مسيحيو القدس في خطر... تفاصيل جديدة عن استيلاء الجمعيات الاستيطانية على أملاك البطريركية الأرثوذكسية

 تخطى واقع انخفاض أعداد المسيحيين في الأراضي المقدسة التوقعات ولم يعد مجرد مخاوف يعبّر عنها رؤساء الكنائس ورجال الدين ودخلت القضية حقاً دائرة الخطر، الأمر الذي يحول الوجود المسيحي قاب قوسين أو أدنى  من معركة بقاء ... وبمعنى أخر "أن يكون المسيحيون أو لا يكونوا في القدس".

ووفقا لآخر الاحصاءات التي نشرتها "حملة حماية المسيحيين في الأرضي المقدسة"، يبلغ عدد المسيحيين الفلسطينيين حالياً في مدينة القدس نحو 30 ألفاً أي أقل من 1% من العدد الاجمالي للسكان، وهو ما يعتبر مؤشراً خطيراً ينذر بأنه خلال أقل من 100 عام سيختفي الفلسطينيون المسيحيون من القدس.

وحملة حماية المسيحيين في الأراضي المقدسة هي مبادرة مسكونية وثمرة تعاون بين بطريرك القدس ومجلس البطاركة ورؤساء الكنائس في المدينة المقدسة.

قبل نكبة عام 1948 كان الفلسطينيون المسيحيون يشكلون ما نسبته 11 في المئة من اجمالي السكان في فلسطين التاريخية على أقل تقدير، لكن بعد 75 عاماً من الاحتلال والتهجير القسري لا يشكل مجموع الفلسطينيين المسيحيين أكثر من 2 %، بعد السنوات الطويلة من الاحتلال وجراء الاستهداف الممنهج للفلسطينيين من مسيحيين ومسلمين في أكثر الأماكن قداسة في العالم.

ولعل أبرز أسباب هجرة المسيحيين من فلسطين بشكل عام والقدس بشكل خاص، الاحتلال نفسه، إضافة الى كون الاحتلال الإسرائيلي أحد أطول الاحتلالات خلال العصر الحديث في المنطقة، فقد اتبعت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة سياسة ممنهجة لتهجير السكان ودفعهم الى مغادرة البلاد سواء من خلال التضييق الذي تمارسه بشكل يومي على حركة الفلسطينيين ومنع دخولهم أو خروجهم من القدس، إضافة لنشر مئات الحواجز الثابتة والطيارة في محيط المدينة واحاطتها بجدار الفصل العنصري من النواحي كافة، فيما شكلت مجموعة القوانين والتشريعات المجحفة والتي يتم سنها بشكل مستمر، خصوصاً خلال السنوات الاخيرة في الكنيست الإسرائيلي، مثل قانون "يهودية الدولة" ومنع لم الشمل - الذي يفرق بين العائلات (هناك عائلات مقسمة بين الضفة الغربية ومدينة القدس) غطاءً قانونياً للتهجير، إلى أسباب اخرى جعلت الاجيال الشابة تفضل الهجرة طوعاً بحثاً عن الحرية وسبل العيش الكريم في بلد يحترم وجودهم ويوفر لهم فرص العمل من دون أي فروق أو تمييز.

كما أن التسهيلات التي وفرتها السفارات والقنصليات الاجنبية ميّزت في معاملتها المسيحيين عن غيرهم فمنحتهم حوافز أخرى للهجرة.

خلال العام الماضي وحده تم تسجيل أكثر من 50 اعتداء وجريمة كراهية ضد المسيحيين في مدينة القدس، حيث تعرض رجال الدين في الكنائس للاعتداء اللفظي والجسدي، وتعرضت الكنائس والمقابر المسيحية للحرق المتعمد والتخريب والتدنيس والتكسير، كان آخرها الاستيلاء على أرض الحمرا في سلوان الاسبوع الماضي، والاعتداء على أكثر من 30 قبراً الاحد الماضي أي في اليوم الاول من العام 2023، في مقبرة البروتستانت التاريخية التابعة للكنيسة الاسقفية الواقعة على جبل صهيون داخل أسوار البلدة القديمة، وذلك من قبل المستوطنين الذين يعتمرون القلنسوات على رؤوسهم وكان التاليت واضحاً تحت ملابسهم وفق ما أظهرت كاميرات الحراسة في المكان، وقاموا بتحطيم شواهد 30 قبراً عن قصد وتكسير الصلبان بلا هوادة، ومن بينها ثلاثة قبور تابعة لضباط شرطة فلسطينيين وتمثال نصفي للأسقف البروتستانتي الثاني في القدس صموئيل غوبات. ويضاف إلى ذلك العنف الجسدي والتمييز ضد الحجاج والمصلين والتضييقات السنوية التي أصبحت منهجاً متكرراً موسعاً خلال الاعياد خاصة في أسبوع الآلام وعيد الفصح.

وفي ظل سياسة التجاهل وغض النظر التي تتبعها الحكومة الإسرائيلية وشرطتها تجاه منفذي الهجمات من الفتية والشبان المتطرفين العنصريين التابعين لجماعات المستوطنين المنظمة، فإنه لا تتم محاكمتهم أو معاقبتهم بشكل منصف أو عادل، ويتم التحفظ على القضايا والتحجج دائماً بأنهم إما مصابون بالجنون وأمراض نفسية اخرى أو فاقدون للأهلية.

تعزيز الوجود اليهودي على حساب المسيحيين

لعل أحد العوامل التي ساهمت أيضاً في تعزيز الوجود اليهودي على حساب الفلسطينيين المسيحيين، هو وجود جمعية عطيرت كوهانيم "تاج الكهنة" الاستيطانية، التي يمكن اعتبارها من أكبر المنظمات الاستيطانية وأشدها تطرفاً في مدينة القدس، والتي تأسست عام 1978 على يد التيار اليميني المتشدد ويديرها حالياً المتطرف متتياهو دان المعروف بـ"ماتي دان"، وهي من أكثر الجمعيات تنظيماً ولديها تمويل مالي جيد. ومن أبرز داعمي المنظمة الملياردير اليهودي من أصل أميركي أيرفينغ موسكوفيتش وزوجته.

وعلى مدار السنوات الـ 44 الماضية تحول ماتي دان إلى عرّاب الاستيطان في البلدة القديمة، زارعاً الخوف والرعب في قلوب السكان بعد عمليات استحواذ عدة طالت ممتلكات مسيحية في مناطق رئيسية ومواقع استراتيجية، إضافة الى تعاونه مع منظمة ألعاد المتطرفة التي ينحصر عملها خارج أسوار البلدة القديمة، وتحديداً في منطقة سلوان أحد أهم الاحياء الواقعة جنوبي الحرم القدسي الشريف.

لا تخفي "عطيرت كوهانيم" نواياها أو أهدافها الاستيطانية المبيتة، فالمتصفح لموقعها الالكتروني في امكانه قراءة ذلك بكل وضوح: "كونوا شركاء في بناء القدس"، حيث تعمل هذه الجمعية على مستويات عدة لتعزيز الاستيطان اليهودي وفرض السيادة في القدس، ورفع قدسية ووحدة حائط البراق،

"ولتحقيق ذلك نعمل مع المسؤولين الحكوميين، بل أكثر من ذلك نقوم بجولات لعامة الناس ولصناع القرار، كما نعمل على تعزيز الأمن وحوكمة دولة إسرائيل في البلدة القديمة".

 

لم يتوان دان طيلة السنوات الماضية عن استخدام كل الأساليب المتاحة والرخيصة التي تتبعها عصابات المافيا عادة، للحصول على مبتغاها ولتحقيق أهدافها من العمليات التي تقوم بها، وهي تنوعت بين زرع عملاء لدى الخصوم، ودفع الرشاوى واستخدام أسماء وهمية ونساء للجنس - لكنه كان يشدد دائماً على عدم احضار أي فتاة يهودية، إضافة الى الافراط في توفير حبوب الفياغرا.

كما قام بتسجيل كل المحادثات واللقاءات بينه وبين من ساهموا في تسريب الاملاك من الفلسطينيين ليعاود تهديدهم وابتزازهم بفضحهم فيما بعد وذلك بتشويه سمعتهم للحصول على تنازلات عن املاكهم وبيعها للجمعية. وهكذا استغل طلاب الحاخام شلومو أفيتار الدين لتحقيق الاهداف الاستيطانية والتغطية على المحرمات الدينية.

تمكّن دان بكل بساطة، من خلال علاقاته الواسعة داخل اليمين المتطرف الإسرائيلي ومع مسؤولين كبار داخل الحكومة الإسرائيلية من وزراء وموظفي الدولة وأعضاء كنيست، وداخل جهاز القضاء للضغط على القضاة، وفي بلدية القدس، وبدعم لا محدود من مكتب رئيس الوزراء، من المساهمة في بناء دولة المستوطنين حيث تحوّلت هذه العصابات إلى دولة داخل الدولة، وعبر الطرق السالفة الذكر استطاع الاستيلاء على أملاك الفلسطينيين من مسلمين ومسيحيين، أو الحصول عليها بعد اصدار حكم قضائي يثبت أنها كانت بملكية يهودية في الماضي، ولذلك يستعين دان لتنفيذ صفقاته بمكتب محاماة يديره محامي المستوطنين المعروف ايتان غيفاع.

وبهذه الطريقة بات يسكن في البلدة القديمة في القدس نحو 1000 مستوطن يحتاجون لحراسة أمنية مشددة بمجرد خروجهم من منازلهم، وبتمويل كامل من وزارتي الدفاع والامن القومي لطاقم الحراسة الذي يعمل ليل نهار على توفير الأمن والحماية لهم. ولا يخفي دان كرهه للأخرين الغرباء "الغوييم" من غير اليهود، لكنه لا يفوت أي فرصة لاستغلال أي تحالف أو اتفاقيات معهم لتحقيق مآربه.

 

وقبل سنوات، نشرت صحيفة "هآرتس" العبرية بعضاً من التسجيلات المسربة التي استخدمها دان لابتزاز عدد من الفلسطينيين للحصول على املاكهم، وهو الاسلوب ذاته الذي اتبعه للحصول على "فندق البترا" في ساحة عمر بن الخطاب التابع للبطريركية الأرثوذكسية، تمهيدا للاستيلاء على العقارات المسيحية في منطقة باب الخليل وبقية أملاك البطريركية فيما بعد.

وبحسب ما ورد في التسجيل "روى أحد الفلسطينيين الذين تم ابتزازهم، أنه وبعد أن بنى بيتاً له في مدينة القدس أخذه دان الى الولايات المتحدة وزارا الكازينوات والملاهي الليلية، وأحضر له دان بائعات هوى، وفي احدى الليالي تركه دان مع بائعات الهوى وخرج، في الوقت الذي كان مستوطنون من "عطيرت كوهانيم" يقومون بمداهمة منزله وطرد عائلته بحماية الشرطة الإسرائيلية مستخدمين التسجيلات لتهديده".

وفي تسجيل آخر "ظهر صوت المحامي ايتان غيفاع وهو يشرح كيفية التوجه لأبناء صاحب عقار في القدس: "ثمة طريقتان لفعل ذلك إما التنازل لنا عن العقار في السر وينتهي الموضوع، أو تتجهون الى المحكمة ويتم فضح والدكم ويعرف الجميع أنه كان يفعل ذلك من أجل اليهود بسبب تعاونه معهم. هناك طريقتان اما بالهدوء أو بالشوشرة لكن الأفضل لكم أن يتم ذلك في السر".

محامون ومستوطنون فوق القانون لتنفيذ المؤامرات

وقال المحامي أسعد مزاوي المستشار القانوني لبطريركية الروم الأرثوذكس في القدس، إن "مشكلة ماتي دان مع المسيحيين هي أنهم يملكون عقارات داخل البلدة القديمة في القدس، ووفقاً لمعتقداته الدينية فإن هذه العقارات بحسب التوراة مكتوبة له، ولا ينبغي وجود جهات اخرى غير يهودية فيها".

وأضاف مزاوي: "يشعر دان بأن حقه الكامل والطبيعي هو أن يأخذ هذه العقارات وأن ينتزعها من أصحابها المسيحيين كونه يهودياً".

وأشار مزاوي إلى أنه "من المهم الانتباه إلى نقاط عدة لمعرفة كيف قام المستوطنون بالتخطيط والتحضير المسبق للاستيلاء على أملاك الكنيسة في البلدة القديمة، حيث أظهرت الوثائق التي حصلنا عليها أنهم عملوا لتحقيق ذلك بالاتفاق مع إيرفينغ موسكوفيتش صاحب البصمات الكبيرة.

فكل العقود التي تم من خلالها الاستيلاء على أملاك البطريركية جهزها المحامي ايتان غيفاع منذ البداية، اضافة الى الشركات المسجلة والتي تدعى "ملاجئ ضريبية" حيث يتم التهرب من الضرائب وغسل الاموال من دون حسيب أو رقيب. 

ووقع غيفاع العقود عن المستوطنين، فيما شريكه في المكتب، ياعكوف ميرون هو كاتب العدل الذي صدّق كل العقود والوثائق. أما من يقف خلف كل التسريبات والصفقات، فهو محاسب البطريركية اليوناني ذو الاصول اليهودية، نيكولاس باباديموس الذي حصل على وكالة عامة.

والمثير للانتباه أن ياعكوف ميرون هو من صادق على الوكالة العامة التي قدمها البطريرك أيرينيوس لباباديموس، وقد تم التخطيط لهذه العملية بين ايرفينغ موسكوفيتش وماتي دان وتيد بلوفيلد وايتان غيفاع منذ العام 1996 وذلك بعد أن استأجروا غرفة في أشهر فنادق القدس "الأميركان كولوني"".

وأوضح مزاوي "أن ماتي دان وايتان غيفاع استغلا ضعف البطريرك ايرينيوس ووجوده في القدس لما يقارب الثلاث سنوات من دون اعتراف الحكومة الاسرائيلية به، وما أظهرته الوثائق هو أن باباديموس حصل على وكالة عامة من البطريرك في شهر نيسان (ابريل) عام 2004، وفي شهر حزيران (يونيو) من العام نفسه اعترفت إسرائيل بإيرينيوس بطريركاً للقدس، وفي شهر أب (أغسطس) من ذلك العام تم تنفيذ صفقة باب الخليل".

وقال مزاوي أنه "عندما تم كشف صفقة باب الخليل كان المستوطنون يستهدفون كل عقارات البطريركية، حيث كان توقيت كشف الصفقة سيئاً جداً بالنسبة لهم، فقد كان هناك فلسطينيون شرفاء على دراية بما يدور خلف الكواليس فقاموا بزرع محققين داخل جمعية عطيرت كوهانيم، تمكنوا من الحصول على الوثائق والمستندات وبالتالي كشف المستور، فطلب المستوطنون تأجيل النشر شهراً واحدا وكانوا على استعداد لدفع الملايين مقابل عدم كشف مخططاتهم ونشرها في صحيفة "معاريف" الاسرائيلية.

كما كشفت التحقيقات عن أشخاص متآمرين سهلوا حدوث هذه التسريبات".

 

وختم مزاوي أن استهداف البطريركية بدأ منذ عام 1990 بعد شراء دير مار يوحنا (نزل سانت جون) من المستأجر المحمي مرديروس مطوسيان الذي هرب الى الولايات المتحدة، وهو عقار كبير يتكون من 53 غرفة ومساحته 1600 متر مربع، وتملكه بطريركية الروم الأرثوذكس في قلب الحي المسيحي.

وكان المستوطنون يعرفون أن صفقتهم باطلة لذلك وخلال صفقة باب الخليل التي شملت فندقي "البترا" و"الامبريال" ومبنى المعظمية وثلاث أراض في سلوان، أعادوا شراء دير مار يوحنا، حيث سمح لهم وجودهم في العقار بإنشاء مدرسة دينية يهودية داخل الحي المسيحي".

disqus comments here