رئيس الصين في الشرق الأوسط.. الأخطر ما بعد الزيارة (1)

وسط الضجيج الرياضي الغير مسبوق الذي تشهده عاصمة خليجية تنبض بالحيوية والحركة والازدهار (الدوحة عاصمة قطر) جاءت زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ الاسبوع الماضي للمنطقة واجتماعه مع القادة السعوديين والخليجيين والعرب في العاصمة الخليجية الاكبر والأهم والرائدة عربياً "الرياض" التي حفرت لنفسها مكاناً مميزاً في صدارة المشهد العربي مما جعلها قبلة لأهم الساسة في العالم والشخصيات الدولية النافذة بما فيهم رؤساء أكبر دول العالم.
زيارة الرئيس الصيني للشرق الأوسط سيكون لها اثرها البالغ في رسم شكل المنطقة ونقطة تحول جديدة في تاريخ علاقات الصين مع دول المنطقة كما أشار الرئيس شي جين بينغ في كلمته أمام القمة العربية الصينية يوم الجمعة التاسع من ديسمبر الجاري, بالفعل كانت الزيارة بمثابة "بركان سياسي" انفجر في الرياض وانتثر غباره في كل مكان حوله وسيكون له بالقطع اثار عميقة وجوهرية على محيطه العربي في المستقبل.
أهمية زيارة الرئيس الصيني الاستثنائية تكمن في توقيتها من جهة وفي نتائجها من جهة أخرى.
من حيث التوقيت, جاءت الزيارة بعد بضعة أشهر على زيارة مشابهة قام بها الرئيس الامريكي جو بايدن للمنطقة قبل اشهر والتي لم تحقق النجاح الذي حققته زيارة الرئيس جين بينغ, بل وصفت معظم وسائل الاعلام الأمريكية زيارة بايدن بالمخيبة للامال سواء من حيث الاستقبال أوالترتيبات أو النتائج, فلم يحظ الرئيس الامريكي بنفس الاستقبال المبهر الذي حظي به سلفه دونالد ترامب, ولا بالاستقبال المميز الذي حظي به الرئيس الصيني, وهذه اشارات تعكس حالة الجفاء التي تخيم على العلاقات السعودية الامريكية بسبب بعض التصريحات الغير اللائقة التي صدرت عن بعض رموز الادارة الديمقراطية الحالية التي تقطن البيت الابيض وفي مقدمتهم الرئيس بايدن علاوة على سحب الاخير بعض انظمة الدفاع الجوي مؤخراً بدون تنسيق مسبق مع دول المنطقة, وربما كان كل ذلك وغيره هو ما حث القيادة السعودية على الالتفات شرقاً بغية تنويع تحالفاتها وشراكاتها وبالتالي مصادر دخلها مما يحقق مصالحها العليا وفقاً لرؤية 2030.
كذلك الصين لها مشروعها, وهو يتمثل في سعيها الحثيث لتبؤ المكانة العالمية التي باتت تستحقها عالمياً اقتصادياً وتكنولوجياً وحتى عسكرياً بالاضافة الى شروعها بالشراكة مع روسيا ودول اخرى في العمل على بناء عالمي جديد متعدد الاقطاب مما يعني مستقبل جديد لهذا العالم الذي نعيش فيه, وهذا ما تعارضه بكل قوة الولايات المتحدة الأمريكية, لأن هذا المشروع يعني ببساطة تحرر العالم من الهيمنة الامريكية المنفردة عليه وتخليصه من تداعيات هذه الهيمنة من تبعية وذل ونهب الثروات واستعباد الشعوب وتنفيذ الاملاءات ومسخ الشخصيات وغير ذلك.
حاولت الولايات المتحدة في بداية الزيارة التظاهر بأنها غير آبهة بها, ولكن لم تتمالك نفسها رؤية حليفتها الاستراتيجية تاريخياً ومعها المنطقة التي كانت طول عمرها تعتبرها منطقة نفوذ أمريكي بامتياز, بل تنظر اليها على انها حديقتها الخلفية وأهم اسواقها وتدور في فلكها وتستأثر بثرواتها منذ حوالي 8 عقود, وفجأة ترى حليفتها التقليدية وباحتها الخلفية تفتح ذراعيها لخصمها الصيني اللدود وتستقبله استقبالاً حاراً لم يحظ به رئيسها هناك قبل اشهر, وتبرم معه العديد من المعاهدات والشراكات وتعقد معه عشرات الصفقات بعشرات مليارات الدولارات والتي كانت حتى وقت قريب حكراً عليها دون غيرها..!
واشنطن تدرك أن قمم الرياض لها ما بعدها وخصوصاً انها تأتي كما أشرنا بعد جفاء ملحوظ شاب العلاقات الامريكية السعودية سببه في رأي الكثير من المحللين التصريحات الاستفزازية التي أطلقها المسؤولون الامريكيون وخصوصاً الديمقراطيين والتي كانت تفتقر للدبلوماسية واللياقة والكياسة واحترام الحلفاء والشركاء, وكذلك إخلال الامريكيين بالكثير من التزاماتهم وتعهداتهم تجاه المنطقة وخصوصاً السعودية, كل ذلك وغيره كان دافعاً للقيادة السعودية للعمل على تنوع تحالفاتها وشراكاتها لضمان مصالحها وامنها وشموخ رموزها وقياداتها اضافة إلى أن هذا التوجه يحقق الاستقرار والامن في ارجاء العالم نتيجة التوازن الدولي بين الشرق والغرب الذي اختل بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي مطلع التسعينات وانفراد الولايات المتحدة بالسيطرة على العالم.
لم تستطع واشنطن (رغم المحاولة) ابتلاع ما جري في الرياض رغم عدم عقد أي شراكات او اتفاقات بين الصين والسعودية في المجالات الحساسة كقضايا الدفاع والاتصالات التي تعتبر بمثابة خط احمر امريكي نظراً لضخامته ولادراكها لما سيترتب عليه مستقبلاً, فقامت في نفس يوم زيارة الرئيس الصيني للرياض بفرض عقوبات على شخصيات وكيانات صينية, شبهها مراقبون بالحركات البهلوانية التي لا فائدة منها رغم ان شكلها براق, في حين انها لا تستطيع فعل أي شئ للرياض لأن الاخيرة تملك الكثير من الاوراق التي تدرك الادارة الامريكية قوتها وخطورتها وتحسب لها الف حساب.
لذا قررت كلا من الصين وروسيا (وبمشاركة غير مباشرة لعدد اخر من الدول) تسخير كافة امكانياتهما الاقتصادية والعسكرية والسياسية والتكنولوجية لهذا المشروع الضخم رغم التحديات الكبيرة التي تواجه هذا القرار الذي يهدف الى بناء نظام عالمي متعدد الاقطاب.
الأداء السياسي الخليجي والعربي الموحد الذي نظمته وقادته السعودية خلال الأشهر الماضية يمكنه ان يقود الى تبلور كيان عربي قوي يكون رقماً مهماً في المعادلة الدولية المتفاعلة في اليوم, بل يستطيع ان يجد لنفسه مقعداً متقدماً وربما قطباً في النظام العالمي التي تسعى اليه كلاً من روسيا والصين واللتان تباركان هذا التوجه بل تدعماه بقوة كما لاحظنا في السنوات القليلة الماضية وكان الدعم الصيني الروسي للطموح العربي أكثر وضوحاً خلال الاتصالات العربية الصينية والعربية الروسية مؤخراً, والمشجع في الامر ان القطبين الاسيويين اكدتا بما لا يقبل مجالاً للشك "ان العرب هم حلفاء وشركاء لهم ما لنا وعليهم ما علينا وندعم قضاياهم الوطنية ومصالحهم العليا",وليس كما تنظر اليهم الولايات المتحدة انهم مجرد رعاع اتباع تملي عليهم ارادتها اعملوا هذا ولا تعملوا ذاك, وتضرب بعرض الحائط بمشاعرهم الانسانية بالاقدام على اهانتهم بكل اريحية ولا تتردد في تجاهل أمالهم الوطنية والاصطفاف الى جانب عدوهم بكل قوة وتمكينه من ارواح اخوانهم في فلسطين ونهب اراضيهم وتدمير بيوتهم وانتهاك مقدساتهم وتهويد مدنهم وقراهم بل وصلت بها الغطرسة ان يجبروا بعض دولهم اقامة علاقات مع الكيان الصهيوني الغاصب العدو الازلي للعرب والمسلمين وبدون ان يرف لها جفن.
الغطرسة الأمريكية التي يبدو أنها تلفظ انفاسها في العالم العربي دفعت الأمريكان لمعاملة العرب وكان لا وزن ولا قيمة لهم, ففي الوقت الذي يستأثرون فيه بخيرات العرب وثرواتهم ويصرفون جل بضائعهم وصناعاتهم في اسواقهم ويحتفظوا بمليارات الدولارات من اموالهم في بنوكهم وشركاتهم واسهمهم, نجدهم ينصرون عليهم عدوهم جهاراً نهاراً ويمدونه بكل اسباب القوة والبقاء لضمان تفوق هذا العدو الغاصب على جميع العرب مجتمعين...مقاربة عجيبة غريبة عصية على الفهم لا تمت للمنطق بأدنى صلة....منتهى القهر....إنها العنجهية الامريكية المقرفة التي ان لها ان تلقى في مزبلة التاريخ...حسبي الله ونعم الوكيل.
في المقابل ابدت كلاً من الصين وروسيا (عرابتا مشروع النظام الدولي متعدد الاقطاب) تفهماً كاملاً للتطلعات العربية بما فيها الانسانية والوطنية والسياسية, بل شجعتا بقوة انخراط العرب مجتمعين (بعكس الولايات المتحدة التي كانت تمنع بقوة أي مبادرات توحيدية عربية وتحرص على بقاء العرب متفرقين كما هو عليه اليوم وفق سياسة فرق تسد) في المشروع وتبوؤهم المكانة التي يستحقونها, والعرب في هذا العصر يستحقون الكثير وان حاولت الولايات المتحدة التشويش على امكانياتهم وقدراتهم بغية ابقائهم تحت عباءتها وامتصاص خيراتهم والتصرف في مقدراتهم, ولكن يبدو ان القطار العربي انطلق ولن يتوقف الا في محطة دولية جديدة يجد فيها كرامته ومصالحه وتطلعاته.
هذا السيناريو الوردي قابل للتحقيق وخصوصاً في ظل الظروف الدولية الراهنة ووفقاً للامكانيات الاقتصادية الهائلة التي تملكها الدول العربية وخصوصاً الدول الخليجية وعلى رأسها السعودية وكذلك النفوذ السياسي المؤثر التي اصبح لهذه الدول حول العالم.
السؤال الذي يتبادر الى الذهن, هل ستفرط الولايات المتحدة بالدجاجة التي تبيض لها ذهباً طيلة عشرات السنين بهذه السهولة, وهل ستسمح للدول العربية بالاستقلال بقرارها الاقتصادي والسياسي والأمني والإفلات من قبضتها وهل ستسمح للصين وروسيا خصماها اللدودان بالتمدد داخل مناطق نفوذها.....وهل الصين وروسيا راغبتان في التصدي للولايات المتحدة ان استوجب تواجدهما في الشرق الاوسط ذلك....؟؟, واذا رغبتا في ذلك......والسؤال الأخطر هل هما قادرتان على ذلك...؟؟؟
الاجابة على هذه الاسئلة الجوهرية (تفادياً للاطالة) ستكون هي موضوع المقال القادم إن شاء الله.
آخر الكلام:
يقول العرب "الكتاب واضح من عنوانه", زيارة الرئيس الصيني للمنطقة صاحبها فأل طيب, نعم تزامنت الزيارة مع الاعلان عن الميزانية العامة للمملكة العربية السعودية ومن حسن الطالع انه كان هناك فائض مالي في هذه ميزانية 2023 يزيد عن 9 مليار ريال كما اعلنت وزارة المالية في بيان لها نشرته يوم وصول الرئيس شي جين بينغ الى الرياض, في حين انه صاحب زيارات الرؤساء الامريكيين للمملكة (باراك اوباما ودونالد ترامب وحتى جو بايدن) ميزانيات عانت من عجز مالي وبمالغ كبيرة, اضف الى ذلك انها (الزيارة) تزامنت مع تقديم المنتخب المغربي في تصفيات كأس العالم 2022 في قطر اداءاً تاريخياً مبهراً ليكون الفريق العربي المسلم الوحيد الذي يصل الى المربع الذهبي.......اما في ذلك الزمن الامريكي غير الميمون فكانت المنتخبات العربية تغادر من الدور الأول أو بالكثير من دور 16.
أغلب الظن أن أحوال العرب ستكون في ظل علاقات عربية صينية أفضل منها في ظل علاقات امريكية عربية.
لأن أمريكا ببساطة تتقن فن القتل وثقافة الموت وتصدر ادواتهما لكل مجرمي الكرة الارضية وهي تخلف الدمار أينما حلت, وتاريخها الدموي الحافل خير شاهد على ذلك, في حين ان ثقافة الصين رغم عراقتها ليس لها هذا المستوى من الاجرام والدموية التي تنفرد بهما أمريكا.