المسألةُ القوميّةُ في مرحلةِ العولمة: هل من جديد؟

إنّ القانون الذي تسير على هديه الرأسماليّةُ عمومًا، وفي طورها الإمبرياليّ خصوصًا، هو قانونٌ بسيط؛ لأنّه قانونُ الغاب القديم، فالأقوى هو الذي يفرض سيطرته، والضعيفُ يداسُ بلا شفقة، ولا إمكانيّة للاتّزان إلا إذا كانت القوّةُ متساويةً بين طرفي صراعٍ ما؛ وهكذا فإنّ النادي المضيق للدول المتطوّرة صناعيًّا وتقنيًّا وتجاريًّا لا يمكن أن يفتح أبوابه بسهولةٍ لأيّ وافدٍ جديد، كما أنّ الصّراع الداخلي على أشدّه بين أعضاء هذا النادي سواءً من أجل محافظة الذين أحرزوا على المراتب العليا على الترتيب الموجود، أو من أجل إعادة النظر في ذلك الترتيب من قبل الطامحين إلى ذلك. فهكذا مثلًا انتقل المركز القيادي من فرنسا وبريطانيا إلى "أمريكا" بعد الحرب الرأسمالية "العالمية" الثانية؛ وهكذا أيضًا أجبرت البورجوازيّة التركية بعد نهضتها وإقرارها لما يسمى "بالتنظيمات" على التخلّي بواسطة الحرب "العالمية" الأولى عن ملحقاتها كافّةً التي كانت تحتويها الإمبراطوريّة العثمانيّة، وكان الهدف هو الاستيلاءُ على تلك الملحقات من طرف البورجوازيتين الفرنسيّة والبريطانيّة؛ بغاية نهب الثروات، ولكن أيضًا بغاية بعث كيانٍ غريبٍ في المشرق العربي، حيث منابع الطاقة ومضائق التجارة وإقامته حارسًا دائمًا لمصالح الرأسماليّة التوسعيّة، فذلك هو الكيان الصهيوني الذي تمّ بعثه فوق أرض فلسطين على حساب شعبها الكنعاني العريق.

وفي هذا النطاق أيضًا أُجبرت البورجوازيتان الألمانية والإيطالية بعد لحاقهما بصورةٍ متأخّرةٍ بركب التوحيد القومي على عدم ممارسة التوسع الذي مارسته البورجوازيات السابقة، لما تعنّتتا إلى شتى أنواع الإذلال، أما البورجوازية اليابانية فقد ضُربت حركتها القومية وسُلّطت عليها محنة القنابل الذرية بهيروشيما وبناقازاكي ولم يقع القبول بها في نادي الأقوياء إلا بعد لعقها لجراح الهزيمة وتمكنها من تجاوز تلك المحنة الرهيبة وزحفها في نطاق المُظاهرة أي الإيهام بعدم تجاوز الموقع الذي أرادوه لها كأمة مستضعفة، بهدف اكتساب بعض القوة الاقتصادية والتقانية؛ ومع نهاية الحرب الباردة  تلك التي أعقبت الحرب الرأسمالية الثانية وقع السماح لألمانيا بعد ترويضها نسبيا بتجاوز وضع التجزئة الذي فُرض على شعبها لردح من الزمن، فتوحّد شرقها بغربها، ولكن بالمقابل وقع القضاء بتلك المناسبة على تجمّع الأمم والشعوب الذي كان يمثله الاتحاد السوفييتي بعد أن كان عملاقا بين العمالقة، وأخضعت الأمة الروسية، وهي نواة هذا الاتحاد، إلى قانون من هم أقوى منها وتمّ وضعها بغاية ترويضها أيضًا في مرتبة مترشحة لدخول نادي السبعة الكبار وذلك بإعطائها مكانة الملاحظ  في مرحلة أولى عند الاجتماع السنوي لهؤلاء "الكبار"، ثم وقع تمكينها في مرحلة ثانية من عضوية كاملة فأصبحت عضوا ثامنا ،فلما تمردت على شروط الترويض المفروضة عليها  وقع دفعها في مرحلة ثالثة خارج حضيرة من يسمون أنفسهم بالكبار، والتضييق عليها  ومحاصرتها بالقواعد العسكرية للحلف الأطلسي، فهذا ما يفسر حدة تناقضهم معها، وهي تعيش حربها مع أوكرانيا في مستهل العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، وهذا ما يوضح أيضا أسباب انكفاء هذه الأمة على خصوصياتها الأورثوذوكسية، وصياغتها بعد انتمائها سابقا  للاشتراكية لما يسمى بالنظريات الأوراسية.

أما بقية سكان الأرض فإن الرغبة موجودة لدى الدول الامبريالية المتنفذة في إبقائها بعيدة كل البعد عن أسباب القوة الاقتصادية والعسكرية، ومراقبتها عن كثب، وتهديدها بالتصادم معها فيما لو تجاوزت الحدود المضبوطة لتحركها، فهذا هو اليوم حال الأمم الصينية، والهندية، والإيرانية، والكورية (في جزئها الشمالي)، والفيتنامية، وهي أمم حضارية قديمة تمردت و لم ترض بوضعية الهوان المحددة لها إمبرياليا، فلهذا ناصبها المتنفّذون العداء أو عاملوها بكل توجّس، وما زلنا نتابع ما يمكن أن ينجر عن ذلك في شأنها.

ويبقى هناك مثال لا بد  من الوقوف عند تفاصيله ألا وهو مثال القومية العربية، فهذه القومية المتشكلة تاريخيا في أغلب أجزائها قد تعرضت منذ بداية يقظتها القومية  إلى شتى المؤامرات، فحركة التصنيع التي قادها في أربعينيات القرن التاسع عشر محمد علي باشا ب مصر قد ضُربت حال رغبتها في إيجاد عمق لها بالسودان التي هي جارتها على نهر النيل، وحال تفتيشها عن امتداد لها ببلاد الشام، أما دولة الوحدة العربية الجزئية التي رغب الإقطاعي المتعصرن الشريف الحسين في إقامتها في بعض أنحاء المشرق العربي والخليج  دون مصر والمغرب العربي ودون بعض أجزاء العراق بتحالف مع رجالات  حركة  الثورة العربية من البورجوازيين والتجار والوجهاء فقد تبدّدت كحلم بائس لاعتمادها على التناقض القائم بين السلطان التركي والاستعمار البريطاني لمحاولة تجسيد ذاتها؛ ومن المعروف هنا أنه سنة 1907 انعقد ما يسمى بالمؤتمر الاستعماري الذي قرر إيجاد حاجز بشري غريب يفصل الجزء الإفريقي عن الجزء الآسيوي من الوطن العربي وذلك باستجلاب فرق من اليهود من كافة أنحاء المعمورة وتوطينهم عنوة بفلسطين بعد طرد أهاليها وتهجيرهم منها بوحشية باسم حلم توراتي في العودة  إلى " أرض ميعاد "(!) لم، ولن يجد معتنقوه من الصهاينة ما سيعطيه دعامة واقعية أو يضفي عليه مشروعية ما.

وقد تغنينا هذه الإشارات عن المواصلة، ولكنه لا بأس من الإشارة بعجالة إلى الصعوبات المختلفة التي لاقتها التجربة المصرية بقيادة الزعيم القومي جمال عبد الناصر، وإلى التجربة العراقية التي قام بها الزعيم البعثي صدام حسين، عندما حاولا السير على درب التوحيد القومي لساكنة الوطن العربي، وهي صعوبات معروفة.

كل هذا يجعلنا نقف على أن الاعتداءات الاستعمارية للبورجوازيات القومية الأوروبية حال انتقالها إلى طور الامبريالية كانت بمثابة الصدمة العنيفة في الحياة الرتيبة للمجموعات البشرية التي بقيت متخلفة كثيرا عن المنجز الرأسمالي، كما كانت بمثابة العامل المُفَـرمل لجهود المجموعات القومية المتشكلة التي أرادت اللحاق بذلك المنجز.

وإنه بإمكاننا بهذه الصورة تقسيم المجموعات البشرية عند وقوع الصدمة الاستعمارية الرأسمالية إلى:

ـ مجموعات دموية بدائية في أدنى درجات تطورها،

ـ ومجموعات لغوية بصدد التشكل بهذه الصفة،

ـ ومجموعات لغوية بصدد التحول إلى مجموعات ثقافية تحت لواء عصبية غالبة،

ـ ومجموعات ثقافية بصدد التحول إلى مجموعات قومية متجانسة،

ـ ومجموعات قومية مستقرة وذات إسهام حضاري سابق طمحت إلى إدراك مرحلة الدولة ـ الأمة ومعانقة كافة مقتضيات التطور والتقدم في جميع الميادين التي فرضها نمط الإنتاج الرأسمالي عند انتصاره.

ولنا أن نتخيل هنا ردود الفعل لهذه المجموعات إزاء الصدمة الاستعمارية المسلطة على كياناتها ما بين الخضوع بمختلف درجاته والمقاومة بمختلف درجاتها كذلك.

وفي كل الأحوال فقد كان من نتائج هذه الصدمة الاستعمارية أن غَلى مرجل هذه المجموعات غليانا لا مثيل له، فالبورجوازيات الأوروبية الزاحفة بهدف "إقامة عالم على مثالها" استكمالا لحلمها العولمي المرسوم في جينات رأس المال اللاهث أبدا وراء الربح الفردي تُهدّد بالموت كل المترددين عن الانصياع لإلحاقهم بركبها؛ وهكذا تحركت كل المجموعات البشرية كلّ حسبما تمليه عليها درجة تطورها؛ وفي هذا النطاق طمحت المجموعات الثقافية القومية  المتشكلة بالخصوص إلى دخول الحداثة وتحقيق النّموّ بل إن النُّويات البورجوازية الموجودة صلبها قد ترشحت للقيام بحركة قومية رأسمالية  ولكن وقوع حركاتها في العصر الامبريالي جعلها تتعرض إلى قمع أحدث انحرافا في مسيرتها المستقلة ويسّر حسب ظروف المغالبة إخضاعها في حدود تصغر أو تكبر إلى السلطان الغاشم للأقوياء؛ أما بقية المجموعات البشرية وطبقا للتصنيف الذي أوردناه أعلاه فإن الامبريالية بمحاولتها خلق عالم على مثالها، قد أجبرتها  على معايشة الحضارة الرأسمالية بكامل بهرجها الصناعي والتجاري  وبكثافة نقاشاتها الفكرية وببريق اكتشافاتها العلمية واختراعاتها التقانية.

 وهكذا استفزّت الإمبريالية المشاعر الجمعية لكل المجموعات البشرية استفزازا رهيباـ كل واحدة حسب درجة تطورهاـ وفتّحت عيونها على مدى ما تعانيه من تخلف واضطهاد ودفعتها إلى استنفار ما هو متوفّر في قُدراتها الكامنة بغاية اللحاق بركب الحضارة الرأسمالية وردّ العدوان المسلط على كياناتها في حدود إمكانياتها.

وهكذا أيضا تكون المجموعات البشرية المتخلفة نسبيا أو كليا عن المدّ الرّأسمالي "الحديث" قد التحقت هي الأخرى بالعصر القومي "الحديث"، لأنه ليس العصر القومي الوحيد تاريخيا، ولكن من غير الباب الذي دخلت منه البورجوازيات الظافرة بالبلدان الأوروبية المتقدمة صناعيا وتجاريا وتقانيا: أي إنها تكون قد دخلته باعتبارها حركات قومية أو وطنية مقموعة، وبوصفها حركات تحرر من واجبها حرق المراحل التاريخية التي تخلفت عن إدراكها سابقا، فذلك ما يفسر نسبيا التعثر الملحوظ في خُطواتها.

وإذا كانت الامبريالية تفضل حسب الأحوال إما الإشراف  على الأمور مباشرة  ما استطاعت إلى ذلك سبيلا أو الاعتماد على وكلاء من الطبقات التقليدية  التي كانت متنفذة وتعصرنَت، أو من عناصر البورجوازية الصغيرة العميلة التي تدق على أبواب الثروة والجاه الطبقي، والذين تحولهم جميعهم إلى بورجوازيين كومبرادوريين وتتمكّن من التحكم في الأمور بواسطتهم من خلف الستار درءا لكل المقاومات التي يمكن أن تبرز ضدها، فإن مناهضة هذه الامبريالية ستؤول حتما في هذه الأحوال إلى جميع التشكيلات الاجتماعية التي لم تنخرط في المشاريع الامبريالية وخاصة تك التي تُعرّضها هذه المشاريع إلى الاضطهاد والاستغلال.

ويمكن للبورجوازية الوطنية ولو في تعبيراتها الدنيا أن تحصل على موقع القيادة، ولكن حركتها القيادية لا يمكن لها الانتصار حقا إلا ضمن شروط معقدة تنحو بها نحو الاستحالة (دون أن تكون مستحيلة تماما)، وذلك بفعل القمع الرهيب المسلط عليها بصفتها منافسة احتمالية، وهو ما يمكن أن يخلق لدى بعض مكوناتها ـ في صورة عدم النجاح ـ ميلا واضحا: إما نحو العمالة، وإما نحو التبقرط والانكفاء على الذات.

كما إنه من الممكن في ظل هذه الملابسات التاريخية أن تؤول القيادة إلى طلائع الكادحين  الذين بإمكانهم الانخراط في القيادة الفعلية لهذه المرحلة وأن يضفوا عليها من صدق التزامهم  الكثير، وهو الأمر الذي لا يتحقق إلا بوجود شرطين، أولهما هو عجز البورجوازية القومية أو الوطنية عن إنجاز المهام المطروحة، وثانيهما هو توفر قيادة جماعية تملك وضوحا نظريا كافيا، ومضاء نضاليا فاعلا، بحيث يكون بإمكانها قيادة هؤلاء الكادحين في جميع التعرجات نحو كافة  الأهداف المرحلية والاستراتيجية في نفس الوقت بدون أدنى خطأ في الحسابات.

فالقيادة القومية أو الوطنية في عصر الإمبريالية والعولمية تتمّ إذن بالمجهود المتضافر لطبقات متعددة تحصل إحداها على القيادة في هذا الظرف أو ذاك ولا تتم كما كان الأمر في أوروبا بقيادة البورجوازية الصاعدة وحدها.

disqus comments here