آن الأوان للتصدي لموجة الانقسام والتشرذم

في الوقت الذي يواجه فيه العالم تحديات معقدة ومترابطة، يسجل الميل المطرد نحو الانقسام والتشرذم حضوره بشكل يدعو أكثر فأكثر للقلق. لقد شهدت السنوات الفارطة انخفاضاً في مستويات التعاون العالمي. وقد أدى العاملان المزدوجان، وهما وباء «كوفيد-19» والأزمة الأوكرانية، إلى التسريع في هذا النسق. ووفقاً لتقرير المنتدى الاقتصادي العالمي حول المخاطر العالمية لعام 2023، فإن 4 من أصل 5 خبراء ينشطون عبر شبكات دولية متنوعة، يتوقعون حدوث تطورات غير متوقعة ومنتظمة على مدار العامين المقبلين.
كيف يمكننا إذن وقف موجة الانقسام والتشرذم هذه؟ علينا التحرك، وحالاً.
خلال الاجتماع السنوي للمنتدى الاقتصادي العالمي لسنة 2023 المزمع انعقاده في شهر يناير (كانون الثاني)، سيجتمع أكثر من 2500 قائد وزعيم لعدة حكومات وشركات ومنظمات المجتمع المدني؛ وذلك من أجل تقاسم وتبادل الأفكار، ورسم الخطوط العريضة للمخططات، وإبرام شراكاتٍ قصد مواجهة التحديات الأكثر إلحاحاً في العالم. بالنسبة لهذا العام، فإن الحاجة إلى رؤية مزدوجة تفرض نفسها بنفسها: بادئ ذي بدء، يجب علينا التفكير في مسألة كيف يتسنى لنا مجابهة الأزمات الراهنة التي تمس أركان العالم كافة، وفي الآن نفسه، كيف يمكننا وضع الأساس لخلق عالم أكثر استدامة وقدرة على الصمود بحلول نهاية العقد.
والأهم من ذلك هو أنه علينا أن نجد حلولاً جدية لمجابهة الأزمات المتعلقة بالموارد العالمية فيما يخص الطاقة والغذاء، علاوة على إيجاد حلول لمسألة ضيق الآفاق الاقتصادية. هناك حاجة ملحة للمضي قدماً، وإيجاد طرق لإعادة دفع عجلة النمو والتجارة والاستثمار في مواجهة هذه التيارات المعاكسة.
إن أزمة الطاقة الحالية تشكل تهديدات ذات آثار بعيدة المدى على الأسر والشركات وعلى الحياة السياسية، وكذلك الاقتصادية. وهاهم قادة وزعماء الدول اليوم في جميع أنحاء العالم يجدون أنفسهم أمام ضرورة اتخاذ قرارات صعبة حتى يوفروا مرفق التدفئة لمواطنيهم، وليضمنوا تواصل عمل المصانع على المدى القصير، في حين أنه يتعين عليهم كذلك مضاعفة الجهود فيما يتعلق بالتحول نحو صافي انبعاثات صفري، وفي الوقت ذاته المحافظة على تنافسية اقتصادات دولهم على المدى البعيد. ويهدد ارتفاع أسعار الطاقة من جانبه الأمن الغذائي؛ حيث زاد عدد الأشخاص الذين يواجهون خطر انعدام الأمن الغذائي الشديد إلى أكثر من الضعف منذ عام 2019. الأمر الذي ينم عن الترابط الذي لا مفر منه بين أنظمتنا الدولية.
وفي الوقت نفسه، سوف يدخل العالم برمته في رهان اقتصادي صعب خلال الأشهر المقبلة؛ حيث يخيم شبح ارتفاع نسب التضخم وضعف نسب النمو وارتفاع المديونية على الوظائف والشركات. وقد توصل تقرير حديث للمنتدى إلى أن أكثر من ثلثي المؤسسات الصغرى والمتوسطة، إضافة إلى الشركات المتوسطة الحجم، يكافح من أجل البقاء. في الوقت عينه، تدفع أزمة غلاء المعيشة المطردة الملايين من الناس حول العالم إلى براثن الفقر.
وبما أن الأزمات لا تأتي فرادى، فعلى الحلول أن تكون كذلك أيضاً. لقد بات من الضروري الآن الحفاظ على ديمومة تلك الديناميكية فيما يتعلق بالتحول الطاقوي، وإرساء أنظمة غذائية مستدامة تلبي احتياجات الناس الذين ما انفك عددهم يتزايد يوماً تلو آخر، وضمان حماية الفئات الأكثر عرضة للصدمات الاقتصادية. ولتحقيق هذه الغاية، يجب على صانعي السياسات متابعة الإصلاح السياسي، الذي يهدف إلى تعزيز الصمود والاستدامة الاقتصاديين مع معالجة نقاط الضعف النظامية التي كشفت عنها الأزمات الحالية.
إن تحديد الابتكارات الواعدة وتوسيع نطاق التقنيات الناشئة أمر بالغ الأهمية لتعزيز هذه الجهود. في السنوات الأخيرة، أعطى التقدم التكنولوجي أملاً لمجابهة العديد من التحديات التي تواجه عالمنا، لكن تطوره وتبنيه مقارنة باستعماله لم يواكب الطلب؛ إذ تقترح بعض المجتمعات على غرار مجتمع نيو شامبيونس (New Champions) ومجتمع تيك بيونيرز (Tech Pioneers) ومجتمع أبلينك (UpLink) بعض المخططات؛ بهدف الارتقاء ببعض الابتكارات والنهوض بها في ظل مجتمع مترابط.
وبالمثل، وإلى حدود الساعة، لا تزال القيادة المنهجية مفهوماً سهلاً بالكلام صعباً في التطبيق؛ إذ يعد التوفيق بين العديد من قطاعات الأعمال والعديد من مناطق العالم تحدياً معقداً، غالباً ما وجب رفعه في ظل ظروف تتسم بالتوتر الشديد ومتطلبات قد تبدو أحياناً متباينة. ولكن هذا التعقيد هو ما يستدعي اتخاذ إجراءات فورية؛ إذ يجب علينا اتباع مقاربة شاملة الهدف من ورائها تحديد وتطوير الحلول المناسبة، وإنشاء منابر للقادة تخول لهم مشاركة أفضل الممارسات والتعلم من بعضهم البعض من خلال النقاش البناء.
وقد يكون أحد هذه المجالات هو التوجه إلى خلق فرص عمل تدعم الاقتصاد المجتمعي الشامل، على غرار وظائف مقدمي الرعاية والعاملين في مجال الرعاية الصحية، علاوة على الوظائف التي تدعم الانتقال إلى اقتصاد أكثر اخضراراً، مثل وظائف المهندسين البيئيين. وفي الوقت نفسه، ومع تطوير التقنيات الحديثة للصناعات، يجب أن يكون هناك جهد عالمي للاستثمار في إعادة تأهيل العمال، والعمل على تطوير مهاراتهم قصد تحقيق الاستفادة الكاملة من الفرص الاقتصادية الجديدة، وتلبية متطلبات السوق المتزايدة.
لاستكمال هذه الجهود، يجب علينا إنشاء وتعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص. وتسعى الحكومات بشكل متزايد إلى عقد الشراكات مع المؤسسات للحصول على الخبرة والأفكار والمبادرات الكفيلة باستلهام أفكار كبرى وتجسيدها بطريقة سريعة وشاملة على أرض الواقع. فعلى سبيل المثال، يضم تحالف المحركين الأولين، الذي تم إطلاقه بالشراكة مع الرئيس الأميركي جو بايدن في عام 2021. في صفوفه شركات تنشط في 7 مجالات صناعية «يصعب التقلص من آثارها» -وهي صناعات الألمنيوم والطيران والكيماويات والخرسانة والشحن والصلب والشاحنات- ويعمل على تطوير وتأمين تقنيات منخفضة الكربون العام الحالي 2023.
إن إيجاد الحلول للمشكلات العالمية لا يمثل معادلة صعبة المنال؛ فمن خلال تكاتف وتضافر جهودنا يمكننا تجاوز العام الحالي بما ينطوي عليه من صعوبات بأمان، والاستثمار في مستقبل أفضل لنا جميعاً في الوقت نفسه.