنك فلسطيني، وإذا كنت مسيحيا أو مسلما فسيتم التمييز ضدك لأنك غير يهودي، وإذا كنت تنتمي لأقلية من الأقليات، حتى لو كنت يهوديا من الفلاشا مثلا، فسيتم التمييز ضدك لأنك لا تنتمي لليهود البيض. قوى الصهيونية الدينية المتطرفة لن تتركك وشأنك.. لن تترك المرأة وشأنها، وإنما ستفرض عليها مبررات التمييز في التعليم وفي العمل! هذا يبدو فعلا من الآن؛ فقد لاحظ كثيرون أن تعيينات مناصب مديري الوزارات الأخيرة، لم تتضمن امرأة واحدة، وأن الدعوات تتعالى للفصل بين الجنسين في بعض مراحل التعليم! في الصور المنشورة للمسيرات الحاشدة المعارضة لما يسمى «الإصلاح القضائي» تجد سياسيين وعلماء ورؤساء بنوك ورواد أعمال وسيدات وطلبة وتكنوقراط ومخترعين، يحذرون من تسييس النظام القضائي. ربما يكون الأمر صعبا بالنسبة للفلسطينيين حتى ينخرطوا في هذه الاحتجاجات، لأن منهم من لا يجد فرقا بين «الصهيونية السياسية» و»الصهيونية الدينية المتطرفة». عدم إدراك الفروق بينهما يتسبب في إخفاء ثلاث حقائق مهمة:
*الحقيقة الأولى، أنه منذ تمرير قانون يهودية الدولة الإسرائيلية عام 2018 يوجد صراع بين تيارين في إسرائيل؛ الأول يريد أن يستخدم القانون للتنكيل بالديمقراطية والتخلص مما تبقى منها في نظام الحكم، وتغليب الهوية الدينية اليهودية المتطرفة على الهوية المدنية للدولة. ويعرف كثير من الإسرائيليين الآن خطورة التحول إلى دولة دينية. ولا شك في أن للفلسطينيين مصلحة في بقاء الهوية السياسية المدنية للدولة، سواء عاشوا داخلها، أو أقاموا دولة لهم بجوارها، لذلك فإن الدفاع عن «مدنية الدولة»، والعمل على خلق توازن بين «الهوية الدينية اليهودية»، و»الهوية السياسية المدنية» يظل مسألة تصب في مصلحة الفلسطينيين، خصوصا فلسطينيي الداخل، ويجب أن يشاركوا فيه، وأن يشاركوا في انتخابات الكنيست ومجالس البلديات.
*الحقيقة الثانية، هي أن واقع الحال ينبئنا بأن دولة إسرائيل تتشكل اجتماعيا من نسيج متنوع، فيها أكثرية، كما أن فيها أقليات عرقية وثقافية ودينية مثل الدروز والمسيحيين والعرب (الفلسطينيين) و»اليهود الفلاشا» وغيرهم. هذه الأقليات تحتاج إلى نظام قانوني يحميها ويحافظ على حقوقها، ومن ثم فإن للأقليات، ومنهم فلسطينيو الداخل، مصلحة في المحافظة على نظام قانوني مستقر، يحفظ حقوق الأفراد على أسس المساواة بلا تمييز، ويحفظ مقومات الهوية الثقافية والدينية والقومية للأقليات، بعيدا عن طغيان الأغلبية. ولن تتحقق تلك المساواة من دون المشاركة في النضال، من أجل تأكيد قيم ومؤسسات المجتمع السياسي المدني، واحترام تنوع مكوناته. إن تغليب «الهوية الدينية» أو «تسييس» النظام القضائي يفتح الباب على مصراعيه لسياسات وإجراءات تمييزية، ستؤدي بكل تأكيد إلى جعل حياة الفلسطينيين أكثر شقاء وأشد مذلة. الآن هناك فرصة للنضال جنبا إلى جنب مع القوى الديمقراطية الأخرى من أجل نظام قانوني/قضائي يقوم على أسس الفصل بين السلطات، واستقلال القضاء، وحماية حقوق الأقليات، والحريات العامة، والتوازن في المصالح، والمساواة بين الأفراد، والاعتراف بالتنوع واحترامه.
*الحقيقة الثالثة، هي أن تعديل النظام القانوني باتجاه تغليب سلطة الحكومة على سلطة القضاء، يسلب حقوق الفلسطينيين في الضفة الغربية في مقاومة الاستيطان غير القانوني، والعجز عن المواجهة القانونية لإقامة مراكز استيطانية جديدة، بواسطة المستوطنين المتطرفين، كما يسلبهم القدرة على مواجهة الانتهاكات القانونية التي تقع يوميا. وعلى الرغم من أن هناك انتهاكات، وأن هناك حقوقا مسلوبة، فإن النظام القضائي الإسرائيلي، الذي يمكن أن يتطور إلى الأحسن بكل تأكيد يستطيع أن يلعب دورا مهما في ظروف سياسية متوازنة لحماية ممتلكات الأفراد وحقوقهم. على الأقل، يحتاج الفلسطينيون لذلك إلى حين التوصل إلى تسوية ناجحة للصراع؛ فليس من الضروري أن يعيشوا في شقاء، في انتظار تسوية ناجحة. المشاركة في الدفاع عن نظام قضائي غير مسيّس والمطالبة به لا تقل أهمية عن المشاركة في التصويت الانتخابي، خصوصا أن قيادات الصهيونية الدينية المتطرفة المشاركين في الحملة على النظام القضائي القائم، هم أنفسهم الذين يتبنون شعارات توسيع الاستيطان، وطرد الفلسطينيين. وهم الذين يقودون حاليا إدارة الملفات الأشد حساسية في حياة الفلسطينيين، مثل الأمن الداخلي والاستيطان والمالية والإشراف على التعليم.
إن الانقلاب القانوني الذي يريده تحالف «نتنياهو – سيموتريتش – بن غفير – آرييه ديري» غايته الأساسية هي نزع الطابع «المدني» عن قوانين الدولة ونظامها القضائي، بل إن بعض أطراف هذا التحالف يتساءل، تماما كما يتساءل غلاة السلفيين المسلمين: ولماذا يكون هناك قانون أساسي طالما أن لدينا «التوراة»؟ على اعتبار أن «التوراة» هي القانون الذي أنزله الله سبحانه وتعالى على موسى ليحكم بها بين الناس. نتنياهو يريد أن تخضع المحكمة العليا لسلطة الكنيست، وأن يضع كل السلطات بين يدي الحكومة باعتبارها تمثل الأغلبية المنتخبة، وألا تكون للمحاكم سلطة على قرارات الحكومة. هذه التعديلات وغيرها تؤدي كما ذكرنا إلى تهديد النسيج الاجتماعي، وتغليب السلطة التنفيذية على ما عداها، وتغييب مفاهيم المسؤولية الحكومية ومحاسبة المسؤولين، وإخضاع الفصل في الخلافات بين الأفراد والشركات لأهواء السياسيين. ولذلك ارتفعت أصوات من داخل مجتمعات المال والأعمال تحذر من هذا الانقلاب القانوني، وتطالب باتباع طريق متوازن لإصلاح النظام القضائي، كلما كانت هناك حاجة لذلك. كذلك فإن نتنياهو سمع تحذيرات في هذا الشأن من وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، خلال زيارته الأخيرة لإسرائيل، ومن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال زيارته هو إلى فرنسا. كما سمع التحذيرات نفسها أيضا من كثير من مؤسسات الاستثمار في العالم.

الرد الفلسطيني على نتنياهو

يجب أن لا نحمل القيادة الفلسطينية أكثر مما تحتمل.. ولا يوجد حتى الآن رد عربي على التحولات السياسية السريعة الجارية في إسرائيل منذ الانتخابات الأخيرة، التي أعادت الليكود بزعامة نتنياهو إلى الحكم محمولا على أكتاف اليمين الديني المتشدد واليمين الصهيوني المتطرف. وليس لدينا في الخطاب السياسي العربي ما يشير إلى إدراك خطورة هذه التحولات، أو ما يشير إلى أن هناك رغبة حقيقية في بناء رد فعل عربي ملائم. في هذا المناخ تتصرف السلطة الوطنية الفلسطينية. ويضاف إلى هذا المناخ بالقطع ضعف السلطة الوطنية الفلسطينية نفسها، وتآكل شرعيتها فلسطينيا منذ انتخابات 2006 التي أدت عمليا إلى انشطار قطاع غزة عن الضفة الغربية سياسيا، وخلق كيانين سياسيين بقيادتين مختلفتين، السلطة في الضفة، وحماس في غزة. ضعف السلطة أدى إلى تسلل نفوذ «حماس» و»الجهاد الإسلامي» إلى الضفة، وأصبحتا تنافسانها في مخيمات اللاجئين وبلدات ومدن الضفة الغربية. ويحتاج الفلسطينيون إلى تطوير موقف ناضج سياسيا يتجاوز حدود الخطب والشعارات التي تعيد إنتاج الماضي وتتجاهل الحاضر، من أجل تبنى شعارات عملية قابلة للتنفيذ، بدلا من شعارات «أفيونية» المزاج لا علاقة لها بالواقع، ولا قدرة لها على الاشتباك معه أو النهوض لتحديه.
كاتب مصري

 

disqus comments here